منذ الوهلة الأولى لتشكيل الحكومة الانتقالية السودانية بقيادة عبد الله حمدوك في الـ5 من سبتمبر الماضي كانت ادعاءات الإقصاء أبرز الانتقادات التي وجهت لها ولقوى الحرية والتغيير، التيار الأبرز في خريطة المعارضة الثورية السودانية التي أطاحت بنظام الرئيس عمر البشير في أبريل 2019.
كانت مبررات الإقصاء حينها مقبولة لدى قطاع كبير من الشارع السوداني، خاصة في ظل ما كان يعانيه المشهد من فوضى تتطلب الارتكاز إلى ما يسمي “النقاء الثوري” لضمان استمرار السير على الدرب الذي اختاره السودانيون منذ 19 من ديسمبر 2018 حين خرجوا رافعين شعار الإطاحة بكل أركان النظام وتحالفاته.
وبعد ما يقرب من 5 أشهر على تشكيل الحكومة الجديدة، تصاعدت مؤخرًا أطروحة الإقصاء مرة أخرى، والتحذير مما يمكن أن تحدثه من تهديد للاستقرار وزعزعة للنسيج المجتمعي، وتصعيد للتحديات السياسية والأمنية التي تواجه البلاد في ظل ما تحتاجه هذه الفترة من هدوء وتوافق لعبور تلك المرحلة الحرجة.
رئيس “تحالف نهضة السودان” التيجاني سيسي، رئيس حركة التحرير والعدالة بدارفور، يرى أن الحل الأمثل لمواجهة التحديات والأزمات في البلاد وضمان سير العملية الانتقالية بشكل سلس يتمثل في وجود عملية توافق بين القوى السياسية، لافتًا إلى أن قوى الحرية والتغيير إقصائيون ويسعون للانفراد بالمشهد السياسي وإبعاد جميع المكونات السياسية الأخرى.
ويرى رئيس الحركة الموقعة على اتفاقية الدوحة للسلام في حوار لـ”الجزيرة” أن الإقصاء أخطر تهديد لسلام السودان، داعيًا لعقد مؤتمر جامع لكل القوى السودانية لحسم المشكلات والتوصل لحلول ناجزة للأزمة الاقتصادية والاتفاق على النظام الأمثل للحكم وهوية الدولة، موضحًا أن المرحلة الحاليّة تقتضي الاهتمام بكيف يُحكم السودان وليس من يحكم.
احتقان سياسي
أدت تلك الممارسات الإقصائية -وفق التيجاني- إلى تصاعد حالة الاحتقان السياسي وتعزيز فكرة الاستقطابات المهنية والقبلية، بجانب زيادة المشكلات الأمنية في بعض المناطق، وهو ما نجم عنه خروج عن النص أحيانًا من البعض، الأمر الذي فُسر حينها على غير حقيقته.
رئيس حركة التحرير والعدالة بدارفور يعتبر أن ما حدث الأيام الماضية من بعض عناصر الأمن السودانية عملية احتجاج وليست تمردًا كما سماها الإعلام، مفسرًا ذلك بأن هذه المجموعات المحتجة طالبت بحقوقها المالية، “وهي في تقديري مطالب مشروعة، لكنها أساءت التصرف عندما أطلقت الرصاص في الهواء، ومع ذلك، يجب على القوى الحاكمة أن تعيد تقدير الموقف، وأن يكون هناك توافق بين جميع مكونات الشعب لإحلال السلام والاستقرار وتجنب الفوضى والمشكلات التي تظهر في كل وقت وحين”.
حالة من القلق كذلك تخيم على الإسلاميين بشتى توجهاتهم السياسية بشأن مخاوف الإقصاء من المشهد السياسي خلال الفترة المقبلة
وأوضح أن تحالف نهضة السودان قد اجتمع مع المجلس العسكري وبقيادات قوى الحرية والتغيير عقب سقوط النظام، وأبدى لهما الرأي فيما يشهده السودان من تحديات، كما عبروا عن استعدادهما للمساعدة من أجل إنقاذ البلاد، معتبرًا أن توحد أبنائه وخلق عملية توافق بين القوى السياسية الحل الأمثل لمواجهة التحديات والأزمات وضمان سير العملية الانتقالية بشكل سلس وسليم.
يذكر أن الحركة وقعت على اتفاق سلام شامل مع النظام السابق في 2016، ثم تحولت بعد ذلك من حركة إلى حزب التحرير والعدالة، وشاركت سابقًا في الانتخابات ضمن كتلة برلمانية، كما اشتركت في تحالف نهضة السودان المكون من ستة أحزاب وحركتين.
وفي أغسطس الماضي اعترضت “الجبهة الثورية” السودانية (تضم ثلاث حركات مسلحة هي: “تحرير السودان” و”الحركة الشعبية/قطاع الشمال” و”العدل والمساواة”) على إقصائها من مفاوضات “الإعلان الدستوري” بين المجلس العسكري وقوى “إعلان الحرية والتغيير”، معتبرة أن السير في هذا المضمار يقوض العملية السياسية ويضع مستقبل البلاد على المحك في ظل التحديات التي تواجهها.
الإسلاميون.. خارج المشهد
حالة من القلق كذلك تخيم على الإسلاميين بشتى توجهاتهم السياسية بشأن مخاوف الإقصاء من المشهد السياسي خلال الفترة المقبلة، وذلك بعد سيطرتهم طيلة ثلاثة عقود كاملة على آليات الدولة ومفاصلها وأركانها تحت قيادة البشير، وهي المخاوف التي تعززها سيطرة الاتجاه اليساري الذي يمثله القوى الثورية الجديدة التي تحكم حاليًّا.
العضو البارز في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، كمال كرار، يرى أن “تجربة الإسلاميين في السلطة وانهيار حكمهم بثورة شعبية هو الدليل الكافي على انهيار مشروع الإسلام السياسي الذي حاول الإسلاميون تطبيقه في السودان، وأن محاولات إعادة إنتاجه ستواجه بقوة الثورة الشعبية”.
وفي الإطار ذاته ترى الكاتبة والناشطة السياسية ناهد محمد الحسن، أن الإسلاميين هم من أقصوا أنفسهم ومهدوا بتجربتهم في السلطة لحقبة ما بعد الإسلاموية التي تعيش قطيعة فكرية ونفسية مع هذا المشروع، مضيفة في مداخلات لها “لا سبيل للتكسب من عرض بضاعتهم في سوق الفكر السوداني مرة أخرى، وأن الفرصة الوحيدة المتاحة للإسلاميين هي عبر الاعتراف والاعتذار وعمل مراجعات جذرية واحتمال كلفة الغفران كاملة دون تأفف، فقد مارسوا الإقصاء والتعالي وانتموا لخارج الحدود القطرية أكثر من انتمائهم لوطنهم، ما يوجب عليهم أن يستغفروا هذا الشعب وهذا التراب قبل أن يستعدوا في هذه الحياة لأي صلاة”.
هناك من يحذر من مغبة إقصاء التيارات الأخرى التي كانت داعمة لنظام البشير، هذا التوجه الذي يقود البلاد إلى آفاق أكثر توترًا وتهديدًا في ظل حزمة التحديات التي تواجه السودان
ورغم مساعي التهميش والإقصاء لا يزال الإسلاميون يراهنون على عدم تجانس الرؤى الفكرية للقوى السياسية الثورية المعارضة التي قادت المشهد طيلة العام الماضي، في ظل ما يواجهونه من خلافات أيديولوجية وسياسية، وتباين في كثير من آليات إدارة الحكم في البلاد.
وفي السياق ذاته يراهنون أيضًا على الولاءات القديمة لجنرالات المجلس السيادي والمؤسسة العسكرية التي يدين كثير منها بدور الإسلاميين في تعزيز مكانتهم خلال حكم البشير، هذا الرهان يقودهم إلى أن هؤلاء الجنرالات لن يسمحوا بأي توجه استئصالي للإسلاميين من المشهد السياسي.
مخاوف ومخاطر
وفي الجهة الأخرى هناك من يحذر من مغبة إقصاء التيارات الأخرى التي كانت داعمة لنظام البشير، هذا التوجه الذي يقود البلاد إلى آفاق أكثر توترًا وتهديدًا في ظل حزمة التحديات التي تواجه السودان وتتطلب تكاتف الجميع وتوحد وجهتهم في مواجهتها والتصدي لها.
الأكاديمي والإسلامي البارز البروفيسور حسن مكي، يعتبر: “أن محاولات إقصاء الإسلاميين يُمهد لكارثة، إذ لا يزال شعار الإسلام هو الحل المسيطر في السودان وحتى في الغرب، وهو شعار يعود جذوره للقاعدة الإسلامية في المجتمع السوداني المتدين والمحافظ، وبالتالي فإن إقصاء الإسلاميين مرة واحدة يُعيد ارتكاب الخطأ التأريخي للإسلاميين أنفسهم في العام 1965م، عندما حلوا الحزب الشيوعي وتم طرد نوابه من البرلمان”.
فيما يذهب الناشط السوداني محمد الفاتح إلى أن الإقصاء كان أحد أهم أسباب سقوط النظام السابق وخلق معارضة قوية ضده أسهمت في سقوطه، ومن ثم فإن سير الحرية والتغيير والقوى المنضوية تحت لوائها على نفس النهج سيكون له ارتدادات كارثية، مطالبًا بالاستفادة من تجارب التاريخ ومما آلت إليه أنظمة الحكم في بعض الدول المجاورة جراء تلك السياسة.
الفاتح في تصريحاته لـ”نون بوست” أشار إلى أن بعض التيارات المشاركة في تكتل قوى الحرية كانت قد تشاركت النظام السابق خاصة بعد توقيع اتفاق نيفاشا بين النظام وحركة تحرير السودان، وهذا لا يعني أنهم فسدة ويجب إقصائهم من المشهد، مطالبًا باستمالة التيارات والقوى المعتدلة التي من الممكن أن تكون إضافة قوية للمشهد بعيدًا عن القوى الأخرى المتورطة في الفساد والدماء طيلة السنوات الماضية.
وأكد أنه لا تسامح مع من أفسد وارتكب الجرائم، إنما يجب محاكمته وتقديمه للعدالة وتلقيه جزاء ما فعل، لكن في الوقت ذاته يجب ألا يشمل هذا التطهير الجميع وألا نعمم قرارات المحاسبة والإقصاء، حتى نضمن تماسك وتكاتف الجبهة الداخلية ووحدة البلاد ولا تتفلت الأمور.
وفي ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية والانقسامات السياسية التي تحياها البلاد، بين قوى الحرية من جانب والتيارات الأخرى من جانب أخر، بخلاف التحديات السياسية والأمنية والصراعات القبلية وحالة الاحتقان المناطقي جراء إلغاء الوثيقة السياسية للنظام الفيدرالي التي نتج عنها إهمال نسبي للولايات الأخرى وتركز الاهتمام على الخرطوم، بات الحديث عن إجماع كل القوى على قلب رجل واحد للخروج من تلك الأزمات أمرًا في غاية الأهمية.