تعيش الأسواق المالية العالمية، حالة من الرعب الشديد، بسبب انتشار فيروس كورونا، وتتركز التوقعات السلبية في الخوف من عدم القدرة على السيطرة عليه، مما يعني تكبيد تعاملات الأصول المتداولة بأسواق المال العالمية خسائر قاسية، وخاصة في أصول المخاطر بأسواق الأسهم، ويضاعف حجم الخوف انتشار الفيروس بسرعة مذهلة في الصين، ثاني أكبر اقتصادات العالم.
أعلنت تقارير رسمية صينية، تزايد الإصابات بفيروس كورونا الذي اكتشف في مدينة ووهان الصينية ديسمبر الماضي، وبلغت معدلات الإصابة نحو 1975 شخصًا، فيما ارتفع عدد الوفيات إلى 56 بالفيروس الذي ظهر في إقليم هوبي وسط الصين لينتشر في مناطق أخرى، بينما سجلت إصابات في الوقت نفسه بكندا وأمريكا واليابان وأستراليا وماليزيا وتايلند وفرنسا وغيرها، الأمر الذي أجبر السلطات الصينية على اتخاذ قرارات حاسمة بوضع المزيد من القيود على تحركات الجماهير في عشر مدن رئيسية بداية من مدينة ووهان.
وضعت السلطات تعليمات مشددة بإغلاق أماكن التجمعات مثل دور عرض السينما ومدينة ملاهي شنغهاي، كما تم إخبار السكان فى هونك كونج بعدم مغادرة المدينة إلا فى ظروف خاصة، كما وضعت المزيد من القيود على السفر إلى مدينة ووهان وأخضعت جميع القادمين إلى الصين لكشف صحي إلزامي وخاصة قياس درجات حرارة الجسم.
ما الذي يزعج أسواق المال العربية والعالمية؟
على مدار أسبوع التداول المنتهي الجمعة 24 من يناير الحاليّ، كانت هناك حالة من الرعب انعكست بشكل مباشر على تعاملات الأصول المتداولة في أسواق المال العالمية، بسبب سرعة انتشار الفيروس يوميًا، وعاد للذاكر الاقتصادية ما حدث للصين أيضًا في الفترة من 2002 إلى 2003، حينما ضرب البلاد فيروس حمى السارس القاتل أو متلازمة الالتهاب الرئوي الحاد الذي انتقل منها إلى عدة دول في آسيا، وفتك بأكثر من 700 شخص، وتسبب في تراجع الناتج المحلي الإجمالي الصيني بنحو 0.8%، بينما تراجعت قراءات النمو في دول جنوب شرق آسيا بنحو 0.5% في الفترة من 2002 إلى 2003.
وترتبط حركة الأسواق المالية دائمًا بالعناوين الحساسة المتعلقة بالكوارث، وهي ظاهرة لها جذور ممتدة عبر التاريخ، حيث تؤدي دائمًا المخاوف المتعلقة بانتشار الأوبئة واحتوائها إلى تراجع حركة التجارة، وأعد البنك الدولي دراسة أكد فيها أن انتشار الأوبئة والأمراض يكلف الاقتصاد العالمي نحو 570 مليار دولار سنويًا، أي ما يوازي نحو 0.7% من حجم الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
يقول التقرير إن انتشار فيروس سارس عام 2003 تسبب في خسائر للاقتصاد العالمي تقدر بنحو 50 مليار دولار، فيما تسبب فيروس “ميرس” الذي انتشر في كوريا الجنوبية عام 2015 في تراجع حركة السياحة في البلاد بنحو 41%، واتجه البنك المركزي الكوري حينها لخفض الفائدة بشدة مع تأثر الاقتصاد الكلي جراء انتشار الفيروس.
الأمة الصينية لم تتوقف خسائرها على بكين فقط، بل ضرب معظم بلدان العالم، حيث خسرت الأسهم الأمريكية الأسبوع الماضي بشدة، وخاصة مع ارتفاع عدد المتوفين بالصين، وتمدد الإصابة إلى الأمريكيين أنفسهم، وانتشار المرض ليصيب الحزام المجاور للصين (اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة)، ولهذا تراجعت أيضًا الأسهم الأوروبية في ظل أجواء من الضبابية حيال التداعيات الاقتصادية المحتملة.
المأسأة والتراجع الجماعي لأسواق المال، جاء بسبب التخوف من تحول المرض إلى وباء وتراجع معنويات المستهلكين والشركات
وهبط المؤشر ستوكس 600 الأوروبي 0.7 % في أسوأ جلساته منذ بداية العام، وتكبدت أسهم الشركات المنكشفة على الصين مثل شركات التعدين والطيران والفنادق والسلع الفاخرة، خسائر حادة، وفي نفس الوقت انخفض مؤشر بنوك منطقة اليورو 0.5%، كما انخفض مؤشر داو جونز الصناعي بنحو 200 نقطة، في أعقاب قرار الصين بتوسيع الحجر الصحي خارج ووهان، كما انخفضت أسعار النفط وخسر مؤشر CSI 300 الصيني أكثر من 3% وتراجعت شاشات التداول إلى اللون الأحمر.
عربيًا، تلقت بعض أسواق المال بالمنطقة بعض التراجعات مع نهاية الأسبوع الماضي بسبب عمليات جني الأرباح السريعة من بعض محافظ الأجانب، التي تأثرت سلبًا بخسائر الأسواق العالمية بالجلسة ذاتها جراء انتشاء الفيروس، أما على مستوى البورصات العربية، فكانت بورصة السعودية الخاسر الأكبر بالمنطقة وسجلت انخفاضًا كبيرًا عن مستوى 8400 نقطة، كما تراجعت شركات اتصالات السعودية “وينساب” التي لم تحقق توقعات المحللين، وكذلك تراجعت الأسواق الإماراتية في الجلسة الأخيرة بسبب أنباء تفشي الفيروس.
يمكن القول إن هذه المأسأة والتراجع الجماعي لأسواق المال، جاء بسبب التخوف من تحول المرض إلى وباء وتراجع معنويات المستهلكين والشركات وضعف ثقتهم بالصفقة التجارية بين الصين والولايات المتحدة، في وقت ينتشر فيه كورونا على نطاق أوسع، مما يعطيه القدرة على تعطيل سلاسل السفر والتجارة والإمداد في جميع أنحاء آسيا، مع تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على الاقتصاد العالمي، لأن آسيا الآن المحرك الرئيسي للنمو العالمي.
الضربة الأكثر قوة لتعاظم المرض، ظهوره مع السنة القمرية الصينية الجديدة، وهو مهرجان سنوي يستقبل مئات الملايين من الناس الذين يسافرون إلى مسقط رأسهم للاحتفال مع العائلات، مما ضاعف حجم الأزمة، حيث أصاب الحجر الصحي الذي أُعلن، حركة شركات الطيران والسكك الحديدية والفنادق والمطاعم وأجزاء أخرى من قطاع المستهلكين بكثير من الاضطراب، لا سيما أن مدينة ووهان أكثر المتضررين بالمرض، من أهم مراكز النقل الرئيسية للبضائع داخل الصين، كما تعكس المدينة دور بكين في مركز سلاسل الإمداد الآسيوية للإلكترونيات والأدوية والسيارات، وإغلاق حركة النقل فيها يعني قطع سلاسل الإمداد طوال استمرار تهديد الفيروس وعدم القضاء عليه.
ضربة قاسية لاتفاقية التجارة الجديدة مع الولايات المتحدة
يبدو أن كل شيء يريد أن يقف حائلًا ضد تفعيل العلاقات بين أمريكا والصين، فبعد سلسلة من التصعيدات المختلفة والحظر المتبادل وحرب التعريفات الجمركية الشرسة التي جرت بين البلدين طوال العامين السابقين، جاء فيروس كورونا، ليهدد تنفيذ شروط اتفاقية التجارة الجديدة بين الولايات المتحدة والصين، حيث يتطلب الاتفاق من الصين زيادة إنفاقها على السلع والخدمات الأمريكية بمقدار 200 مليار دولار على مدار العامين المقبلين والبدء في فتح سوق الخدمات المالية بحلول الأول من أبريل المقبل، هو ما يستحيل نظريًا بعد الإجراءات الاحترازية السابق ذكرها، خوفًا من تفشي المرض.
كما يساعد التوقعات السلبية لعدم نجاح الاتفاقية الجديدة، وقوع الصين فريسة للديون الحكومية المرتفعة التي ستعيق حتمًا قدرة البلاد على تعويض أي أضرار اقتصادية بتخفيضات ضريبية أو زيادة في الإنفاق، وستزيد الكارثة إذا وصل مؤشر خسائر الفيروس إلى نفس خسائر وباء الأنفلونزا العالمي الذي اجتاح العالم عام 1918، في نفس هذا الشهر، قبل 100 عام، في تزامن غير مبشر على الإطلاق، وأودى وقتها بحياة ما يتراوح بين 50 و100 مليون شخص.
حالة الهستيريا العالمية تؤكد أن كابوس الأوبئة الفتاكة يطرح نفسه أمام رجال المال، كلما وصل أي فيروس جديد إلى حدود غير آمنة واضطرت سلطات البلدان لاتخاذ إجراءات غير تقليدية للسيطرة عليه، خاصة إذا كان له انتشار عالمي مثل كورونا التي تؤكد خرائط انتشار الفيروس أنه في طريقه للتمدد داخل الولايات المتحدة وفرنسا وتايلاند واليابان وتايوان ونيبال وهونغ كونغ وسنغافورة وفيتنام وماكاو وكوريا الجنوبية بحسب الحالات المؤكدة للإصابة حتى الآن!