اتفقت المغرب وتركيا على إعادة النظر في اتفاقية التبادل الحر بعدما لوح وزير التجارة المغربي بـ”تمزيق الاتفاقية” لأن بلاده الخاسر الأكبر في هذه المعركة التجارية، بتكلفة تناهز ملياري دولار أمريكي، وبدا الطرف المغربي بمثابة لاعب الشطرنج الذي قلب الطاولة على خصمه بمجرد إدراكه الخسارة.
العجز في الميزان التجاري يلح على الحكومة المغربية بإعادة النظر في اتفاقيات التبادل، “لكن ليس جميعها” بحسب ما ورد على لسان مولاي حفيظ العلمي وزير الصناعة والاستثمار والتجارة، خلال جلسة سابقة للأسئلة الأسبوعية بالبرلمان المغربي، ملوحًا أن بلاده “لن تسمح بإغراق أسواقها بالمنتجات التركية، وخاصة منتجات النسيج التي قتلت الكثير من مناصب الشغل المحلية”، مشددًا على أن المغرب لن يسمح أبدًا لأي بلاد كيفما كانت أن تأتي وتدمر الاقتصاد المحلي وتهدم مناصب الشغل المتوافرة.
تعزيز العلاقات التجارية
مباشرة بعد التهديد من الجانب المغربي، حلت وزيرة التجارة التركية روهصار بيكجان للتفاوض بخصوص هذا الملف، واتفق الطرفان على مراجعة الاتفاقية في أثناء اللقاءات الثنائية التي جمعتها مع نظيرها المغربي، خلال منتدى الاستثمار وبيئة الأعمال المغربي التركي الذي انعقد يوم الخميس 16 من يناير/كانون الثاني 2020، وضم أيضًا رجال أعمال مغاربة وأتراك، التقوا من أجل تعزيز فرص العمل والاستثمار المشترك في العديد من القطاعات الاقتصادية.
ومن العاصمة المغربية الرباط دعت الوزيرة التركية إلى تكثيف الاستثمارات المتبادلة بين بلدها والمغرب على اعتبار أنها بوابة القارة الإفريقية، وقالت بيكجان: “إلى جانب العلاقات التاريخية والثقافية القائمة بين البلدين، نرغب في تعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية أيضًا، ونسعى لإقامة علاقات تجارية متوازنة مع المغرب، بحيث يكون كلا الطرفين رابحين”، وحققت الصادرات التركية نحو المغرب خلال العام الماضي، نموًا بنسبة 16% مقارنة بعام 2018، لتبلغ 2.3 مليار دولار، فيما بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 3 مليارات دولار خلال 2019.
التصنيع محليًا
اتفق الطرفان على إعادة النظر في الاتفاقية المعمول بها منذ 14 سنة، لتخفيف حجم الخسائر التي تكبدتها الرباط، فاشترطت بالتالي على أنقرة التصنيع محليًا عوض الاعتماد على التصدير، وهو قرار يهم رفع التجارة الثنائية بين البلدين إلى مستوى أكثر توازنًا وتشجيع المُستثمرين الأتراك على الاستثمار بالمغرب في الصناعة الإنتاجية وتشجيع الصادرات المغربية نحو تركيا، واتفق الطرفان أيضًا على مراجعة شروط التبادل الحر، وشروع البلدين فوريًا في العمل على النقاط الخلافية التي جرى الاتفاق عليها بخصوص اتفاق تبادل الحر، وتقييم التقدم المُسجل بخصوص ذلك حتى 30 من يناير الحاليّ.
في 2004 تم توقيع اتفاقية التبادل الحر بين المغرب وتركيا، وبعد عامين سوف تدخل حيز التنفيذ، لكن المغرب كان خاسرًا منذ البداية بنحو نصف مليار دولار خلال سنة 2006، وسيرتفع حجم عجزه في الميزان التجاري إلى 1.66 مليار دولار خلال 2018، ليصل إلى عتبة ملياري دولار خلال العام المنصرم، إثر ذلك علت أصوات تدعو إلى مراجعة الاتفاقية.
اتفاقية التبادل الحر بين أنقرة والرباط تقضي بإلغاء الرسوم الجمركية والضرائب على الصادرات والواردات بين الطرفين، بالتالي “لا يمكن إدخال أي رسوم جمركية”، كما تنص الاتفاقية على إلغاء القيود الكمية على الصادرات والواردات بين الطرفين اللذين اتفقا على إنشاء منطقة تجارية حرة بصفة تدريجية، تشمل أهم مجالات التجارة بينهما خلال مرحلة انتقالية مدتها عشر سنوات على الأكثر ابتداءً من دخول هذه الاتفاقية حيز التنفيذ.
سياسة إغراق السوق
ما حصل أن الأسواق المغربية أصبحت مغرقة بالبضائع التركية، خاصة النسيج والألبسة، ومن أجل وقف تفاقم العجز التجاري، سارعت الحكومة المغربية إثر ذلك إلى فرض رسوم استيراد بنسبة 22% على هذه المنتجات المستوردة من تركيا، بعد لقاء عقده مجموعة من رجال الأعمال وممثلي الحكومة لإطلاعها على الضرر الذي أصاب شركاتهم ومصانعهم بسبب سياسة الإغراق التي تمارسها تركيا بحق الأسواق المغربية، إذ لا تستطيع المنتجات المحلية منافسة الواردات التركية التي زحفت نحو الأسواق بأسعار منخفضة مقارنة بالمنتجات المحلية.
النسيج التركي حرم المغاربة من 46 ألف منصب شغل خلال الفترة الممتدة من 2013 إلى 2016، وفق أرقام صادرة عن وزارة الصناعة والتجارة والاستثمار، ويعد قطاع النسيج والألبسة في المغرب قطاعًا إستراتيجيًا وحيويًا، إذ يوفر ما يقارب 368 ألف فرصة شغل، أي ما يعادل 35% من الوظائف الصناعية المحلية و4% من إجمالي العمالة في المغرب، وبينما ارتفعت الصادرات التركية من النسيج بـ200% بين 2013 و2017، اضطربت صناعة النسيج المغربي الموجهة للأسواق المحلية.
حوافز دون حواجز
بالمقابل، منذ تنفيذ الاتفاقية في 2006 منحت تركيا للمغرب حوافز للتصدير دون حواجز، وتجهّز الأتراك جيدًا بينما لم يكن المغاربة مستعدين لهذه المعركة التجارية، أي أنهم دخلوا إلى غمار هذا الانفتاح دون المضي قدمًا في إصلاح اقتصادي، إذ تم تجاوز المراحل الأساسية التي يتطلبها الوصول إلى صفقة “رابح – رابح”، فالبداية تكون بالإصلاح الاقتصادي وتقويته ومن ثم الانفتاح، وليس المرور إلى هذه المرحلة الأخيرة مباشرة، بالتالي استطاعت المقاولات التركية الاستفادة من السوق المغربية أكثر بكثير مما فعلته المقاولات المغربية في السوق التركية.
انزعاج الطرف المغربي من الخسارة أمام تركيا يكشف هشاشة اقتصاده المحلي، فهو الذي لا يكاد يخرج من أزمة حتى يدخل أخرى، على الرغم من تحذير مهنيين عند إبرام الاتفاقية من ضررها على قطاع النسيج، لكن الحكومات المتعاقبة لم تأخذ ذلك بعين الاعتبار، وتجاهلت أصواتًا لا تتجاهلها الدول الراغبة في نهج سياسة ناجحة للمبادلات التجارية، خاصة صوت المقاولات الصغرى والمتوسطة بما أنها تشكل 95% من النسيج الاقتصادي للمغرب وتشغل 46% من العمالة المحلية.
منطق سياسي!
منذ عام 1996 وقع المغرب اتفاقيات للتبادل الحر مع 56 دولة، وبلدان الشمال تكبد المملكة خسائر أكثر من تركيا، فمثلًا في 2018 بلغ حجم العجز في الميزان التجاري المغربي 2.7 مليار دولار لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، لكن الرباط لم تطالب يومًا بتعديل اتفاقية التبادل الحر التي أبرمتها مع واشنطن في نفس العام الذي أبرمتها مع أنقرة، بينما يميل متتبعون إلى الاعتقاد أن هذه الاتفاقيات جرى إبرامها وفق منطق سياسي.
وتجد الرباط صعوبات كبيرة في محاصرة تدهور عجز الميزان التجاري بعد أن قفز إلى 21.2 مليار دولار خلال 2018، مقارنة بالمعاملات مع البلدان التي أبرمت معها اتفاقيات التبادل الحر، وهو ما يعكس الوجه الحقيقي للمنظومة التجارية المغربية الضعيفة هيكليًا وبنيويًا، ويفسر ضعف المنطق الاقتصادي في إبرام كل تلك الاتفاقيات التجارية التي لم تسبقها أي دراسة للآثار على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وقد لا يكون لتعديل الاتفاقيات أي أثر إيجابي بقدر ما سيؤدي إلى فقدان مصداقية البلد أمام بلدان تتعامل معها في إطار التبادل الحر.