لم تكد تستفيق الصحافة في مصر من ضربة إلا وتتلقى الأخرى، وربما تكون أكثر إيلاما من الأولى، وكأن الهدف هو الإبقاء عليها في حالة غيبوبة تامة إلى الأبد، حتى تفقد قدرتها على المقاومة، فتجد نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الخضوع التام للسلطة ورفع الراية البيضاء أو الموت بالبطيء تمهيدًا لإعلان الوفاة بشكل رسمي.
فصل جديد من المعاناة تشهده الصحافة المصرية التي يبدو أنها باتت على بعد خطوات قليلة من غرفة الإنعاش الفعلية، فخلال اجتماعٍ أمس في مقر مجلس الوزراء، بحضور رؤساء مجالس إدارات المؤسسات القومية المختلفة، اتُّخذت العديد من القرارات المثيرة للجدل.
كان في مقدمة تلك القرارات وقف التعيينات والتعاقدات داخل هذه المؤسسات، وربط التمديد لِمَن هم فوق الستين عامًا لا سيما الكتّاب بموافقة من “المجلس الأعلى للصحافة” الذي تتبع له الصحف القومية، هذا بخلاف التوجه نحو غلق الصحف الورقية واستبدالها بمواقع إلكترونية توفيرًا للنفقات على حد تعبير المشاركين في الاجتماع.
تأتي هذه التحركات بعد 6 أشهر من الضربة الموجعة التي تلقتها الصحافة المصرية في يوليو الماضي حين أعلنت مؤسسة التحرير، إغلاق الجريدة – مستقلة – دون سابق إنذار أو تنبيه من أي جهة، بجانب قرار الهيئة الوطنية للصحافة (حكومية) رفع أسعار الصحف القومية 50% من قيمتها الحاليّة.
وقبل يومين شنت منظمة العفو الدولية هجومًا على النظام المصري بسبب ما قالت إنه يستخدم أدوات قمعية مشابهة لعهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، مثل استبدال الاحتجاز (الاعتقال) الإداري بالحبس الاحتياطي”، مبينة أن “السيسي يحتجز الآلاف من المنتقدين السلميين لحكومته، وسط تعطيل لضمانات المحاكمة العادلة”.
وأضافت المنظمة في سلسلة من التغريدات على موقع “تويتر”، بمناسبة حلول الذكرى التاسعة لثورة يناير: “لا يزال الصحافيون يتعرضون للحبس التعسفي والتعذيب وسوء المعاملة في السجون واقتحام مكاتبهم من الأجهزة الأمنية في مصر، فضلاً عن حجب المواقع بسبب مقابلة صحافية أو تحقيق استقصائي أو صورة أو عنوان لا يروق للسلطة الحاكمة”.
ضربات متتالية تلقي بظلالها القاتمة على أجواء المشهد الإعلامي حالك الظلام بطبيعته خلال السنوات الأخيرة، تزامن ذلك مع استمرار حملة الاعتقالات بحق الصحفيين، الأمر الذي وصفه أعضاء الجمعية العمومية بنقابة الصحفيين المصرية بأنها “شهادة وفاة رسمية” لصاحبة الجلالة، مطالبين بالتوحد للتصدي لمخطط وأد الحريات الإعلامية في مصر الذي بات من الواضح أنه مخطط متكامل وليس ضربات عشوائية.
ما يزال الصحافيون يتعرضون للحبس التعسفي والتعذيب وسوء المعاملة في السجون واقتحام مكاتبهم من قبل الأجهزة الأمنية في #مصر وحجب المواقع بسبب مقابلة صحفية أو تحقيق استقصائي أو صورة أو عنوان لا يروق للسلطة الحاكمة. #ثورة_25_يناير
— منظمة العفو الدولية (@AmnestyAR) January 25, 2020
بين التقشف والتأميم
تضمن اجتماع الحكومة المصرية أمس الذي جاء تحت عنوان “مناقشة واستعراض خطة تطوير وتحديث المؤسسات الصحفية القومية” العديد من المفاجآت الصادمة للأسرة الصحفية، وذلك بحضور محمد معيط وزير المالية وأسامة هيكل وزير الدولة للإعلام وكرم جبر رئيس الهيئة الوطنية للصحافة وأحمد كمال نائب وزير التخطيط لشؤون التخطيط ورؤساء مجالس إدارات المؤسسات الصحفية القومية ورؤساء التحرير.
البداية كانت بتشديد رئيس الحكومة مصطفى مدبولي، على ضرورة مراعاة ترشيد وحوكمة الإنفاق في جميع المؤسسات الصحفية القومية، مؤكدًا استمرار مساندة الدولة لهذه المؤسسات، لكنها المساندة المشروطة باستمرارها في تحقيق الغرض من إنشائها، دون ذكر طبيعة هذا الغرض.
مدبولي أشار في اجتماعه إلى أن الحكومة طلبت أكثر من مرة وضع خطة عمل واضحة للتعامل مع التحديات التي تواجه المؤسسات الصحفية القومية، استجابة لتوجيه الرئيس عبد الفتاح السيسي بمتابعة هذا الملف، حيث قدم رئيس الهيئة الوطنية للصحافة، عرضًا بشأن خطة التطوير، موضحًا أنها تتضمن محورين رئيسيين.
البعض ذهب إلى أن مثل هذه التحركات المناهضة لمستقبل الصحافة والمقيدة للحريات هي أوراق اعتماد قدمها وزير الإعلام الجديد أسامة هيكل، للنظام الذي عينه في ديسمبر الماضي
الأول يتعلق بالرقمنة والثورة التكنولوجية، وذلك سعيًا لتحديث المؤسسات الصحفية القومية واللحاق بالثورة التكنولوجية الرابعة، فيما يتعلق المحور الثاني بإعادة الهيكلة والإصلاح المالي والإداري لتلك المؤسسات، وذلك من خلال الحصر الشامل للأصول وتحديد الأعباء والالتزامات المحملة بها وتقديم مقترحات لحسن استثمارها.
ومن أبرز التوصيات التي تمت في الاجتماع عدم فتح باب التعيين في أي مؤسسة صحفية قومية ومنع التعاقدات، وكذا منع المد فوق سن المعاش إلا في حالات الضرورة القصوى ولكبار الكتاب فقط، وأن يتم التنسيق فى ذلك مع الهيئة الوطنية للصحافة، بالإضافة إلى العمل على تسوية مديونيات هذه المؤسسات باستغلال عدد من الأصول غير المستغلة التي تمتلكها، وكذا دراسة موقف كل الإصدارات واتخاذ موقف حاسم بشأنها.
يذكر أن المؤسسات القومية المختلفة تتفاوت في مسألة التعيينات خلال السنوات الماضية، حيث أوقفت مؤسسة “الأهرام” التوظيف منذ ستّ سنوات، فيما فتحت مؤسسات أخرى الباب على مصراعيه أمام التعيينات، في مقدمتهم: “الأخبار” و”دار الهلال” و”روز اليوسف”، وباستثناء “الأخبار المصرية”، تعاني باقي المؤسسات من زيادة الصحافيين فيها على نحو مبالَغ فيه، في وقت تبقى فيه مخرجاتها الصحفية محل جدل ونقاش من المهتمين بالشأن الصحفي.
ويسود توجه عام لدى الدولة بشأن تقليص عدد الإصدارات الورقية للمؤسسات التي لا تبيع بالشكل الذي يعوض النفقات التي تجاوزات المليارات خلال السنوات الأخيرة، هذا بجانب التفكير في زيادة أسعار الصحف مجددًا، في محاولة لتقليل الآثار المترتبة على قرار الحكومة بتقليص الاشتراكات في الصحف، فضلًا عن تأثر المبيعات سلبًا جراء الارتفاع المستمر في الأسعار.
غضب بين جموع الصحفيين
أثارت قرارات مجلس الوزراء غضب أعضاء مجلس نقابة الصحفيين المصرية، حيث شنوا هجومًا عنيفًا على الحكومة، متهمين إياها بمخالفة الدستور وتجاوز الأعراف القانونية فيما يتعلق بسحب اختصاصات النقابة المختصة بمثل هذه القرارات ونسبها لمجلس الوزراء على غير المعهود به لائحيًا وقانونيًا.
بداية أوضح جمال عبد الرحيم وكيل أول نقابة الصحفيين، أن مجلس الوزراء غير مختص بإصدار قرار بعدم فتح باب التعيين في أي مؤسسة صحفية قومية ومنع التعاقدات، مشيرًا إلى أن تلك المؤسسات مستقلة، وينحصر دور الحكومة والهيئة الوطنية للصحافة في الإشراف فقط.
وأكد أن مجالس إدارات المؤسسات القومية هي صاحبة الحق الأصيل في إصدار مثل هذه القرارات، لافتًا إلى أن قانون الهيئة الوطنية للصحافة به نصوص واضحة بخصوص ذلك الأمر، حيث لم يتحدث القانون عن دور “الوطنية للصحافة” في تعيين الصحفيين وانحصر دورها في: “تعيين رؤساء التحرير ومجالس الإدارة والمد فوق سن المعاش وكذلك تعيين عدد من أعضاء الجمعية ووضع خطة عمل المؤسسات.
من جانبه وصف عمرو بدر السكرتير العام المساعد لنقابة الصحفيين ورئيس لجنة الحريات بالنقابة، قرار وقف التعيين بالمؤسسات الصحفية القومية بـ”الكارثة”، مؤكدًا أن مجلس النقابة سيناقش الأمر ويصدر بيانًا عاجلًا في هذا الشأن، خلال ساعات، بما يضمن حق الزملاء وتطبيق نصوص القانون.
وأضاف في تصريحات له “أن هذا القرار غريب، واتُخذ دون الرجوع إلى النقابة”، مؤكدًا أن المجلس سيقف بجانب الزملاء ويدعم موقفهم وحقهم في التعيين، خاصة أنهم قضوا سنوات طويلة في العمل داخل المؤسسات القومية على أمل التعيين، وهو حق أصيل لهم، يكفله القانون.
كما لفت إلى أن كارثة أخرى يتضمنها القرار وهو وقف المد لسن المعاش، مما يجبر الزملاء على الإحالة للمعاش دون رغبتهم، بالمخالفة لقانون النقابة وقانون تنظيم الصحافة والإعلام، هذا بجانب تلويح بيان الحكومة لوجود نية لدمج الإصدارات أو تصفية المؤسسات دون الرجوع للنقابة، وهو ما أكدته الجمعية العمومية في مارس الماضي، وأوصت مجلس النقابة بعدم اتخاذ أي قرار يخص التصفية أو الدمج دون الرجوع إليه.
أما محمود كامل عضو مجلس النقابة، فوصف البيان بـ”الكارثي”، مطالبًا باجتماع طارئ لمجلس نقابة الصحفيين وإصدار بيان عاجل للرد على ما صدر عن هذا الاجتماع، وكذلك اتخاذ إجراءات عملية عاجلة لمواجهة هذه الحملة الممنهجة التي تشن ضد الصحافة خلال السنوات الماضية.
كامل في منشور له على صفحته على فيسبوك أدان إقصاء نقابة الصحفيين ومجلسها المنتخب، الممثل الشرعي الوحيد للجمعية العمومية عن حضور الاجتماع وإبداء الرأي، منوهًا إلى أن قرار عدم التجديد للصحفيين بعد سن المعاش يخالف مطالب الجمعيات العمومية المتعاقبة للنقابة، ويؤكد أن من حضروا الاجتماع وبعضهم تجاوز سن المعاش بسنوات لا يدركون طبيعة العمل الصحفي ويتجاهلون مطالب رواد المهنة ودورهم في نقل الخبرات للأجيال القادمة.
كما أكد أن قرار وقف التعيينات، يؤكد أن جميع من حضروا الاجتماع ليس لديهم دراية بقانون العمل، وهو قرار مرفوض وغير قانوني ويمثل اعتداءً صارخًا على حقوق زملاء يمارسون المهنة منذ سنوات، على حد قوله، موضحًا أن الحديث عن تحويل الإصدارات الورقية إلى إلكترونية لتخفيض نفقات الطباعة، لن يكون حلًا لأزمة الصحف القومية، “الأزمة تكمن في المحتوى غير الجاذب للقراء وغير المواكب لاهتمامات القراء وهمومهم، وكذلك في اختيار رؤساء تحرير من أهل الثقة لا أهل الخبرة والموهبة”.
ثم تساءل عضو المجلس: لماذا استيقظ رئيس الهيئة الوطنية فجأة بعد ثلاث سنوات وقرر وضع خطة تطوير بالتزامن مع موعد تغيير الهيئات الصحفية والإعلامية؟ وهو سؤال معروف الإجابة ضمنيًا، إذ يشير إلى مساعي استرضاء السلطة للتجديد في المناصب أو تبوء مناصب أخرى أكثر رفعة ومكانة.
هيكل.. كلمة السر
البعض ذهب إلى أن مثل هذه التحركات المناهضة لمستقبل الصحافة والمقيدة للحريات هي أوراق اعتماد قدمها وزير الإعلام الجديد، أسامة هيكل، للنظام الذي عينه في ديسمبر الماضي، في خطوة اعتبرها الكثيرون ردة حقيقية على قرار إلغاء منصب وزارة الإعلام الذي كان في يونيو 2014 كونه مطلبًا شعبيًا، تعزز بصورة أكبر إبان ثورة 25 يناير 2011 التي طالبت بتحرير الإعلام من الرقابة الحكومية ورفع سقف الحريات إلى الحد الذي يسمح للصحفي التعبير عن رأيه دون قيد داخلي أو رقيب رسمي.
جاء قرار تعيين وزير الإعلام محبطًا للجميع، وبات السؤال عن وظيفته الحقيقية الأكثر حضورًا على منصات السوشيال ميديا، وفي ظل عدم وجود لائحة ثابتة ودستورية للتعريف بمهام الوزير الجديد، وعليه تصاعدت التكهنات والتخمينات من خبراء الإعلام، ممن استقروا في نهاية الأمر إلى أن الوظيفة الأبرز هي ضبط المشهد الإعلامي بما يتوافق مع هوى السلطات بعد الفشل الذريع الذي منيت به إدارة هذا الملف من قيادته السابقة وعلى رأسها نجل السيسي ورئيس جهاز المخابرات العامة الحالي.
تواصل الصحافة المصرية نزيفها المستمر، لتفقد يومًا تلو الأخر مساحة جديدة من حريتها المتبقية، الأمر الذي يبدو أنه يسير في اتجاه تحقيق حلم السيسي في عودة إعلام عبد الناصر
تقلد هيكل منصب وزير الإعلام خلال ثورة يناير لمدة أقل من ستة أشهر فقط، في الفترة من 24 من يوليو 2011 وحتى 6 من ديسمبر 2011، لكن سرعان ما تمت الإطاحة به بسبب فشله في التعامل مع المشهد آنذاك، هذا بجانب ما أثير بشأن اتهامات فساد واجهها لتعيين زوجته، أمل فوزي، في منصب رئيس تحرير مجلة نصف الدنيا الصادرة عن مؤسسة الأهرام القومية.
وبعد 8 سنوات من تركه الوزارة يعود إليها هيكل مجددًا، فهو أحد قدامى المحررين العسكريين في مصر، وكان من المقربين للمجلس العسكري إبان توليه حكم مصر عقب ثورة 25 يناير، كما أنه لم يترك المشهد بالكلية، إذ رأس مجلس إدارة مدينة الإنتاج الإعلامي من سبتمبر 2014 وحتى قرار تعيينه، كما رأس لجنة الثقافة والإعلام والآثار في مجلس النواب المصري وذلك قبيل تقديم استقالته لحلف اليمين الدستورية.
تعرض هيكل خلال الفترة التي قضاها كوزير للإعلام ومن بعدها رئيسًا لمدينة الإنتاج إلى انتقادات لاذعة بسبب ما أسموه “ديكتاتوريته”، حيث وصفه البعض بأنه “كاره للرأي الآخر” ولا يسمع إلا صوته فقط، فيما تعجب صحفيون من اختياره على وجه التحديد في هذه المرحلة التي تتطلب عقلية أكثر انفتاحًا على الرأي الآخر.
الصحافة المصرية.. واقع مذرٍ
تعاني الصحافة المصرية من أزمات متتالية منذ تولي السيسي، كان أبرزها ظهور “أذرع إعلامية” وانتشار ما يسمى “المال المخابراتي”، وصولًا إلى ترسانة قضائية حكمت قبضتها على الصحافة والصحافيين، حتى تحولت مصر بحسب وصف الجهات الحقوقية الدولية إلى “سجن كبير للصحفيين”.
ومنذ مايو 2017 شهدت البلاد سيلاً من حجب المواقع الإلكترونية تجاوز الـ513 موقعًا، ما بين إعلامي وحقوقي، في سابقة هي الأولى من نوعها في العالم، وهو ما أثار حفيظة الكثيرين من أنصار الحريات الإعلامية، داخل مصر وخارجها، خاصة في ظل ضبابية المشهد وعدم وجود معلومات كافية عن أسباب الحجب.
تزامنت هذه التحركات مع فرض المجلس الأعلى للإعلام (حكومي) قبضته على منصات السوشيال ميديا “فيسبوك وتويتر” في إطار ما تزعمه الحكومة المصرية بأنه تصدٍ للأخبار المضللة والشائعات وما يحض على الكراهية والعنصرية، استنادًا إلى الدراسة التي كشفت وقوع قرابة 86% من مستخدمي الإنترنت ضحية أخبار مضللة على شبكة الإنترنت، وتفعيلًا للمادة رقم 19 من قانون تنظيم الإعلام المقر مؤخرًا الذي يعطي المجلس سلطة غلق الصفحات الشخصية وحجب المواقع.
هذا المجلس ذاته الذي أصدر منذ تأسيسه في أبريل 2017 بقرار من الرئيس المصري، 86 قرارًا عقابيًا على صحف وقنوات ومواقع إلكترونية وصحفيين وإعلاميين خلال عامين من تشكيله، وفق ما توصلت إليه ورقة بحثية أصدرها المرصد المصري لحرية الإعلام (منظمة مجتمع مدني مصرية).
وهكذا تواصل الصحافة المصرية نزيفها المستمر، لتفقد يومًا تلو الآخر مساحة جديدة من حريتها المتبقية، الأمر الذي يبدو أنه يسير في اتجاه تحقيق حلم السيسي في عودة إعلام عبد الناصر مرة أخرى، هذا الإعلام ذو الصوت الواحد والهدف الواحد، خدمة النظام وأجنداته تحت شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.