حملت الأيام الأخيرة أحداثًا ثقيلة على أهالي محافظة إدلب السورية آخر القلاع الخارجة عن سيطرة نظام الأسد حيث تمثّل حائط الصد الأخير الذي يحتمي به 4 ملايين مدني من مختلف مناطق البلاد التي هُجرت فيما سبق من خلال الحملات العسكرية التي شنها النظام خلال 9 سنوات منذ بداية الثورة في مارس/آذار 2011، إلا أن إدلب وضواحيها تنال اليوم حصة كبيرة من الإجرام غير المسبوق كونها معركة النظام الأخيرة لاستعادة المساحة الأكبر من البلاد إلى سلطته وحكمه.
تتقدم قوات النظام في هذه الأيام بسرعة رهيبة وسط انهيارات في دفاعات مقاتلي المعارضة التي تحاول صد الحملة العسكرية ولكن دون جدوى، خاصةً أن الطيران الروسي لا يهدأ في سماء المدينة، حتى وصلت طلعاته الجوية ما يقارب الـ200 يوميًا، إلا أن نصيبًا كبيرًا من هذه الحمم الملقاة على المناطق تكون على المدنيين في بيوتهم ومساكنهم، والمشهور عن الطيران الروسي أنه أول ما يستهدف قبل أي حملة عسكرية فإنه يستهدف المشافي التي تستقبل المصابين والجرحى نتيجة للقصف، وهذا ما يزيد المعاناة والمأساة.
فتحت روسيا بالإضافة إلى النظام ومليشيات إيرانية وأفغانية محاور متعددة في هذه المعركة، وتشارك فيها القوات الروسية و”قوات النمر” وعدة مليشيات أخرى في محور ريف إدلب الجنوبي ولواء القدس والفرقة 11 والفرقة السابعة في جبهات ريف إدلب الجنوبي الشرقي والفرقة الرابعة ومليشيات شيعية محلية تقاتل على جبهات حلب، وفقًا لأحد النشطاء السوريين المطلعين على الأمور العسكرية في إدلب.
بعد اتباع روسيا ونظام الأسد لسياسة الأرض المحروقة مؤخرًا والزح بأعداد مهولة من القوات على مختلف المحاور والجبهات، سقطت مدينة معرة النعمان أحد أهم معاقل الثورة السورية وموئل ملايين المُهجرين والنازحين، وتعد المدينة أكبر مناطق إدلب، وتخضع لسيطرة المعارضة السورية منذ عام 2012، فيما اضطر نحو 300 ألف مدني كانوا يعيشون في المدينة، إلى مغادرتها، بعد بدء النظام بقصفها منذ نوفمبر العام الماضي.
روسيا والغدر بالاتفاقيات
في آخر هدنة اتفقت عليها الأطراف كافة في إدلب لم يكن ثمّة أمل معقود عليها من السوريين خاصة أنهم خبروا النظام السوري وروسيا التي طالما خرقت الهدن والاتفاقيات، وكانت وزارة الدفاع التركية قد قالت في الـ12 من هذا الشهر إنها اتفقت مع روسيا على تنفيذ وقف إطلاق النار في محافظة إدلب بشمالي غرب سوريا، وقالت وزارة الدفاع التركية: “الهجمات جوًا وبرًا ستتوقف بموجب وقف إطلاق النار الذي قالت إنه يستهدف منع تدفق موجة جديدة من النازحين وسقوط مزيد من الضحايا”، إلا أن شيئًا من هذا الكلام لم يحصل واستمرت روسيا بقصفها لما تزعم أنه “الإرهاب”.
وقبل هذه الهدنة المزعومة التي بقيت تركيا كضامن لفصائل المعارضة الملتزمة بها، فر مئات الآلاف من المدنيين من القصف والمعارك في محافظة إدلب وبالتحديد من منطقة معرة النعمان صوب المخيمات على الحدود التركية بعد تجدد حملة القوات الروسية وقوات النظام السوري، وهو الأمر الذي ازداد في الأيام الماضية، بفعل آلة الحرب الروسية، وكما العادة استهدفت طائرات روسية، مشفى في مدينة سرجة بريف إدلب ما أدى إلى خروجه عن الخدمة، وقالت مصادر في الدفاع المدني إن المشفى يخدم نحو 50 ألف مدني.
قالت الشبكة السورية لحقوق الإنسان: إن “الانتهاكات التي مارسها الحلف الروسي السوري منذ 15من ديسمبر/كانون الأول 2019 في شمال غرب سوريا يشكل الكثير منها جرائم حرب”، وأضافت الشبكة في تقرير لها أن الحملة العسكرية التي قادتها القوات الروسية بمشاركة نظام الأسد منذ 26 من أبريل/نيسان من العام الماضي، “بدأت بهدف السيطرة على ما سمي منطقة خفض التصعيد الرابعة”، وأحصت الشبكة مقتل 86 مدنيًا في المناطق التي قصفتها روسيا والنظام، بينهم 21 طفلًا و18 سيدةً (أنثى بالغة) في شمال غرب سوريا، وفي تقريرها أشارت المؤسسة السورية الحقوقية إلى وقوع ما لا يقل عن 47 حادثة اعتداء على مراكز حيوية مدنية.
إضافةً إلى كل هذه الانتهاكات فإن الطائرات الروسية تتعمد استهداف قوافل النازحين وعرقلة حركتهم، وفي السياق يقول مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني: “تُصادف هذه الأيام الذكرى السنوية الثالثة لتشريد قوات الحلف الروسي السوري عشرات آلاف المدنيين من أحياء حلب الشرقية، و(في الأثناء) يشرد الحلف ذاته أهالي معرة النعمان وما حولها، لماذا يهرب كل من يتمكن من ذلك ويترك منزله وفرشه ودكانه إلا لأنه لا يتوقع من هذه القوات إلا القتل أو التجنيد الإجباري أو الإذلال، كما أن 95% من مجمل النازحين لم يعودوا إلى مناطقهم فما زالت داريا والغوطة وغيرها من المناطق التي سيطرت عليها تلك القوات شبه خالية، لا يمكن تخيُّل عودة آمنة وطوعية للنازحين واللاجئين طالما بقي النظام الحاليّ قائمًا ودون حصول تغيير سياسي نحو الديمقراطية والمحاسبة”.
وفقًا لصحيفة “عنب بلدي“، قال قائد ميداني في الجبهة الوطنية للتحرير المنضوية ضمن الجيش الوطني السوري المعارض: “النظام يتبع سياسة الأرض المحروقة، وهي العامل الأساسي في انسحاب الفصائل من مناطق الاشتباك”، في الوقت الذي يعتمد على إدخال مجموعات اقتحام روسية بعد القصف، على رأس هرم المجموعات الاقتحامية التي تعمل على إنشاء خرق في الخطوط الدفاعية لقوات المعارضة، ثم توسع الخرق عن طريق مجموعات الفرقة 25 لقوات النظام، والميليشيات التابعة لها”.
تخوض القوات السورية والروسية عملياتها العسكرية إلى جانب الميلشيات الشيعية “زينبيون” و”فاطميون”، ومجموعات أخرى تتبع لفيلق القدس الإيراني، وكشفت صحيفة “التلغراف” تسجيلات صوتية لتوجيه مقاتلين إيرانيين وأفغان خلال العمليات العسكرية الدائرة في إدلب، ونشرت الصحيفة حديثًا بين اثنين من المقاتلين عبر البث الإذاعي التابع للفصائل الإيرانية والأفغانية المقاتلة، من جهته قال قائد المليشيا الأفغانية “فاطميون” إن قاسم سليماني قبل اغتياله أصدر تعليمات لإستراتيجية المجموعة شبه العسكرية للسنوات الخمسة المقبلة، واغتياله لن يسبب أي اضطرابات، وأشار إلى أن “وجود فرقة فاطميون في إدلب جاء لتنفيذ مخططات سليماني”.
تركيا والموقف الحرج
تقول تركيا إن تقدم قوات النظام في إدلب “ينتهك الاتفاقيات القائمة مع روسيا”، يُذكر أن علي مملوك رئيس مكتب الأمن القومي السوري، التقى هاكان فيدان رئيس وكالة الاستخبارات التركية في موسكو ودعاه إلى تنفيذ شروط اتفاق سوتشي بما في ذلك فتح الطرق السريعة M4 و M5، الطرق الرئيسية بين حلب واللاذقية وحلب وحماة، فيما يتحدث المسؤولون الأتراك أن أنقرة تواصل دعم المعارضة السورية والمدنيين المحاصرين في منطقة الحرب قدر الإمكان، لكن هذا الدعم المقدم يصطدم بإصرار النظام السوري وموسكو على إعادة السيطرة على المناطق التي تحت سيطرة المعارضة مما يجعل فرض أي نوع من المناطق الآمنة أمرًا مستحيلًا تقريبًا، لا سيما دون تدخل دولي أوسع، بحسب موقع “ميدل إيست آي“.
يُذكر أن الرئيس التركي طالب فصائل المعارضة السورية في الشمال السوري خلال اجتماع طارئ عقدته الاستخبارت التركية بمشاركته، عبر اتصال مرئي: “بالتجهز للمعركة الكبرى”، وأكد المسؤولون الأتراك في هذا الاجتماع أن “المفاوضات مع روسيا وصلت لطريق مسدود، والأخيرة ماضية في الحل العسكري، ويجب على الفصائل أن تدافع عن نفسها في وجه الحملة التي تتعرض لها”.
هذا الاجتماع وما حصل فيه جاء بعد تصريحات أدلى بها وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، حيث قال: “يجب على المعارضة السورية حماية نفسها من هجمات النظام في إدلب”، وأضاف “هناك انتهاكات لوقف إطلاق النار، ولكن لا يمكننا القول إنه انهار، إذا استطعنا إيقاف هذه الانتهاكات في الفترة المقبلة يمكننا القول إننا حققنا وقف إطلاق النار من جديد”، مشيرًا إلى أنه “إذا استمرت الانتهاكات والهجمات، فلا يمكننا وقتها الحديث عن وقف إطلاق للنار”، من جهته قال قائد الجيش الوطني المعارض: “بالتأكيد هناك علاقة بين الموقف التركي من الملف الليبي وما يجري في إدلب، فروسيا تريد من خلال تصعيد الهجمات على جبهات إدلب الضغط على تركيا التي يمكن أن يكون لموقفها تجاه ليبيا تأثير مباشر على المصالح الروسية هناك”.
هذا التخبط للضامن التركي والتباطؤ في إجراءات تحمي المدنيين القابعين تحت القصف بإدلب، جعل السوريون على منصات التواصل الاجتماعي يسألون عن غياب دور أنقرة، في هذا الصدد يقول الباحث والكاتب السوري أحمد أبازيد في تغريدة على تويتر “الأرجح أنه لا يوجد اتفاقيات بشأن إدلب، مهما أمكن للروسي أن يقضم ويدمّر فسيفعل، لم تضمن تركيا منطقة آمنة في إدلب ولا وقف إطلاق نار ولن يمكنها حتى ضمان الاستسلام، لا أمل لسكان إدلب وثوارها إلا وقف الهجمة ومنع الانهيار، كل خيار آخر أكثر تكلفة”.
الأرجح أنه لا يوجد اتفاقيات حول إدلب، مهما أمكن للروسي ان يقضم ويدمّر فسيفعل، لم تضمن تركيا منطقة آمنة في إدلب ولا وقف إطلاق نار ولن يمكنها حتى ضمان الاستسلام، لا أمل لسكان إدلب وثوارها إلا وقف الهجمة ومنع الانهيار، كل خيار آخر أكثر تكلفة
— أحمد أبازيد (@abazeid89) January 27, 2020
يقول أسامة أبو زيد الكاتب السوري والمستشار الحقوقي: “مشروع روسيا وإيران هو فرض سيطرة النظام على كل ذرة تراب خارجة عن سيطرة الأسد بالقتال أو بالتسويات وكما عجزت تركيا عن فرض احترام اتفاقيات وقف إطلاق النار حتى في إدلب ستكون كذلك في ريف حلب الشمالي وعلى الرجال الوطنيين هناك أن ينفضوا غبار بنادقهم وأن يستعيدوا زمام المبادرة”.
مشروع #روسيا و #ايران هو فرض سيطرة النظام على كل ذرة تراب خارجة عن سيطرة الأسد بالقتال أو بالتسويات و كما عجزت #تركيا عن فرض احترام اتفاقيات وقف إطلاق النار حتى في #ادلب ستكون كذلك في ريف حلب الشمالي و على الرجال الوطنيين هناك أن ينفضوا غبار بنادقهم و أن يستعيدوا زمام المبادرة .
— أسامة أبو زيد Osama Abo Zayd (@oabozayd) January 27, 2020
تذكرنا المقاطع التي كانت تأتي من إدلب ومعرة النعمان في أواخر عام 2018، بالمظاهرات التي خرج بها السوريون في تلك المدن يطالبون فيها بالدخول التركي ويهتفون لتركيا التي ضمنت مناطقهم وأمنهم ووزعت نقاطًا عسكرية على طول حدود المعارضة مع النظام، مما بث أملًا وطمأنينة في نفوس المدنيين.
إلا أن الغدر الروسي اليوم وتسارع وتيرة الإجرام مع الرد التركي الباهت على ما يحصل جعل الناس تفقد الثقة بتركيا والفصائل المدعومة منها، في ظل تخاذل عربي ودولي وصمت إسلامي فاضح على ما يجري، وتغييب لقضية السوريين المنكوبين في تلك البقعة من العالم من وسائل الإعلام العربية والعالمية.