ليس ثمة شك أن عملية قتل الصحفي “جيمس فولي” عمل بشع، وغير مبرر في أي شرع أو قانون، هذا صحفي مسالم، عمل في ظل ظروف بالغة الخطورة لتغطية آلام السوريين ونضالهم، وكان اختطافه وأسره أصلاً عملاً إجراميًا، وقيام جماعة الدولة بقتل أسير مسالم، لا يوجد أي علاقة بين عمله ومواقفة وسياسة التدخل الأمريكي في العراق؛ جعل الجريمة مضاعفة، ولم يكن من الغريب أن يثير إعدام فولي غضبًا واستهجانًا في بلاده، الولايات المتحدة، وفي أنحاء العالم الأخرى.
ولكن جماعة الدولة قتلت وتقتل مسلمين أيضًا، سواء من بين الجماعات المسلحة التي تخالفها في سورية والعراق، أو من بين الأهالي في المناطق الخاضعة لسيطرة الجماعة، لسبب أو آخر، ولمخالفة ارتكبها أحدهم أو أخرى، الحقيقة، أن قتل المسلمين من المخالفين، الذي يفوق قتل غير المسلمين، يعود إلى الدولة الإسلامية في بلاد الرافدين – الجماعة الأم للدولة الإسلامية – التي حاولت في سنوات الاحتلال الأمريكي للعراق فرض إرادتها على جماعات المقاومة والعشائر العراقية. وكان هذا السلوك السبب الرئيسي خلف ولادة الصحوات في العراق، والحرب التي أعلنتها عشائر مناطق الأغلبية السنية ضد الجماعة.
خلال السنوات القليلة بين ظهور الصحوات في 2008 واندلاع الثورات العربية في 2011، تراجعت دولة الرافدين في العراق بصورة ملموسة، ووضع الخطاب الجهادي الإسلامي، سواء باسم القاعدة أو أخواتها الأخريات، في موقع الدفاع، وجدت الشعوب أن حركتها يمكن أن تحقق التغيير وأن تنجز الانتقال نحو مجتمع حر وديمقراطي وعادل، بينما يجلل الدم وعود القاعدة وشركائها، والمتيقن أنها لن تؤسس إلا لنوع آخر من الاستبداد وسيطرة القلة، ولكن تراجع خطاب الجماعات المسلحة باسم الدين لم يستمر طويلاً.
دفع العنف الهمجي الذي نشره نظام الأسد في سوريا إلى تسلح تدريجي للثورة السورية؛ مما أفسح موقعًا للقاعدة، باسم جبهة النصرة، ولدولة الرافدين، باسمها الجديد “الدولة الإسلامية في العراق والشام”.
في العراق نفسه، كان المالكي يصعد من سياساته الطائفية ضد السنة العرب؛ مما أطلق حركة احتجاج شعبية واسعة في مطلع 2013، وبلجوء نظام المالكي إلى إجراءات القمع الدموية ضد المحتجين السلميين، ورفضه الاستجابة لمطالبهم المتواضعة، وجدت داعش مساحة لها في الدفاع عن الأهالي ضد نظام لم يعد ثمة أمل في إصلاحه بالوسائل السلمية للاحتجاج المطلبي.
كانت 2013 سنة الثورة العربية المضادة بامتياز، وعودة مناخ فقدان الأمل بالتغيير والحرية والعدل في المجال العربي؛ ولم يكن غريبًا بالتالي أن تكون هي أيضًا سنة العودة غير الحميدة لقوى العنف المسلح وخطاب الراديكالية الإسلامية العدمي.
تعود جماعة الدولة في أصولها السلالية للقاعدة، ولكنها ليست تمامًا ابنًا شرعيًا لها، ويفصح الافتراق بين الدولة والنصرة في سوريا، والانتقادات التي وجهها قادة القاعدة لممارسات الدولة خلال السنوات القليلة الماضية، عن خلافات جوهرية حول الإسلام والكفر، وحول مسألة الدماء، بل وحول تصور الدولة لنفسها كدولة إسلامية في العراق، ثم في العراق والشام، وأخيرًا كدولة خلافة، ولكن أحدًا لا يجب، على أية حال، أن يقلل من مسئولية القاعدة، التي أخذت نهج استهداف المدنيين، من مسلمين وغير مسلمين، إلى مستويات غير مسبوقة في سياسات القوى الإسلامية المسلحة المعاصرة، عن التطور العدمي في تصورات جماعة الدولة وسلوكها، على السواء، الهجمات على نيويورك وواشنطن، ومثيلاتها في كينيا وتنزانيا والصومال والسعودية واليمن، كانت المقدمة التي أسست لمثل هكذا نهج، بالرغم من التباين في المسوغات الشرعية التي يستدعيها كلا الطرفين.
وكما أن من العبث تصوير جماعة الدولة وكأنها وريثة الإسلام وقيمه الأنقى، فإن من العبث محاولة نفي الإسلام عن الجماعة، أو النظر إليها باعتبارها خارجة كلية عن الموروث الإسلامي، ومواجهة تسويغاتها للقتل واستباحة دماء الإبرياء بتسويغ مضاد لاستباحة دماء المنتمين أو المؤيدين لها، ومن العبث كذلك، إرجاع جماعة الدولة لرياح الصراع الطائفي المتفاقم في المشرق وحسب؛ فبخلاف منظمة دموية طائفية، مثل عصائب أهل الحق، التي تستهدف سنة العراق، يمكن لجماعة الدولة أن تقتل الشيعي والسني، المسلم وغير المسلم، هذه ظاهرة لابد أن تفهم في جذريها الرئيسيين: الرواية الإسلامية الهامشية التي تستمد منها خطابها، والسياق الحديث والمعاصر الذي جعلها تبحث عن هذه الرواية في المقام الأول.
يمثل الإسلام في تاريخه وتجربته سردية كبرى؛ بمعنى أن الإسلام في تصور أتباعه ليس مجرد شهادة التوحيد وحسب، بل وتراث واسع أيضًا، لا حدود له من النصوص والتاريخ، من كتب الفقه والأصول والعقيدة وتدافع الفرق والطوائف، من الدول وسير الحكام والخلفاء والغزوات والحروب، من التصوف والردود على التصوف، ومن التراث المذهبي والخلاف مع المذاهب.
كل السرديات الكبرى، يولد منها سرديات فرعية، سرديات ما بعد التأسيس، التي يصبح بعضها، بمرور الزمن، مستقلاً عن السرديات الأخرى، ويدعي بالتالي تمثيل النص المؤسس، التوتر التاريخي الطويل داخل أهل السنة بين إسلام المذاهب الرئيسية، الذي يستند إلى قواعد أصولية متراكمة لفهم الدين وتصوره، والإسلام السلفي، الذي يرفض المذهبية، يعلي من قيمة النص، ويعارض الإفراط الصوفي والطائفي، ليس إلا انعكاسًا لتدافع السرديات في التاريخ الإسلامي، ولكن، حتى داخل التيار السلفي ثمة سلفيات لا حصر لها.
في العقود القليلة الماضية، برز تصور سلفي يرفض الانخراط السياسي للإسلاميين، ويؤكد على طاعة الحكام وعدم معارضتهم أو الخروج عليهم، مثل السلفية الجامية والمدخلية والجماعة السلفية المصرية وسلفية مؤسسة العلماء السعودية الرسمية، كما برز تصور سلفي آخر، يؤكد على المسئولية العامة للمسلم، ويأخذ موقفًا معارضًا للأنظمة الحاكمة وارتهانها للقوى الخارجية وافتراق سياساتها وسلوكها عن المبادىء الرئيسية للشرع.
يرتكز التصور الأخير للإسلام إلى تقاليد المدرسة الوهابية – إحدى أبرز تجليات التيار السلفي في العصور الحديثة – التي مثلت إلى حد كبير ما يشبه الإحياء لمنهج أهل الحديث، السابقين على ظهور المذاهب وتطور علم الأصول وقواعده. في التقاليد الوهابية، ثمة استدعاء مباشر ومجرد للنص، بدون اعتبار كبير لأصول الفقة ومحدداته في إصدار الأحكام.
وإلى جانب إنتاج مثل هذا النهج لآراء ومواقف أثارت معارضة واسعة من قطاع كبير من علماء المسلمين في كافة أنحاء المشرق العثماني وشمال أفريقيا في القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر، فقد أصبح علماء المدرسة الوهابية أكثر راديكالية خلال العقود التالية من القرن التاسع عشر، سيما بعد إيقاع قوات والي مصر، محمد علي، الهزيمة بالدولة السعودية الأولى.
في كثير من آراء هؤلاء العلماء، الذين عانوا من بطش قوات محمد علي، كما يبدو واضحًا اليوم في آراء جماعة الدولة، يقترب الخطاب السلفي من خطاب الخوارج بصورة يصعب أحيانًا التفريق بينهما.
بيد أن السؤال الذي يجب أن يطرح هو ما الذي يجعل هؤلاء الشبان الذين جاءوا من خلفيات مختلفة ومتباينة: من خريجي معاهد علم شرعي، مدارس وجامعات حديثة، بيئات عربية وأوروبية، إلى أبناء عشائر وحواضر، يجدون في هذه التقاليد الإسلامية، التي ظلت دومًا هامشية وأقلوية، ضالتهم؟ للإجابة على هذا السؤال لابد من استدعاء السياق، سياق العقود القليلة الماضية منذ حرب الخليج الأولى في مطلع التسعينات، مرورًا بعودة الاحتلال الأجنبي السافر للمشرق، تحلل الدولة الوطنية وانحدار الطبقات الحاكمة، العدوانية التوسعية للتشيع السياسي، العنف الوحشي الذي تمارسه أنظمة الأقليات السياسية والطائفية ضد شعبها، وتراجع آمال التغيير والإصلاح، التي فجرت ما يمكن أن يوصف بالغضب السني، مثل أهل السنة على مر تاريخ الإسلام، ومنذ القرن الخامس الهجري على الأقل، حاضنة الإسلام وتياره الرئيسي، ولكن قطاعًا ملموسًا منهم يرى اليوم أن تقاليد الاحتضان والتعدد والتسامح السني لم تعد تجدي لحماية المدن من التدمير، والمقدرات من النهب، والحرمات من الانتهاك، جماعة الدولة هي رد تيار الإسلام بالغ الغضب والخروج عن التقاليد الموروثة على توحش أنظمة الحكم الوطنية، على فقدان المشاريع الطائفية للعقل والتوازن، وعلى السياسات الغربية التي لم تتغير منذ أكثر من قرن من الزمان.
هذه حالة لا يمكن هزيمتها بتصريحات الإدانة والشجب، ولا باللجوء إلى سياسات التكفير والتضليل، ولا حتى بالصورايخ وقذائف الدبابات.