حوارٌ تلفزيونيٌ أجراه رئيس تحرير صحيفة التيار السودانية مع رئيس الوزراء عبد الله حمدوك أثار جدلًا كثيفًا على مواقع التواصل الاجتماعي ليس بسبب الإفادات التي أدلى بها رئيس الوزراء فحسب، بل يُضاف إليها الطريقة التي أدار بها ميرغني الحوار الذي تم بثه على شاشة التليفزيون الرسمي لحكومة السودان.
كثيرٌ من أنصار الثورة التي أطاحت بالنظام السابق لم تعجبهم بعض الأسئلة التي وجهها الصحفي لرئيس الوزراء مثل سؤاله له: “هل وقفت في صف الخبز”؟ و”هل تعرف كم وصل سعر السكر اليوم في السوق”؟ معتبرين أنها أسئلة شخصية لم يكن من اللائق توجيهها إلى رئيس الحكومة، بينما دافع آخرون عن رئيس تحرير صحيفة التيار مذكرين بنضالاته في عهد الرئيس المخلوع عمر البشير حيث أوقفت سلطات الأمن الصحيفة لمدة عامين بعد أن نشرت مقالًا جريئًا للأستاذ الجامعي محمد زين العابدين قبل 8 سنوات هاجم فيه البشير واتهمه وأسرته بالفساد والتربح من الوظيفة العامة، كما كان موقف عثمان ميرغني داعمًا للثورة منذ اليوم الأول لانطلاقتها، وقبل ذلك تعرض لاعتداء بالضرب المبرح من ملثمين يرجح أن الرئيس المخلوع عمر البشير أرسلهم خصيصًا لـ”تأديب” ميرغني.
الملف الاقتصادي.. إجابات صريحة من حمدوك
رئيس تحرير صحيفة التيار ابتدر حواره مع رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بسؤاله عن الأزمة الاقتصادية وكيفية حلها، فرد حمدوك بأن الحكومة الانتقالية شرعت منذ تشكيلها في وضع خطة إسعافية لمعالجة الأزمة الاقتصادية، بمحاربة التضخم وتوفير السلع الإستراتيجية كالخبز والوقود والدواء، مشيرًا إلى أن موقف السلع الإستراتيجية مطمئن خاصة الوقود ودقيق الخبز، حيث إن المخزون الإستراتيجي منها يكفى لأكثر من شهر، وأرجع صعود سعر الدولار في السوق الموازية إلى المضاربات من بعض أصحاب المصالح الشخصية، لكنه اعترف بوجود نقص كبير في الاحتياطي من العملات الأجنبية.
كما اشتكى حمدوك ضمنًا من تبعية البنك المركزي لمجلس السيادة، ويفهم من حديثه أنه يطالب بضرورة تبعية البنك المركزي إلى مجلس الوزراء رغم كلامه الدبلوماسي عن التنسيق المستمر مع المجلس السيادي وإشادته بالشراكة بين المدنيين والعسكر وتلك قضية سنعود إليها لاحقًا.
أداء الوزراء.. إجابة دبلوماسية
المُحاور سأل رئيس الوزراء عبد الله حمدوك عن رأيه في أداء أعضاء حكومته، وخص بالسؤال أداء وزيري المالية والتجارة اللذين كانا حاضرين في اللقاء، وأدليا ببعض الإفادات، فجاءت إجابة حمدوك دبلوماسية كما كان متوقعًا، إذ أشاد بأدائهما وبأداء وزيرة الخارجية أسماء عبد الله التي بدا الشارع السوداني غير راضٍ عن أدائها، فقد اعتبر السودانيون أن السيدة أسماء غير مناسبة لقيادة الدبلوماسية السودانية في هذه الفترة التي تتطلب كاريزما خاصة وحضورًا متقدًا تفتقر إليه الوزيرة في هذه السن.
رغم قِصر الفترة التي مضت من عُمر الفترة الانتقالية، فإن كثيرًا من السودانيين يأملون في تغيير الطاقم الحكومي، نسبة للتحديات الجسام التي تعصف بالحكومة الانتقالية وسط تحفز وتحرش كوادر الحزب البائد الذين استغلوا ضعف أداء الحكومة في البرامج الإسعافية التي تمس حياة المواطن بصورة يومية من خبز ومواصلات وبنزين وغاز وغيرها، فهذه الملفات تحتاج إلى أداء متفاعل وحركة دؤوبة فشل فيه وزراء حكومة الثورة.
جدل الطوارئ يُخرج الخلاف إلى العلن
بعد يومين من مقابلة رئيس الوزراء حمدوك ظهر شيء آخر لم يكن في الحسبان وهو بوادر الخلاف العلني بين رئيس الوزراء حمدوك والمجلس السيادي التي تم تقسيمه بين المدنيين والعساكر بواقع 6 و5 أعضاء على التوالي.
الخلاف خرج إلى العلن متمثلًا في رفض مجلس السيادة طلبًا تقدم به رئيس الوزراء بتمديد حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر أخرى بعد يومين فقط من حديث حمدوك عن العلاقة القوية مع العسكريين، فالمجلس السيادي واضح أنه وقع تحت سيطرة العسكريين وتحديدًا رئيسه البرهان والعضو حميدتي فلا أثر يبدو للمدنيين في المجلس رغم أنهم يمثلون الأكثرية.
لا يُعرف مدى عمق الخلاف بين مجلسي السيادة والوزراء، والغريب في الأمر أن إعلان الرفض جاء بشكل صارخ من خلال مؤتمر صحفي لعضو المجلس السيادي والناطق الرسمي باسمه محمد الفكي سليمان فهو من المدنيين لكنه ظهر وكأنه يريد إحراج مجلس الوزراء وإظهاره بمظهر الضعيف المستجدي، رغم أن الوثيقة الدستورية منحت حق إعلان الطوارئ لمجلس الوزراء بالتشاور مع المجلس السيادي (المادة 40)، أي ليس الأمر بتقديم طلب من المستوى الأدنى إلى المستوى الأعلى كما أوحى بذلك المتحدث الرسمي للسيادي.
يبدو أن رئيس الوزراء عبد الله حمدوك أراد في الحوار التليفزيوني أن يهيئ الرأي العام تدريجيًا إلى وجود تغول من المجلس السيادي في صلاحيات مجلس الوزراء عندما أبدى تبرمًا من تبعية البنك المركزي للسيادي، مشيرًا إلى أنهم يعملون على صياغة قانون خاص للبنك يمنعه من المضاربة في شراء السلع، ويشجعه على أداء دوره كاملًا في إحكام الرقابة على المصارف التجارية.
حمدوك يوجه رسائل مبطنة إلى الشعب
كذلك أرسل رئيس الوزراء عدة رسائل مبطنة إلى الشعب السوداني تفيد بأنه مكبل بالوثيقة الدستورية التي طالما وجدت انتقادًا شعبيًا، وبضرورة التشاور مع الائتلاف الحاكم “قوى إعلان الحرية والتغيير” فيما يتعلق بإجراء أي تعديل وزاري على حكومته، وكذلك تعيين تشكيل المجلس التشريعي وتعيين الولاة الجدد وكبار المسؤولين الحكوميين.
يسود اعتقاد كبير وسط الثوار ـ الذين يتابعون أداء الحكومة الانتقالية خطوة بخطوة ـ بأن المجلس السيادي استولى على السلطات التي منحتها الوثيقة الدستورية للاجتماع المشترك بين مجلس الوزراء والمجلس السيادي الذي تؤول إليه “الاجتماع” سلطات المجلس التشريعي في حالة غيابه (المادة 24 ـ 3)، ومن ضمنها المصادقة على إعلان حالة الطوارئ خلال 15 يومًا من إعلانها، فلماذا يا ترى استعجل المجلس السيادي رفض تمديد الطوارئ ولم ينتظر الاجتماع المشترك مع مجلس الوزراء لاتخاذ القرار الذى يفترض أن يتم بالتوافق أو بأغلبية ثلثي أعضائه على أقل تقدير؟ ولماذا كذلك يخرج المتحدث الرسمي باسم المجلس السيادي محمد الفكي ليعلن رفض المجلس السيادي لطلب رئيس الوزراء في مسألة يفترض أن تناقش في جلسة مشتركة بين المجلسين؟
حتى الآن المؤشرات تدل على احتمالات ليست مبشرة، أقلها الضعف الشديد لوجود الـ6 أعضاء المدنيين في المجلس السيادي، إذ إن الصوت الأعلى هو صوت العسكر وما إن يذكر مجلس السيادة إلا ويُذكر البرهان وحميدتي، أما الاحتمال الآخر الأخطر فهو أن يكون الأعضاء المدنيين رضخوا بالكامل إلى رفاقهم العسكريين ولغة الجسد في الاجتماعات والفعاليات تؤكد هذا المعنى، فضلًا عن أن عضو المجلس محمد حمدان “حميدتي” منح نفسه صفة “نائب رئيس المجلس السيادي”، في مخالفة صريحة للوثيقة الدستورية التي تنص على وجود رئيس للمجلس وأعضاء فقط، كما أن البرهان لم يصدر قرارًا رسميًا بتعيينه نائبًا له حتى اليوم.
ما يستفاد من الحوار التليفزيوني لرئيس الوزراء حمدوك إلى جانب خلافه مع المجلس السيادي في قضية الطوارئ أن الرجل يحتاج إلى مصارحة الشعب باتخاذ قرارات قوية قد يكون مهد إليها بعباراته المبطنة وتوجيهه النقد الضمني إلى الوثيقة الدستورية ومركزية قوى الحرية والتغيير فضلًا عن تغول المجلس السيادي، فهذا الثلاثي بمثابة عقبة كؤود أمام رئيس الحكومة الذي لا يزال يتمتع بشعبية منقطعة النظير في أوساط الشعب السوداني، ولكن يُخشى ألا تستمر هذه الشعبية مستقبلًا، فهو يقاتل وحيدًا في ظل الضعف الشديد لأداء وزرائه، إذ أظهر أغلبهم إمكانات متواضعة جعلتهم أشبه بالناشطين السياسيين بدلًا من الكفاءات التي كان يتوقعها الشارع من حكومة تعهدت القوى الموقعة على إعلان الحرية والتغيير من قبل بأنها ستكون “حكومة كفاءات مستقلة” وليست حكومة محاصصة وترضيات.