“عزيزة لبنانية ولا مذهب لها”، ولمن لا يعرف، فـ”عزيزة” ليست سوى سيارة أجرة يملكها اللبناني “أكرم سعيد” البالغ من العمر 40 عامًا، ويجول بها شوارع بيروت، وقد طلاها بألوان العلم اللبناني الحمراء والبيضاء مع رسم الأرزة الخضراء من الخارج والداخل.
سعيد حوّل سيارته إلى “لبنانه الخاص” البعيد عن الانقسامات، مع أن هذه ليست الحال داخل مجتمع سيارات الأجرة في البلاد، التي تنقسم بين السياسة والذكريات والحب.
وتعكس حوارات سائقي وركاب سيارات الأجرة العمومية في لبنان المزاج العام الاجتماعي والسياسي، تجاه القضايا السياسية الداخلية والخارجية وتحديدًا الانتفاضة السورية ومشاركة “حزب الله” في سوريا التي تناقش بحدة، وتمدد تنظيم “الدولة الإسلامية” – داعش- الذي يتم التعاطي معه بـ “سخرية” في غالب الأحيان، بينما تدفع عنصرية بعض السائقين إلى حد ضرب ركاب يخالفونهم الرأي.
ويقول سعيد وهو يرتدي قميصًا أحمر من ألوان العلم اللبناني كذلك، إنه قام بطلاء سيارته بهذا الشكل؛ لأن”علم لبنان، هو علم بلدي الذي أحبه وأعتبر أنه أجمل علم في العالم”.
وسائق الأجرة الذي يتحدث بكثير من العنفوان والحماسة عن سيارته التي حول سقفها الداخلي إلى “معرض” للعملات اللبنانية القديمة، بينما السقف الخارجي عليه مجسم لسفينة مطلية بألوان العلم وغطاء المحرك عليه بعض القناديل الصغيرة، بالإضافة إلى مجسم لصاروخ فضائي، أكد أن تبادل الأحاديث السياسية في سيارته بين الركاب “ممنوع”، لا أريد أن أسمع أخبار السياسيين، أنا لبناني فقط”.
وتابع أنه يصر أن “تدخل عزيزة كل الأزقة وكل زاوية ومنعطف في لبنان سواء في الضاحية (الجنوبية لبيروت أي معقل حزب الله) أو (بيروت) الغربية والشرقية”، والأخيران هما تعبيران استخدما أيام الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت بين عامي 1975 و1990، حيث كان تعبير “الغربية” يدل على الشطر الغربي من العاصمة اللبنانية والمناطق حيث الغالبية المسلمة، بينما “الشرقية” تدل على الشطر الشرقي والمناطق ذات الغالبية المسيحية.
وأشارسعيد إلى أن “عزيزة لا مذهب لها، لا إسلام ولا دروز ولامسيحية، بل عزيزة لبنانية”.
لكن للصحافي الشاب “محمد شبارو” رأى، بحكم استخدامه سيارات الأجرة كوسيلة نقل في أحيان كثيرة، أنه “إذا أراد شخص أن يرى الواقع اللبناني بشكل واضح ويلمس قضاياه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والانقسام الطائفي داخله ما عليه إلا أن يتنقل مستخدمًا سيارات الأجرة، وعندها سيعرف تركيبة المجتمع اللبناني”.
وأوضح شبارو في حديثه إلى أن “الأحاديث السياسية هي جزء مهم من أزمة المواطن اللبناني”، ساخرًا في الوقت نفسه من تناقض السائقين حين الحديث في السياسة.
وقال “استفزني مرة أحد السائقين حين تكلم بغضب عن الطبقة السياسة الفاسدة في لبنان، لكن فجأة تحول موقفه في سياق الحديث عن النظام في سوريا”، مشيرًا إلى أن هذا السائق “يثور على الطبقة السياسية اللبنانية لكن يقف ضد حق السوري في أن يثور على طبقته السياسية لأسباب تكاد تكون عينها على الرغم من الاختلاف بين النظامين”.
ولفت شبارو إلى أن معرفة الطائفة التي ينتمي إليها السائق “عملية سهلة” في الغالب “فالذين ينتمون إلى الطائفة السنية يستمعون غالبًا إلى إذاعة دار الإفتاء”، أما الشيعي المؤيد لحزب الله فيستمع لإذاعة “النور”، بينما هناك إذاعات خاصة للمسيحيين والدروز، مشددًا على أنه يتجنب الخوض في أي أحاديث سياسية خلال رحلته بسيارة الأجرة.
أما بالنسبة لـ “ديما حمادة” وهي كاتبة مختصة بالتفاعل الاجتماعي، فتقول “يمثل سائقو الأجرة التاريخ غير المروي من المدينة، فهم ليسوا انعكاسًا للشارع بل هم الشارع، والسائق يسمع الناس وهو كثير الملاحظة ويتشاجر ويغضب ولديه آراؤه الخاصة ويتبادل الشكوى مع الركاب من الوضع القائم”.
وقالت حمادة في حديثها إنه بعد 10 سنوات عاشتها خارج لبنان، يمثل ركوب سيارة الأجرة يوميًا “الطريقة الوحيدة للتواصل مع المجتمع، ويصير سائق الأجرة هو الشخص الوحيد تقريبًا الذي سأجري معه حديثًا ويخبرني عن المدينة”.
تتجنب الحديث في السياسة، ويلفت نظرها أن غالبية سائقي الأجرة الذين يوصلونها يفضلون الإذاعات التي تبث الأغاني على تلك المحملة بأخبار السياسة “والاستثناء هو وجود حدث أمني”.
ولفتت إلى أن غالبية النقاشات الحادة التي شهدتها في سيارات الأجرة تكون حين يتطرق الحديث إلى مشاركة حزب الله في القتال إلى جانب النظام السوري، أما “تنظيم داعش الذي أصبح حديث الشارع، فغالبًا ما يكون الحديث عنه بالاستهزاء وربطًا بالحوريات”.
لكنها أوضحت أنها لا تستطيع كبت غضبها عند سماع “الأحاديث العنصرية ضد السوريين والتي تصل في بعض الأحيان إلى درجة غير معقولة”، مشيرة إلى أنه “في إحدى المرات صرخت في وجه السائق؛ لأنه كان يتحدث بعنصرية عن السوريين، ويتهمهم بالحلول مكان السائقين اللبنانيين غير آبه بالشاب السوري الجالس إلى جانبه”.
وأشارت في الوقت نفسه إلى نوع آخر من السائقين لا يطلق العنان لعنصريته ضد السوريين إلا بعد أن يتأكد أن الركاب لبنانيون، وأحيانًا إذا لم يعرف أحدهم من لهجته يقوم بالسؤال مباشرة: “أنت من أين؟ وحين أقول إني لبنانية تبدأ الشكوى من السوريين قبل أن يصدم برأيي المخالف”.
ولفتت حمادة إلى عادة مقابلة عند السوريين أيضًا، فخلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في سوريا “سألت السائق الذي عرفت أنه سوري ممازحة إن كان انتخب، فما كان منه إلا بالسؤال عن جنسيتي وحين عرف أني لبنانية أجاب بارتياح بأنه لم ينتخب”.
آفة العنصرية التي تحدثت عنها حمادة، أرجع أسبابها عمر- وهو الاسم المستعار لصحفي وناشط سوري مقيم في بيروت منذ فترة – إلى حالة “الاحتقان في المجتمع اللبناني حيث توجد أكبر نسبة لجوء في العالم” بعد الأزمة السورية.
فلبنان يستضيف على أراضيه أكثر من مليون و200 ألف لاجئًا سوريًا مسجلين لدى المفوضية السامية لشئون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، فيما يقول مسئولون لبنانيون إن عددهم تجاوزالمليون و500 ألف.
وقال عمر: “أتجنب الخوض في أي حديث مع السائق محاولاً قدر الإمكان تقليد اللهجة اللبنانية حين ألفظ أسماء المناطق والاختصار في الحديث؛ حتى لا يعرف السائق بأني سوري”.
لكنه أوضح أنه على الرغم من ذلك فإن “السائق في كثير من الأحيان يستطيع أن يعرف أني سوري” بطرقه الخاصة، وهذا ما حصل مرة مع أحدهم حين “بادر إلى بسؤالي مباشرة إذا ما كنت مؤيد اللنظام أم ضده”، مضيفًا أنه في أحيان أخرى تنهال عليه اتهمات مثل “لقد حللتم مكاننا في العمل” أو “كل السوريين الذين أتوا إلى هنا يعملون كسائقي أجرة، أين الحكومة (لضبطهم)؟”.
وأوضح عمر أنه في بعض الأحيان يكون السائق “مشاكسًا جدًا ويحاول محاصرتك حتى يعرف عنك أكثر”، وشرح أنه “في أكثر من مرة انتابني خوف من أن يوصلني السائق إلى منطقة لا أعرفها، يكون أهلها معادين للسوريين، ويمكن أن أتعرض فيها للضرب”، موضحًا أنه في هذه الحالات “أشكره وأترجل من السيارة .. هذا أسوأ شيء واجهته”.
وتطرق في حديثه إلى “حادثة حصلت مع سيدة أعرفها تعرضت للضرب من سائق أجرة بسبب موقفها المؤيد للثورة”.
لكن حديث السائقين ليس دائمًا عن الحاضر والمستقبل، بل يقول زياد “إن السائقين المتقدمين في العمر خصوصًا يحدثونك عن الماضي إذا أحسوا أنك تعيرهم اهتمامك”.
وقال زياد – الموظف في العقد الثالث من عمره – إنه “في أحد المرات راح سائق الأجرة السبعيني يحكي لي عن أيام الطفولة، وعن أول فتاة أحبها وكيف رفضت والدته زواجه منها لأنها متكبرة ومغرورة بجمالها”.
وأضاف “برقت عينا العجوز حين تحدث عنها على الرغم من أنه جد الآن، وراح يسترجع من ذاكرته أول قصيدة غزل كتبها لها وكأنه يقرأها، ويشدد على أنه أرسلها مع ابن الجيران حيث لم يكن هناك من هواتف وفيسبوك”.
الرواية الثانية التي لفت إليها زياد، فهي عن سائق تاكسي حرمه أبوه من إكمال دراسته على الرغم من تفوقه، وأشار إلى أن السائق “أخبرني كيف أنه على الرغم من الفقر كان متفوقًا، ولما أرادت مدرسته الإرسالية إعطائه منحة دراسية ووعدته بتأمين سفره إلى الولايات المتحدة خاف أبوه أن يجعله ذلك مسيحيًا فمنعه من إكمال دراسته”.
وتبقى سيارة الأجرة أولاً وأخيرًا مصدر رزق.
فبالنسبة لسعيد، “عزيزة” تغري السياح الأجانب، الذين يقولون له “You have the best taxi in town” أي” لديك أفضل سيارة أجرة في لبنان”.
أما جورج (50 عامًا)، فهو يصوب الأمور مجددًا ويقول إن عمله كسائق أجرة أيضًا يتطلب أن “أوصل الراكب بأمان وسلام”، جازمًا بأن “الكلام في السياسة ممنوع” في سيارته.
وقال ممازحًا “إن كان أصحاب السياسة لا يفهمونها فكيف نتكلم نحن فيها؟! والسائق الجيد في القيادة يستطيع أن يدير عقول الناس كيفما يشاء أيضًا”.
ولكن الأهم يبقى هذا التواصل اليومي الذي يجعل من سيارة الأجرة “مختبرًا” لاستكشاف الآخر، كما أوضحت حمادة بقولها “نقضي أعمارنا نعيش مع الناس، لا بينهم ونكتشف أننا لا نعرفهم”، الآن أحس بالرغبة في أن أتعرف إليهم من خلال سيارات الأجرة.”
المصدر: الأناضول