حالة من الجدل أثارها قرار حرمان عدد من دور النشر الإسلامية بالدورة الحادية والخمسين من معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي يقام في الفترة من 22 من يناير الحاليّ وحتى 4 من فبراير القادم، وسط تباين الرؤى بشأن أسباب هذه الخطوة ودوافعها الحقيقية.
شهادات عدة وثقها “نون بوست” وعدد من المواقع الإخبارية الأخرى لمنع بعض دور النشر من المشاركة في المعرض بجانب استبعاد مؤلفات عدد من العلماء ورجال الدين حتى تلك الصادرة عن مكتبات مشاركة بالفعل، في مقابل تجاهل من إدارة المعرض التي ألقت الكرة في ملعب الجهات الأمنية.
تزامن هذا الإجراء مع موجة تجديد الخطاب الديني التي يتبناها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي نفسه، ومن خلفه عمائم الدولة الدينية وعلى رأسهم وزارة الأوقاف تحت قيادة الوزير المطيع مختار جمعة، صاحب السجل المشرف في المجازر التي راح ضحيتها آلاف الموظفين بدعوى الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين.
عدد من التساؤلات أثارها هذا التزامن الذي رافقه ثراء غير مسبوق في المؤلفات الأدبية والفلسفية والمجتمعية، بعضها ينتمي فكريًا للتيار العلماني الذي يتخذ من شعارات التنوير ستارًا يداري هويته الحقيقية، وهو التوجه الذي أثار قلق الكثيرين من الغيورين على مستقبل الثقافة الإسلامية في مصر.
منع دون أسباب
عدد من الناشرين المصريين أكدوا حرمان عدد ليس بالقليل من دور النشر الإسلامية من المشاركة في المعرض هذا العام، بعض تلك الدور قد حُرم من المشاركة في العامين الماضيين، فيما ضمت القائمة دورًا أخرى جديدة، وهو ما يشير إلى توجه عام في هذا الإطار.
أحمد بدوي، مدير التسويق بإحدى دور النشر الإسلامية أكد في حديثه لـ”نون بوست” أنه تقدم بطلب للمشاركة في المعرض في نسخته الحاليّة، كالعادة، لكنه فوجئ بتأخر الحصول على الترخيص، وبتوجهه لإدارة المعرض للاستفسار عن تأخر الترخيص نفوا أي علاقة لهم بهذا التأخير، وأضاف أنه وقبيل أيام قليلة من بدء المعرض تلقى إفادة رسمية بعدم المشاركة، وبعد مناقشات ومباحثات ووساطات عدة، تبين أن القرار جاء من جهة أمنية، بعيدًا عن إدارة المعرض التي بدورها أشارت إلى أن شرطة المصنفات الفنية هي التي تحدد الدور المشاركة من عدمها وفقًا لأحكام القضاء، في محاولة لتبرئة ساحتها بعدما تعددت الشكاوى الخاصة بقرارات المنع.
ومن أبرز دور النشر التي مُنعت من المشاركة في الدورة الحاليّة: “دار التوزيع والنشر الإسلامية” و”دار الدعوة”، فيما تم تضييق الخناق على دور أخرى مثل “دار سفير للنشر” التي أُلقي القبض على رئيس مجلس إدارتها محمد عبد اللطيف، الأمين العام لحزب الوسط.
وفيما يتعلق بمؤلفات بعض العلماء، فقد مُنعت الكتب الخاصة بسيد قطب والقرضاوي ومحمد الغزالي وحسن البنا، وغيرهم، وفي ردها عن دوافع هذا القرار أشارت هيئة الكتاب إلى أنها مؤسسة حكومية والقانون يلزمها بالتواصل مع شرطة المصنّفات الفنية لتفعيل الأحكام القضائية المتعلقة بالمنع، ولأن هناك حكمًا قضائيًا بمنع نشاط جماعة الإخوان، ومنع مؤلفات هؤلاء العلماء يدخل في منع نشاط الإخوان.
تضييق ومراقبة
هناك ثلاث أدوات رئيسية تستند إليها السلطات المصرية لمنع مشاركة الكتب التي تتعارض وتوجهات الدولة في معرض الكتاب، وفي الغالب تتعلق هذه المؤلفات إما بعلماء لهم ثقل وحضور فكري ثري وشعبية كبيرة وينتمون لجماعة الإخوان أو التيارات القريبة لها فكريًا أو كتب تتناول قضايا سياسية دينية تتعلق بأنظمة الحكم في الدين الإسلامي وهو ما ينافي سياسات الحكم لدى النظام الحاليّ.
الأداة الأولى كما سردها بعض الناشرين تتمحور في تأخير إصدار تصاريح المشاركة لبعض الدور بعينها أو حرمانها بشكل مباشر وواضح، وفي الغالب لا يكون قرار المنع مسببًا، وعليه يتجنب أصحاب دور النشر الدخول في معارك كلامية أو حتى قضائية مع السلطات في هذا الشأن خشية تداعيات مثل تلك الخطوات التي ربما تكلف الناشر مستقبله المالي والحياتي في آن واحد.
يكثف بعض رجال الشرطة مرورهم في أثناء عمل المعرض على دور النشر داخل صالات العرض، لمصادرة الكتب التي يرونها مخالفة
وتتعلق أداة المنع الثانية بإلزام دور النشر التي تمت الموافقة على مشاركتها في المعرض بتقديم قائمة الكتب التي ستطرحها، هذا الإجراء يكون في الغالب – ظاهريًا – عن طريق الهيئة العامة للكتاب، بحيث يتم الموافقة عليها، وفي حال وجود أي مؤلفات عليها علامات استفهام من النظام تُستبعد فورًا وربما يتعرض صاحب دار النشر لعقوبات ومضايقات.
ومن يحالفه الحظ ويفلت من الأداتين الأولى والثانية، فلن يفلت من الأداة الثالثة، فالأمر لم ينته بعد عند حاجز الموافقة على المشاركة في المعرض، إذ يكثف بعض رجال الشرطة مرورهم في أثناء عمل المعرض على دور النشر داخل صالات العرض، لمصادرة الكتب التي تراها مخالفة.
وبحسب شهود عيان فإنه في بعض الأحيان يُسحب ترخيص دار النشر من المعرض، وهو ما دفع أصحاب هذه الدور، لعدم عرض هذه النوعية من الكتب من المنبع، حتى لا يتعرضوا لمضايقات ومشاكل ربما تكلفهم الكثير، الأمر الذي انعكس بشكل أو بآخر على طبيعة المعروض من كتب ومؤلفات.
هدم للثقافة الإسلامية
“يبدو أن هناك توجهًا لتحجيم ظاهرة انتشار الكتاب الإسلامي في مصر” بهذه الكلمات استهل محمد نعمة الخبير في النشر الإلكتروني، حديثه لـ “نون بوست” معلقًا على منع وحرمان دور النشر الإسلامية الكبرى من المشاركة في المعرض.
وأضاف نعمة أن جولة سريعة على قوائم الكتب الأكثر مبيعًا لدور النشر هذا العام والعام الماضي، مقارنة بخمسة أعوام مضت مثلًا، يلاحظ سيطرة الروايات وكتب الخيال العلمي والطهي والمؤلفات التي تتطرق لعلوم الفلك وخلافه، فيما تراجع الكتاب الإسلامي بصورة ملحوظة بعدما كان متربعًا على عرش قائمة المبيعات على مدار السنوات الماضية.
في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2018، خلال مؤتمر الشباب الذي انعقد بشرم الشيخ، تحدث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، عن ضرورة تجديد الخطاب الديني، قائلًا: “تصحيح الخطاب الديني أحد أهم المطالب التي نرى أننا بحاجة إليها، في مصر والعالم الإسلامي على الإطلاق”.
دعوات أثارت بلبلة في الشارع المصري حينها خاصة بعدما تبنت مؤسسات حكومية وباحثون وإعلاميون تلك الدعوات وطالبوا بترجمتها إلى ممارسات فعلية، كان أبرزها إعادة النظر في المخزون العلمي للكتاب الإسلامي ومراجعته بشكل دقيق.
تنوعت قوائم الكتب الأكثر مبيعًا في معرض القاهرة للكتاب بدورته الماضية ما بين الروايات الأدبية وكتب التنمية البشرية
باحثون اعتبروا هذا التوجه حلقة في مسلسل إقصاء الثقافة الإسلامية وتنحيتها جانبًا، لصالح أفكار وتوجهات أخرى، ربما بعضها يتعارض ويتناقض مع الفكر الإسلامي، وهو ما يفسر تصاعد ظاهرة العلمنة في مصر باسم التنوير والإصلاح والوسطية.
جدير بالذكر أن قوائم الكتب الأكثر مبيعًا في معرض القاهرة للكتاب في دورته الماضية تنوعت ما بين الروايات الأدبية وكتب التنمية البشرية والتاريخية والمترجمة، وإن وجدت الروايات في صدارة مبيعات دور النشر والمكتبات المصرية الشهيرة، في مقابل تراجع ملحوظ في الكتاب الإسلامي.
تراجع أهمية الكتاب في ميزان الدولة
لم تكن دور النشر الإسلامية وحدها ضحية المنع والحرمان، إذ شهد المعرض في دورته الحاليّة غياب بعض دور النشر الأخرى التي اعتادت المشاركة طيلة السنوات الماضية، فيما تعددت مبررات الغياب، بين دوافع أمنية وأخرى سياسية.
في تقرير سابق لـ”نون بوست” تطرق إلى شهادة المؤسس المشارك في مكتبات “تنمية”، محمود لطفي، بشأن منع مكتبته من المشاركة في المعرض، حيث قال إن مدير المعرض، إسلام بيومي، أخبره سابقًا برفض المشاركة في دورة 2019 لعدم ورود الموافقة الأمنية، وأوضح لطفي أن بيومي قال له مؤخرًا: “إن شاء الله خير يا محمود..هسأل وأقولك”، قاصدًا الموافقة الأمنية على مشاركة “تنمية” في دورة 2020، بحسب محمود.
وأوضح لطفي في منشور له على صفحته على فيسبوك قبل شهر أنه تواصل مع مدير معرض القاهرة، وكان رده أنه منتظر رد الأمن بخصوص مشاركتنا، وكان الرد في السنتين بالمنع، ما يعني أن الأمر له بُعد سياسي أمني بعيدًا عن المبررات التي ساقتها إدارة المعرض.
مثل تلك الإجراءات تعكس تراجعًا ملحوظًا في أهمية الكتاب في مصر، هذا التراجع يعود وفقًا للكاتب الصحفي بصحيفة الأهرام، إسماعيل الفخراني، إلى المناخ العام، وهو ما كان له انعكاس على معرض الكتاب الذي كان يُعد في السابق، ساحة متسعة لتبادل الآراء والأفكار من خلال نشر كتب جميع الفئات والاتجاهات.
الفخراني في أحاديث صحفية أكد أن معرض الكتاب يعاني مما أسماه “غياب الأبوية السياسية”، فالدولة لم تعد مهتمة به وتحافظ عليه فقط باعتباره مناسبة دولية سنوية، كما أن الحرب الدائرة على التيار السني الوسطي سواء على مستوى الجماعات أم الأشخاص، تدعم كل سياسات الإقصاء السياسي والثقافي والاقتصادي التي يقوم بها النظام الحاكم، على حد تعبيره.
ويشير الكاتب المصري إلى أن القضية ليست فقط في منع الكتب الإسلامية الفكرية، بمنع دور النشر أو المؤلفات، وإنما في استبعادهم كذلك من الندوات والمناقشات الفكرية التي كان لها إسهام كبير في نشر الفكر الإسلامي السني الوسطي، أمام هجوم العلمانية، كما جرى في المناظرة الشهيرة بين المستشار المأمون الهضيبي نائب المرشد العام للإخوان المسلمين والعالم الجليل محمد الغزالي والمفكر الكبير محمد عمارة، أمام فرج فودة عام 1992، بشأن الإسلام والعلمانية.