شهدت محافظة السويداء، جنوب سوريا، في بداية العام الحالي احتجاجات ومظاهرات شعبية رافضة للواقع الاقتصادي والمعيشي المتدهور في البلاد، وحمل المتظاهرون لافتات كتب عليها “خيرات بلادي لولادي”، بينما توافد الناشطون على منصات التواصل الاجتماعي تحت وسم “بدنا نعيش” وآخر باسم “ثورة جياع” ونددوا بالفساد الحكومي والمسؤولين عن تدهور الاقتصاد السوري وغلاء الأسعار، إذ انهار سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأمريكي ليصل سعر الشراء إلى 1150 ليرة للدولار الواحد.
وفي الشهر ذاته، واصلت انتفاضة لبنان احتجاجاتها التي بدأت في 17 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2019، رفضًا للسياسات الحكومية التي أدت إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والمالية، ومع ترامي المسؤولية والتهم بين السياسيين، حذرت العديد من الأصوات من بدء ثورة الجياع في لبنان. وفي هذا الحيز نحن معنيون بالحديث عن مساحة ثورات الجياع في العالم العربي.
لماذا يثور الناس؟
يقول عمر الشغري، أحد المعتقلين السابقين في سجون بشار الأسد، إن النظام السوري استخدم سياسة التجويع في المعتقلات كأداة لمنع المساجين من التفكير بالحرية أو الديمقراطية، ولكي لا تتجاوز أحلامهم ورغباتهم حدود الزنزانة، وتبقى أفكارهم مقيدة بوجبة الطعام الرديئة التي يقدمها السجان لهم كل يوم التي غالبًا ما تكون عبارة عن كسرة خبز وحبة زيتون، وبالتالي يأمن النظام وإدارة المعتقل نفسها من أي احتجاجات أو أعمال تمردية.
وهي وسيلة مدروسة وممنهجة، أدارها النظام بإتقان، لكي يحصر السجناء بين الجوع والاستسلام، ويدفعهم إلى فقدان الأمل والرجاء من التفكير في الخروج، وحينها فقط يصبح الاحتجاج – إذا سنحت فرصة بذلك من الأساس – للحصول على كسرة الخبز أكثر منطقية من المطالبة بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية. ولكن، بطبيعة الحال يختلف تأثير الجوع في الحيز العام الشاسع الذي يتحرك فيه الإنسان بعيدًا عن القضبان ورعب السجون، وهذا ما كشفته ثورات الجياع التي خرج فيها الناس إلى الشوارع، مطالبين بحصة عادلة من خيرات بلادهم، وفي أحيان كثيرة، أخذت احتجاجاتهم مسارات أخرى، أكثر تطورًا وشمولًا، تتمثل غالبًا في المطالبة بالحقوق الإنسانية والاجتماعية، التي تؤدي بشكل أو بآخر إلى زعزعة أو إسقاط أنظمة بكاملها.
وفقًا للأحداث التاريخية، تثور الشعوب لأسباب دينية واجتماعية واقتصادية، ولكن العامل الأخير لعب دورًا محوريًا في اندلاع أبرز الثورات على مر التاريخ، إذ اقترن “الخبز” على وجه الخصوص بالعديد من أسمائها وشعاراتها وهتافاتها، فعدا عن كون الخبز منتجًا غذائيًا رئيسيًا لدى معظم الشعوب، ويمثل أكثر من نصف الطعام المأكول في نصف دول العالم، بحسب الكاتب المصري جمال كمال محمود في كتابه “الخبز في مصر العثمانية”، فإن الخبز دليل على مدى تحضر المجتمعات المستقرة، ما يجعله “سلعة إستراتيجية” ومقياس حساس للمؤشرات الاقتصادية، سواء في حالات الانتعاش أم الانهيار.
يعني ذلك أن الخبز ليس فقط كتلة عجين تخبز وتباع، ففي معظم ثورات الربيع العربي وما تبعها إلى يومنا الحاليّ من حراكات شعبية، حظي الخبز بحصته من الهتافات والمطالب، أو كما ردد الثوار المصريون في ثورة 25 يناير 2011 شعار “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”، حيث أعطوا الأولوية للخبز، تطبيقًا للمثل المصري الشعبي الذي يقول: “يا سائلي عن طعامي الخبز رأس الأمور”، وبما أن الحرية مرادفًا للـ”عيش” أو رغيف الخبز، لا يمكن فصل كتلة العجين هذه عن الحقوق الأخرى، وذلك ما يفسر كيف نجحت كسرة الخبز في قلب كراس على رؤوس حكامها والتسبب في زوالهم.
انتفاضات الخبز.. متى ثارت الشعوب جوعًا؟
ذكر الكاتب محمد عبد الحافظ في كتاب “ثورات الجياع”، معظم ثورات الجياع التي انفجرت بدءًا من العصر الفرعوني مرورًا بالعصر البطلمي والروماني ثم الإسلامي ووصولًا إلى ثورة يناير التي يراها مزيجًا من الصراع بين الجوع والكرامة، حيث كانت مصر في العصور القديمة والحديثة بؤرة ساخنة لتلك الاحتجاجات، وكما لفتت ثورة يناير المصرية الأنظار إلى بقية الدول التي شهدت شعوبها صحوة الربيع العربي، تشير بردية “صرخة نبي” أو بردية “إيبوير” المحفوظة بالمتحف الوطني الهولندي للآثار، إلى أن أولى ثورات الجياع قام بها المصريون في العصر الفرعوني عام 2281 قبل الميلاد، ضد الملك بيبي الثاني الذي حكم مصر لمدة 96 سنة وهي الأطول في تاريخ ملوك مصر.
استمرت هذه الثورة لسبع سنوات تحت شعار “الأرض لمن يزرعها، والحرفة لمن احترفها”، وبهذه العبارة أُرخت تلك المرحلة: “نامي جياع الشعب نامي.. حرستك آلهة الطعام.. نامي فإن لم تشبعي.. من يقظة فمن المنام.. نامي على زيف الوعود.. يُذاق في عسل الكلام”.
تكرر الحدث في عهد بطليموس الثالث والرابع في سوريا، ثم حمل المصريون مجددًا راية الجوع في عهد رمسيس الثالث بعد ارتفاع الأسعار وتدهور الأوضاع الاقتصادية، ثم في زمن الدولة الإخشيدية والخلافة الفاطمية، ما يعني أن الجوع مهد السبيل إلى اندلاع العديد من الثورات، حيث كان رغيف الخبز الدافع الأول والعنوان الرئيسي في عدة مشاهد تاريخية من ثورات العالم، رغم اقتران بعضها بالقيم والمبادئ الاجتماعية.
وإذا قفزنا بالزمن إلى فترة السبعينيات، سنجد أن ارتفاع سعر رغيف الخبز في مصر ساهم في اندلاع “انتفاضة الخبز” عام 1977 ضد الرئيس الراحل أنور السادات الذي تراجع لاحقًا عن قراره.
حرك الخبز أيضًا الشوارع التونسية عام 1983، عقب قرار حكومي ينص على إلغاء الدعم عن العجين ومشتقاته، ما أدى تلقائيًا إلى رفع أسعار الخبز بنسبة تزيد على 100%، واستمرار الانتفاضة إلى عام 1984 حتى خرج الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة وأعلن تراجع حكومته عن هذه الخطوة.
لقنت هذه التجربة بعض الأنظمة العربية الأخرى دروسًا في التعامل مع الاستقلال الغذائي، ما دفعها إلى جعل الغذاء على قائمة الأولويات
انتقلت الانتفاضة إلى المغرب في نفس العام (1984)، لنفس السبب، وفي الوقت ذاته فجرتها عوامل أخرى مثل البطالة وارتفاع حالات القمع السياسي في تلك الفترة، وكما الثورات السابقة واجهت الحكومة هذه الاحتجاجات بالتراجع عن قرارها. عقب هدوء الشوارع المغربية، انتفض الجزائريون عام 1988 احتجاجًا على غلاء الأسعار وتردي الأوضاع الاقتصادية، إذ نزلوا إلى الميادين بأكياس دقيق فارغة بدلًا من إعلاء أعلام بلادهم.
متظاهرون في مدينة بانياس السورية في مايو/ أيار 2011 يرفعون أرغفة الخبز نصرة لمدينة درعا المحاصرة حينها
تبع الأردن مسار انتفاضات الخبز بعد عام واحد فقط من انتفاضة الجزائر، ولكنه شهد الاحتجاجات مرتين، الأولى عام 1989 والثانية في عام 1996، وكلاهما في مدينة معان الجنوبية، وكلاهما أيضًا لأسباب متعلقة برفع أسعار المواد الغذائية الأساسية وأبرزها الخبز الذي ارتفع سعره من 15% إلى 50%. لقنت هذه التجربة بعض الأنظمة العربية الأخرى دروسًا في التعامل مع الاستقلال الغذائي، ما دفعها إلى جعل الغذاء على قائمة الأولويات، وذلك ما يفسر ردة فعل حافظ الأسد الذي أشاد في خطاباته في أكثر من مرة الفلاحين، ودعم موقفه بعض المسؤولين السوريين الذين قالوا إن بلادهم ليست بحاجة إلى استيراد القمح، كإشارة إلى الرخاء الاقتصادي الذي تنعم به سوريا.
كانت السعودية تراقب الوضع عن بعد، حتى أدركت أن الاحتقان الشعبي في دول شرق الأوسط قد يمتد إليها، وحينها قرر ملك السعودية رفع رواتب المواطنين وشراء أراض في البلدان الخصبة مثل إثيوبيا لكي يضمن تدفق الإمدادات الغذائية
وبعد عدة أعوام، أطلت هذه الثورات من جديد بشكل عالمي تزامنًا مع الأزمة المالية والاقتصادية عام 2008 وارتفاع سعر القمح ثلاث مرات بالسوق العالمية، فبحسب مدير مركز بون للأبحاث التنموية في ألمانيا، يواخيم فون براون، فإن “عام 2008 شهد 50 حالة من الاضطرابات والاحتجاجات، قاد بعضها إلى تغييرات في الأنظمة الحاكمة. هذه تعتبر بالنسبة لنا تجربة جديدة”، ما أثر لاحقًا على أجندة وسياسات الدول التي أدركت أن العالم بات قرية صغيرة متشابكة وإذا بدأ احتجاج ما في منطقة معينة، فإن العالم كله معرض للإصابة بعدوى التمرد ذاتها.
حدث جزء من تلك الاضطرابات والاحتجاجات في بعض المدن المصرية واليمنية التي اعترضت على الغلاء كما أصيبت دول مثل المغرب وموريتانيا والأردن وسوريا ولبنان بقلق اجتماعي وسياسي من ارتفاع الأسعار العالمية في تلك الفترة، ما أدى إلى تداول أخبار وتحذيرات من اتساع خريطة الجوع في العالم، فعلى سبيل المثال، خلقت موجات الجفاف في سوريا ما بين عامي 2006 و2010 بيئة خصبة لاندلاع الانتفاضات، ما دفع المزارعين إلى ترك حقولهم ورفع حدة التوتر والسخط بين السوريين والحكومة.
في هذه الأثناء، كانت السعودية تراقب الوضع عن بعد، حتى أدركت أن الاحتقان الشعبي في دول شرق الأوسط قد يمتد إليها ويبث أفكاره بين مواطنيها، وحينها قرر ملك السعودية رفع رواتب المواطنين وإضافة إلى ذلك، قررت شراء أراض في البلدان الخصبة مثل إثيوبيا لكي تضمن تدفق الإمدادات الغذائية وبالتالي تأمن نفسها من أي أحداث شغب أو تمرد.
هل كانت انتفاضات الربيع العربي ثورات جياع؟
تختلف الآراء والأجوبة عن هذا السؤال، لكن في الإجمال يمكن الاتفاق على أن السلع الأساسية أحد المحركات الرئيسية التي أثارت انتفاضات الربيع العربي، لا سيما أن كلمة “عيش” كانت واحدة من الكلمات التي تصدرت الهتافات، فضلًا عن احتجاجات السودان التي خرج خلالها آلاف السودانيين إلى الشوارع عام 2018، اعتراضًا على رفع أسعار الخبز ولكن سرعان ما صب المحتجون غضبهم على الرئيس عمر البشير ونظامه، وطالبوه بالرحيل.
بالمحصلة، لا يعني نقص المواد الغذائية أو ارتفاع الأسعار أن هناك ندرة في الموارد الطبيعية، ففي الغالب يكون السبب سوء في الإدارة السياسية وتوزيع الثروات، ولذلك سيقف الغضب الشعبي عائقًا دائمًا أمام أطماع الأنظمة التي تسعى للسيطرة الاجتماعية والاقتصادية على شعوبها من خلال المخابز ومحاصيل الفلاحين.