لا يختلف أحد على أن قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني خدم المشروع الإستراتيجي الإيراني في الشرق الأوسط، بشكل جعل إيران ترفع سقف المواجهة والصراع مع الولايات المتحدة إلى مستويات عليا، ولعل حالة التخبط التي تمر بها إيران اليوم تعود في أحد أسبابها الرئيسة إلى غياب ضابط الإيقاع لعملياتها الخارجية، فالمرشد الأعلى علي خامنئي إلى جانب القيادات العليا في الحرس الثوري ما زالوا حتى هذه اللحظة، غير مستوعبين لفكرة غياب سليماني عن المشهد السياسي الإيراني العام، ومن ثم فإن فوضى التصريحات والتصرفات الإيرانية بالوقت الحاضر نتيجة منطقية لما تمر به إيران اليوم من ضغوط وتحديات.
إذ تغيرت طبيعة الأفعال العدائية بين إيران والولايات المتحدة بعد غياب سليماني، حيث تحولت مقتربات الصراع بالوقت الراهن من الصراع بالوكالة إلى الصراع المباشر، وهو ما قد يدفع إيران إلى ضرورة تجديد مفردات خطابها السياسي اليوم بالشكل الذي ينساق مع تطورات المرحلة الحاليّة، إذ لم تعد صورة ذلك المحارب المتردد “الرئيس الأمريكي دونالد ترامب”، موجودة أو حتى متخيلة في ذهنية قادة الحرس الثوري، فنجاح الإدارة الأمريكية في خلق صدقية الردع في النسق العقيدي الإيراني ستجعل القادة والمخططين في المؤسسة العسكرية الإيرانية أمام تحديات كبيرة في التعاطي مع الممارسات والتصريحات الأمريكية مستقبلًا.
فالجرأة الإستراتيجية التي أبدتها الإدارة الأمريكية في اغتيال سليماني ومعه نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي في العراق أبو مهدي المهندس إلى جانب العديد من الضباط والقادة في الحرس الثوري، تعني أنها قد تقدم على عمليات مماثلة مستقبلًا، خصوصًا بعد ردة الفعل الهزيلة التي ظهرت عليها الأفعال الإيرانية في الرد على مقتل سليماني، وهو ما أكدته جينا هاسبل مديرة الوكالة المركزية للاستخبارات الأمريكية بقولها: “عندما تباحثنا مع الرئيس بشأن قتل سليماني، توقعنا ردة الفعل هذه”.
ما يحصل اليوم لوكلاء إيران في سوريا والعراق، قد يكون مقدمة لتفعيله في لبنان واليمن مستقبلًا
وعلى الرغم من محدودية الهجوم الصاروخي الذي شنته القوة الصاروخية للحرس الثوري ردًا على مقتل سليماني، فإن هذا الهجوم يشير لبدء مرحلة جديدة من الأعمال العدائية مع الولايات المتحدة، وهو أن فرضيات المعركة وإستراتيجيات التعرض غير المباشر بين الطرفين تبدلت وأصبحت مهيأة هي الأخرى للتغير إذا تجاوزت إيران مرة أخرى على المصالح الأمريكية أو حتى مصالح حلفائها في منطقة الشرق الأوسط، إذ أشارت عملية قتل سليماني إلى تحول كبير أصاب الإستراتيجية العسكرية الأمريكية حيال إيران، وذلك بالتحول من سياسة الصبر الإستراتيجي إلى سياسة الردع الدفاعي المتقدم، والقائمة على أساس احتواء إيران داخل حدودها الجغرافية وتشتيت الجهد الإقليمي لفيلق القدس وحلفائه في المنطقة، عبر توجيه المزيد من الضربات التكتيكية التي قد تحجم من فعالياتها العسكرية في مناطق وجودها وعملياتها.
وما يحصل اليوم لوكلاء إيران في سوريا والعراق، قد يكون مقدمة لتفعيله في لبنان واليمن مستقبلًا، مع التأكيد هنا بأن محاولات الولايات المتحدة لعزل إيران إستراتيجيًا وعملياتيًا، عبر سياسات التحشيد العسكري والضغط الاقتصادي، قد تستمر في المستقبل القريب، مع الاستعداد المستمر لاستخدام القوة العسكرية عندما تستدعي الحاجة، وهو ما تؤكده التحشيدات العسكرية الأمريكية اليوم في قواعد التاجي والصويرة وبلد في العراق، فضلًا عن قاعدة دييغو غارسيا على المحيط الهندي، أو حتى تلك الموجودة في القواعد العسكرية الأمريكية بالكويت وقطر.
السعي لتصحيح الخلل الإستراتيجي
سعت إيران خلال الفترة الماضية إلى تجنب التصعيد الكارثي مع الولايات المتحدة، مع سعيها المستمر أيضًا إلى جرها لحرب محدودة كوسيلة للضغط على الإدارة الأمريكية وإحراجها، فبعد فشل كل الوساطات السابقة كالوساطة الفرنسية والعمانية، أصبحت إيران أمام خيار إنتاج فوضى مدارة تجر عن طريقها الإدارة الأمريكية إلى مستنقع يحرج الرئيس دونالد ترامب المقبل على انتخابات رئاسية قادمة، وعلى الرغم من أن عملية اغتيال سليماني وفرت فرصة سانحة لإيران لتحقيق ذلك، فإنها كانت فوق سقف طموح صانع القرار الأمني في إيران، إذ إن قيمة وتأثير سليماني جعلت إيران مجبرة على المراجعة الإستراتجية في الرد على الولايات المتحدة، وهو ما تجاوزته إيران من خلال تحشيد الآلة الإعلامية والدعائية للتغطية على الرد الصاروخي الضعيف على قاعدة عين الأسد غرب العراق حيث توجد القوات الأمريكية، مع التأكيد هنا أن الصورة كانت يمكن أن تتغير فيما لو اقتصر الفعل الأمريكي على استهداف كتائب حزب الله العراقي بالقائم في الـ27 ديسمبر 2019، فهذا الفعل كان يتيح لإيران اللعب مع الولايات المتحدة عبر صراعات الوكالة، وهو ما اتضحت ملامحه بعد محاولات اقتحام السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء في الـ31 ديسمبر 2019.
إن الإشكال الكبير الذي يواجه سعي إيران الآن لتصحيح الخلل الإستراتيجي، أن خليفة سليماني “إسماعيل قآني”، قد لا يكون بنفس طموح وقدرة وتأثير سلفه، وهو ما قد يؤدي إلى إضعاف أداء إيران الإستراتيجي في المنطقة، إن لم يدخله في حالة سبات لفترة غير قصيرة، هذا إلى جانب كونه غريبًا بعض الشيء عن جغرافيا المنطقة، بحكم كونه كان مسؤولًا عن ملف باكستان وأفغانستان في فيلق القدس.
إن المشاكل التي تواجهها إيران اليوم أصبحت تفوق قدرة النظام على حلها، إلا أن هذا لا يمنع من القول إن هناك تقاليد سياسية أو بمعنى آخر حلولًا سحرية قد يلجأ إليها النظام في أي لحظة تهديد وجودي يشعر بها، والحديث هنا عن الوجه البراغماتي للنظام الذي أنقذه من الكثير من الأزمات الكبرى التي واجهها سابقًا وجعلته قادرًا على الخروج منها منتصرًا، حسب مفاهيم النظام السياسي الإيراني للربح والخسارة، وهو ما أشار إليه محمد جواد لاريجاني رئيس لجنة حقوق الإنسان في السلطة القضائية الإيرانية يومًا عندما قال إن بلاده مستعدة للتفاوض مع الولايات المتحدة ولو في قعر جهنم، وجاءت تصريحاته في اجتماع لمساعدي الجامعات الإيرانية للشؤون التعليمية في الـ7 نوفمبر 2012، مؤكدًا “المفاوضات مع أمريكا ليست تابوهًا حتى تكون محرمة”، وانتقد في الوقت نفسه الإصلاحيين وحملهم مسؤولية “تحويل المفاوضات مع أمريكا إلى تابوه” في مطلع الثورة الإيرانية.
محاولة إيرانية للهروب إلى الأمام
في خطوة مسبقة لتدارك ما يمكن تداركه، استبعد مجلس صيانة الدستور العديد من المرشحين المعتدلين والإصلاحيين الذين سجلوا أنفسهم لخوض الانتخابات البرلمانية القادمة في الـ21 من فبراير 2020، مما يعني أن الأصوات المتشددة من المرجح أن تهيمن على مجلس الشورى الإيراني الجديد، وقد تفسر هذه الخطوة بأنها ردة فعل من الدولة على مواجهة تداعيات الاحتجاجات الحاليّة، وهو مؤشر إضافي أنه من غير المرجح أن تظهر الدولة الإيرانية المرونة والتسامح في معالجة حالة الانقسام السياسي الحاليّ في إيران.
ستكون ردة فعل النظام السياسي في إيران حيال الاحتجاجات المتكررة أكثر إثارةً للاهتمام، ففي الظروف الحاليّة تبدو عملية ممارسة دبلوماسية فاعلة تجنب إيران والولايات المتحدة التصعيد صعبة الآن، وعلى الرغم من نجاح المبادرة السويسرية في تخفيف التوتر الأخير، فإن عملية الضغط الأقصى من الولايات المتحدة، مع فرض عقوبات إضافية جديدة من الرئيس ترامب لا تريح إيران، لذلك يبدو أن هناك سببًا وجيهًا للاعتقاد بأن إيران أصبحت أكثر ذكاءً لتجنب الكارثة الكبرى جراء الرد الهزيل على الولايات المتحدة، لكن في ظل هذه الظروف، يصعب تحديد ما إذا كان النظام الإيراني سيرغب في تقديم تنازلات للولايات المتحدة في ملفات إقليمية أخرى أم لا.