تقول أروى صالح: “خصوصية المأساة عند جيل خاض تجربة التمرد، أنه مهما كان مصير كل واحد من أبنائه، فإنه شاء أم أبى لا يعود أبدًا نفس الشخص الذي كان قبل أن تبتليه غواية التمرد، لقد مسه الحلم مرة، وستبقى تلاحقه دومًا ذكرى الخطيئة الجميلة، لحظة حرية لا تكاد تحتمل لفرط جمالها”.
في 28 من يناير 2011 هاجمتنا الشرطة في أثناء التوجه لميدان التحرير، واستخدمت الغاز المسيل للدموع من أجل تفريقنا، وقتها جاهدنا كثيرًا كي نساعد بعضنا البعض باستخدام المياه الغازية، كانت الشوارع مليئة بالثوار وكان الدخان الكثيف يسيطر على المشهد، اختبأنا داخل الأبنية، ركضنا بين الأزقة الضيقة والشوارع، انقطعت الاتصالات الهاتفية وعشنا لحظات لن تُنسى من الخوف والرعب والسعادة والحرية، وقتها فكرت: هل ستتمكن السينما من نقل هذا الزخم إلى الشاشات؟ هل سيرى من لم يصدق حلم الحرية ما حدث في ميدان التحرير يومًا ما؟ كيف سيتفاعل الجمهور مع تلك القصص؟ كيف سينقل المخرجون تلك الصورة المليئة بالمعاني والمشاعر والأفكار؟
وفي الذكرى التاسعة لثورة يناير 2011، نستعرض تجسيد السينما المصرية لثورة يناير على الشاشات، فهل نجحت في ذلك؟
المرحلة الأولى: أفلام غير ناضجة سينمائيًا لأنها صُنعت على عجل
كان فيلم “18 يوم” من أول الأعمال السينمائية التي حاولت رصد ثورة يناير، ويجسد هذا الفيلم تجربة سينمائية استثنائية للغاية، إذ يقدم 10 قصص مختلفة دارت أحداثها خلال ثورة 25 يناير وكل قصة تحمل عنوان مختلف، شارك في كتابة هذا العمل السينمائي خمسة كتاب وهم: تامر حبيب وشريف عرفة وأحمد حلمي وبلال فضل وعباس أبو الحسن، أما الإخراج فقد شارك فيه شريف عرفة وكاملة أبو ذكري ومروان حامد وشريف بندراي ومريم أبو عوف، والفيلم من بطولة النجم أحمد حلمي ومنى زكي وآسر ياسين وهند صبري وعمرو واكد.
عُرض هذا الفيلم للمرة الأولى خلال مهرجان كان السينمائي وحظي بحفاوة استثنائية لأنه يتحدث عن الثورة المصرية، ولم يعرض الفيلم في مصر إلا مرة واحدة وذلك خلال فعاليات مهرجان الإسماعيلية السينمائي للأفلام التسجيلية عام 2013، ومن المثير للغرابة أن الفيلم حتى كتابة هذه السطور لم يُعرض جماهيريًا أبدًا حيث رفضت الرقابة عرضه رفضًا قاطعًا ولم يشاهده الجمهور إلا من خلال نسخة رديئة مسربة على الإنترنت خلال عام 2017، ورغم كل الهالة التي ظلت محاطة بالفيلم الذي طال انتظاره، فإنه لم يقدم الثورة كما يجب، فهو مجرد لقطات تسجيلية وضعت بجانب بعضها البعض.
أما فيلم “الشتا اللي فات” للمخرج إبراهيم البطوط الذي ظهر للنور خلال عام 2012 فيحكي عن الثورة المصرية من منظور المعتقلين، فبطل الفيلم “عمرو” اعتقله أمن الدولة خلال عام 2009 بسبب مشاركته في المظاهرات ضد العدوان الإسرائيلي على غزة، ويخرج عمرو من المعتقل بعد فتح السجون ولكنه يخرج شخصية مهزوزة وخائفة للغاية من الاشتراك في أي عمل ثوري، ينتهي الفيلم بمشهد بيان التنحي الذي أذاعه عمر سليمان وهنا يقرر البطل هزيمة خوفه والنزول لميدان التحرير.
جاءت معظم شخصيات الأفلام كنماذج تحمل أفكارًا جاهزةً مفككةً لا تملك أي عمق
وفي فيلم “بعد الموقعة” تناول المخرج يسري نصر الله الثورة المصرية من وجهة نظر الفلول المعارضين للثورة، وذلك من خلال سكان منطقة نزلة السمان الذين يقطنون بجانب الأهرامات وقرروا يوم 2 من فبراير 2011 اقتحام ميدان التحرير بالخيل والبغال والجمال في محاولة لإخلاء الميدان من المتظاهرين أملًا منهم في عودة السياحة إلى سابق عهدها قبل اندلاع الثورة، وراح ضحية هذه الموقعة 11 قتيلًا وأكثر من 200 مصاب، حيث الفيلم ركز على معاناة المصريين البسطاء الذين يعانون من الجهل والفقر وقلة الوعي وكل همهم لقمة العيش فقط.
اتسمت أفلام تلك المرحلة بالمباشرة الفجة واللهاث وراء الحدث ووجهة النظر القاصرة في معرفة وتحليل طبيعة الشعب المصري، إذ جاءت معظم شخصيات الأفلام كنماذج تحمل أفكارًا جاهزةً مفككةً لا تملك أي عمق كما لا يوجد أي تطور للشخصيات بسبب ثورة يناير.
المرحلة الثانية: ثورة يناير في خلفية الأحداث
على عكس المرحلة السابقة التي كانت ثورة يناير فيها تجسد قلب الحدث والبطل الرئيسي، فإن أفلام هذه المرحلة تحكي عن الثورة المصرية كبطل يأتي في خلفية الأحداث، يؤثر ولكن بشكل غير مباشر ومن أهم أفلام هذه المرحلة فيلم “القط” الذي أخرجه إبراهيم بطوط عام 2014 ويتناول الفيلم قصة الفراغ الأمني الذي حدث في مصر بعد الإطاحة بنظام مبارك حيث انتشرت تجارة الأعضاء البشرية لأطفال الشوارع، ومع مرور الأحداث يتورط المخرج في الابتعاد عن قصته الأصلية وذلك في سبيل الإبهار البصري الذي يستخدمه لتصوير عالم الشر السفلي الذي يجسده تجار الأعضاء.
ذِكر الثورة على استحياء في الفيلم أفقد العمل الكثير من زخمه وقوته
عام 2015 انقسم الشارع المصري تجاه الثورة: فمنهم من كان يرى أنها سبب كل الخراب الذي حدث في البلاد والبعض كان رأيه أن ثورة يناير كشفت فقط عن الفساد، ووسط هذا الانقسام ظهر للنور فيلم “نوارة” الذي ابتعد عن الجانب السياسي وعوضًا عن التناول الثوري المباشر ذي الأسلوب الوعظي ركز على الجانب الاجتماعي، فالفيلم يحكي عن “نوراة” وهي فتاة بسيطة تعمل خادمة في بيت أحد وزراء نظام مبارك وقد فر هذا الوزير إلى لندن بعد اندلاع الثورة وترك منزله في عهدة نوراة التي أحبت الثورة لأنها كانت تظن أن الأموال المنهوبة في الخارج ستوزع على الشعب، فظلت تحلم بنصيبها من تلك الأموال التي ستأخذها وتفكر كيف ستنفقها.
رغم أن الفيلم يدخلنا إلى عالم البسطاء ويجعلنا نشاهد الحياة من وجهة نظرهم، فإنه كان يمر بوتيرة هادئة إلى حد الممل، كما أن ذِكر الثورة على استحياء في الفيلم أفقد العمل الكثير من زخمه وقوته، ففي النهاية المشاهد لا يعنيه الأفكار التي تدور في خلد المخرج هو فقط يريد أن يرى شيئًا على الشاشة وكل ما كان يعرضه الفيلم هو تتبع لحياة نوراة، فالكاميرا لم تكن تفارقها حتى وهي تتنقل في المواصلات اليومية وكل ما كان يخص الثورة هو عرض سريع لرسوم الجرافيتي على الجدران في أثناء ذهاب نوارة للعمل.
المرحلة لثالثة: شيطنة الثورة
لطالما دارت السينما المصرية في فلك السلطة الحاكمة اللهم إلا بعض التجارب القليلة المستقلة وآن الآوان في هذه المرحلة للعودة إلى حظيرة السلطة مرة أخرى، فالسينما التي هللت لثورة 23 يوليو 1952 هي نفسها التي انقلبت على العهد الناصري في فترة حكم السادات لتنقلب على الأخير بسبب سياسات الانفتاح الاقتصادي في عهد مبارك.
ومن أهم أفلام هذه المرحلة من شيطنة الثورة وتحسين صورة الشرطة المصرية فيلم “عيار ناري” الذي عرض للمرة الأولى ضمن فعاليات مهرجان الجونة السينمائي خلال عام 2018، وتدور أحداث الفيلم حول جريمة قتل وقعت في أثناء أحداث ثورة 25 يناير، إلا أن طبيب التشريح يقرر أن القتيل مات من مسافة قريبة ويستبعد احتمال مقتله على يد الشرطة، ومع مرور أحداث الفيلم يتضح لنا أن القتيل الذي كان يثور في ميدان التحرير وقُتل هناك ما هو إلا شاب فاسد ومستهتر حاول الاستيلاء على أملاك والدته وشقيقته وذلك من أجل الزواج من حبيبته، الفيلم من إنتاج رجل الأعمال نجيب ساويرس وإخراج كريم الشناوي.
أما الجزء الثاني من فيلم “الجزيرة” للنجم أحمد السقا فيتناول ثورة 25 يناير من مدخل اقتحام السجون، إذ يهرب منصور الحفني تاجر المخدرات من السجن بعد عملية اقتحام السجون بصحبة بعض الثوار الذين يتضح في النهاية أنهم من الجماعات التكفيرية، وطوال الأحداث يحاول الفيلم بشتى الطرق مغازلة السلطة والشرطة على حساب الثورة والثوار الذين تسببوا في إحداث المزيد من الفوضى في المجتمع وفقًا لوجهة نظر الفيلم.