قديمًا كان الندب تعبيرًا عن الحزن وألم الفقد فتخمش النساء على خدودهن وتلطم وجوههن ويعمد الرجال إلى تطبير رؤوسهم وزنجلة (ضرب) أجسادهم بالسلاسل، وعلاجًا كـ(التشليط) تُمارسه العجائز في شمال إفريقيا للمداواة والتطبيب، أو موروثًا ثقافيًا كطقوس الـ”الفودو” يُمرره شيوخ قبائل من إفريقيا جيلًا بعد جيل، ومع التطور المطرد في الحياة البشرية أصبح للندب (خدوش جرح) أشكال ودوافع أخرى.
الكاتينج
اسم إنجليزي لعملية تشطيب أو “تشليط” الجسد وتعني إحداث جروح بواسطة الآلات الحادة وغالبًا ما تكون سكينًا أو شفرة حلاقة، يقوم بها المراهقون والشباب والكهول في أماكن مختلفة ولدوافع متنوعة من أهمها التعبير عن تأزم حالتهم النفسية وعجزهم عن التكيف في بيئتهم العائلية والمجتمع.
ويُجمع المختصون على أن من يقومون بعملية التشطيب لا يخشون من سيلان الدماء من أجسادهم ولا يخافون من المخاطر الناجمة عن الجروح، فمعظمهم لا يشعرون بالأوجاع نتيجة تعاطيهم المخدرات وحبوب الهلوسة، فيما يكون الشد العصبي محفزًا للبعض الآخر على تجاوز الألم.
تونس.. تشليط
لرصد بعض الحالات موضوع الدراسة تجول “نون بوست” في بعض الأحياء المتاخمة للعاصمة التونسية (جبل الأحمر)، حيث التقى الشاب إلياس العمدوني (27 عامًا) الذي روى في حديثه أنه اعتاد “تشليط” يديه أو ساقه في أثناء تعاطيه الخمر أو الأدوية المخدرة، موضحًا أن الأمر بدا للوهلة الأولى موجعًا وغريبًا ولكن مع مرور الزمن تعود على الأمر ولم يعد في ذراعيه مكان لم يمر عليه حد السكين أو شفرة الحلاقة.
ومع طيه لكمي القميص ظهرت آثارًا لجروح غائرة وأخرى سطحية، قائلًا: “كل جرح يحكي قصة من قصصنا نحن الفقراء المهمشين من الدولة والمجتمع وحتى العائلة، أخرجوني من المدرسة في سن متقدمة بدعوى فقرهم وعجزهم عن مجابهة تكاليف التعليم بينما كان أبي يحتسي قواريره التي لا تنتهي في حانات العاصمة”.
يُضيف مخاطبنا وهو يُشيح بناظريه إلى المارة: “ما عشتش طفولتي كيف الناس تعرضت للضرب والإهانة في كل خدمة خدمتها، وفي الآخر الشارع هو بيتي وأسترزق منه (السرقة والسلب)”.
من جانبه، يؤكد مقداد (42 عامًا) من حي النور المتاخم للعاصمة، أنه مارس “التشليط” لأول مرة في سن صغيرة جدًا بعد أن شاهد المراهقين يفعلون ذلك في مراكز تأهيل الأحداث (الإصلاحية) وأعادها في مناسبات أخرى مع أقرانه في الحي، ويُضيف مخاطبنا “رغم الضرب الذي كنت أتلقاه من والدي، فإنني واصلت تجريح يدي وحتى ساقي وصدري، وكان الشعور الأولي بالألم يُعطيني فسحة من الراحة النفسية، وتطور الأمر حتى إنني لم أعد أشعر بذلك فالأدوية المخدرة تفقدك أي إحساس بالألم”.
وأشار مقداد إلى أنه كلما أراد الإقلاع عن هذه العادة ومحاولة إعادة تنظيم حياته والبدء من جديد، فإنه يُصاب بخيبة أمل كبيرة بسبب ماضيه الذي أصبح عائقًا أمام مساعيه للاندماج في المجتمع، مضيفًا “من يجرؤ على المجازفة بتشغيل رجل مشوه الوجه بشفرة حلاقة وبيدين مقطعتين؟ حتى الأعمال الحرة لم أنجح فيها، جربت بيع الخضراوات في السوق كان الناس يتحاشون الشراء والتعامل معي ولا أعلم إن كان الخوف أو الاشمئزاز يمنعهم من ذلك”.
وتأكيدًا لقول صديقه مقداد، كشف حاتم العياري أن التشليط في تونس انتشر في السجون والأحياء الشعبية، وهي طريقة يلجأ إليها كثير من الشباب لتصعيد همومهم وللتعبير عن حالة اليأس وانسداد الآفاق التي يعيشونها.
واستطرد العياري متذكرًا حسب قوله حادثة بشعةً كان نجمها كهل معروف بإدمانه لشرب الخمر وتعاطيه الحبوب المخدرة، قائلًا: “كنا جالسين في قاعة حلاقة كعادتنا نحلل نتيجة لقاء ناديين أوروبيين كبيرين، إذ دخل رجل مسرع والتقط شفرة الحلاقة وفي حركة أشبه بتلك التي يؤديها أبطال كمال الأجسام شد عضلة ذراعه وشقها إلى نصفين، مشهد اختلط فيه الشحم بالدم جعلني أتقيأ بصفة لا إرادية”.
مصر.. كاتينج
لا يختلف الحال كثيرًا في مصر، فالظاهرة انتشرت في السنوات الأخيرة بشكل لافت بين الشباب والفتيات اللاتي لجئن لتشطيب أياديهن باستخدام شفرات من أجل إزالة التوتر النفسي أو للتقليد، فيما يُعد المراهقون الذين يُعانون من المشاعر المتقلبة والضغوط المتزايدة وصراعات إثبات الذات من أكثر المقبلين على إيذاء ذواتهم.
إحداث ألم عضوي لمداواة الألم النفسي، هكذا يُفسر بعض الشباب إقدامهم على تشطيب أجسادهم، فالكاتينج ملاذ لمن عاشت قصة عاطفية فاشلة ولمن يرزح تحت البطالة والفقر وأيضًا لمن أرقته سلطة والديه.
وينشط مريدو الكاتينج في مصر كثيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” و”تويتر”، عبر تبادل المنشورات التوضيحية عن كيفية التشطيب دون أن يؤدي للوفاة، كالبُعد عن الشرايين القاتلة وتفادي الرقبة وأسفل البطن، بالإضافة إلى مقاطع فيديو يتبادلون فيها التجارب ويعرضون فيها عملية الكاتينج قصد تعليم الآخرين وتحفيزهم.
وكشفت مصادر إعلامية مصرية في وقت سابق أن صفحة على فيسبوك بعنوان “كاتينج” لقيت إعجاب نحو 20 ألف مصري من أصل 100 ألف، مما استدعى تدخل أجهزة الأمن لتوقيف صاحبها وإغلاقها.
وأظهر رصد لـ”نون بوست” توالي تغريدات ممن يريد القيام بعمليات تشطيب لأسباب متنوعة منها القلق والحدة والإحساس بانعدام القيمة، فكتب أحمد: “مكتئب أفكر في تشطيب يدي مرة ثانية”.
مخنووووووق +بفكر اعمل كاتينج تاني ??
Makhnouowooq + I think about making a second cottage ??
— Ahmed Mano (@AhmedMa82611825) January 19, 2020
من جانبها، غرت فتاة تحت اسم “زوزا”، أن الليل عبارة عن بكاء وتذكر الماضي وكاتينج وأيضًا اكتئاب، في إشارة ضمنية إلى تفكيرها في تشطيب يدها.
(..الليل عبارهه عن… بكااء… ،…تذكر الماضي… ،…كاتينج…،…اكتئاب..)??
— El-zoza (@Elzoza13) January 18, 2020
في مقابل ذلك، ندد آخرون بعمليات الكاتينج، فمنهم من وصفها بالموضة ومحاولة استدرار عطف الناس، وقالت مريم المكاوي إن من يقدم على تشطيب يديه ليس بفعل الاكتئاب أو أي مرض آخر ولكن غايته كسب تعاطف الناس بدليل أنهم يصورونها وينشرونها على مواقع التواصل الاجتماعي.
انا بس عاوزه اقولك ان دا مش اكتإب ولا اي حاجه دي حاجات بتتعمل عشان تكسب تعاطف بدليل انهم بيعملوها عشان يصوروها وتنزل ع السوشيال ميديا الشخص المكتإب بيبقي عنده ميول انتحاريه مش كاتينج اكبر دليل ان وهما بيعملوها بيبقو علي حذر اوي عشان متموتش عمر ما اتعاطفت ولا هتعاطف مع حد فيهم?
— مَريَااام || maruam? (@MekkawyMaryam) January 26, 2020
وأرجع شق منهم الظاهرة إلى حالات مرضية تتوجب العلاج وزيارة الأطباء، إضافة إلى غياب الوازع الديني، فيما غردت “رنا” موجهة أسئلتها إلى الفتيات اللاتي يشطبن أيديهن قائلة: “بماذا ستخبرن عائلاتكن أو أولادكن مستقبلًا عندما يلاحظون الجروح والندوب؟”.
هتقولي اي لاهلك لما يشوفوا العلامات دي .. ابنك و لا بنتك لما تكبري و يشوفوها ف ايدك هتقولهم معلش يولادي أصل انا كنت متوحده بعمل كاتينج و بأذي نفسي اللي ربنا امرني اني احافظ عليها مهما كانت الظروف مفيش مبرر ل دا .
— R a n a?. (@Ranaatare3110) January 25, 2020
احتواء
يؤكد مختصون أن الأشخاص الذين يؤذون أنفسهم يعانون من الإهمال أو الأذى الجسدي والعاطفي أو ربما عايشوا أحداثًا صادمةً أخرى أو يعيشون في بيئةٍ عائلية غير مستقرة أو واجهوا عنفًا أسريًا أو ذكريات أليمة، ويُمكن تصنيفهم إلى نوعين: مرضى نفسيون يرون في جرح الجسد وسيلة فعالة لرد الفعل والتعبير عن شخصياتهم، وآخرون يرون فيه شغف وتجربة.
وفي تصريح لـ”نون بوست” أوضح الاختصاصي والمعالج النفسي أنيس العويني، أن إيذاء النفس سلوك مرضي يمكن أن يكون منفردًا أو نتيجة أمراض كالاكتئاب والإدمان أو الأمراض الشخصية المضادة للمجتمع، ومن أكبر أعراض الاكتئاب هو فقدان الأمل ونقص الثقة بالنفس وبالتالي يُصبح إيذاء النفس تعبيرًا عن حالته وأفكاره السوداوية وهو ضرب من الانتحار لتلك النفس الخالية من العاطفة ومن أسباب الحياة.
وأضاف العويني أن إدمان الخمر واستهلاك المواد المخدرة بطريقة كبيرة يفقد من يُمارس التشطيب الشعور بالألم ويُعطيه نوعًا من الاسترخاء والاعتزاز بالذات لمقدرته على إيذاء نفسه والإتيان بفعل يتعجب منه الآخر.
مدمني “الكاتينج” بحاجة ماسة إلى دعم نفسي وحيطة اجتماعية تبدأ من المحيط الضيق (الأسرة) وتشمل في مرحلة ثانية المجتمع (الشارع).
وأشار الاختصاصي النفسي إلى أن إيذاء النفس يُمكن أن يكون طريقًا لجلب الانتباه والعطف خاصة في حال مرور الشخص بأوضاع عصيبة كالانتهاك والاغتصاب وهي شكل من أشكال التعبير المرضي، مضيفًا أن الشخصية المعادية للمجتمع ومن صفاتها الطاغية عدم احترامها للنظم والقوانين، تعبر عن رفضها للسائد بتجاوز القواعد ومنها تشطيبه للجسد المقدس في كل الأديان.
وأوضح العويني أنه عالج في وقت سابق فتاة (27 عامًا) تُعاني من الاكتئاب العميق دفعها إلى الانتحار أكثر من مرة، مشيرًا أن تحصيلها العلمي لم يمنعها من تشطيب يديها بطريقة مروعة، وهي طريقة اعتمدتها لجلب الانتباه والتعاطف، متابعًا: “أغلب الأشخاص الذين يُعانون من ندوب دائمة بالجسم وعلامات ظاهرة على أطرافهم تصل إلى حد تشوه أجسادهم، يضطرون بعد العلاج إلى إجراء عمليات التجميل لإخفاء آثار التشطيب”.
وحمل المختص في العلاج النفسي الإعلام مسؤولية تفشي مثل هذه الظواهر بتصويره لمشاهد تظهر شخصيات تشطب أياديها كأبطال، إضافة إلى الأفلام الغربية التي تعرض في بعض مقاطعها عمليات الكاتينج ليتم فيما بعد تقليدها من طرف الشباب والمراهقين.
بالمحصلة، يؤكد المختصون أن مدمني “الكاتينج” بحاجة ماسة إلى دعم نفسي وحيطة اجتماعية تبدأ من المحيط الضيق (الأسرة) وتشمل في مرحلة ثانية المجتمع (الشارع)، وإلى علاج جماعي يتبادل فيه المرضى التجارب لدعم جهود التعافي وتقويم السلوك وتقليل القلق والاكتئاب من خلال أساليب الاسترخاء كالمشاركة في الأنشطة الرياضية والثقافية.