كل ثمرة كانت بذرة انتشت في ظلام باطن الأرض وشكلت شبكة من الجذور المتماسكة، ثم بدأت تظهر فوق الأرض وتحت نور الشمس وضيائها، هي نتائج عمل دؤوب بطيء راسخ يكرر نتاجه طالما بقيت هذه الجذور والبذور مخفيَّة. كذلك الحال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للإنسان المستضعَف، بدأ ببذرة خبيثة، أساسها خُلق استمرأه واعتاده حتى وُسِمَ به. هذا الخلق أدركه جيدًا المستبِد وعمل جاهدًا على حسن استثماره كي تستمر ثماره هو الآخر.
ولو حاولنا حصر مفردات الأخلاق التي خلقت حالة المستضعَفين التي نحلم بالخلاص منها، لوجدنا أساسها يكمن في الأفكار التي تبنوها وأصبحت ثقافةً وسلوكًا لهم، فالفكرة التي يعطيها الإنسان أكبر قيمة في نفسه العميقة هي التي تنتصر، وإن حاول التخلص من نتاجها دون تغييرها ذاتها، وهنا جذر مشكلة المستضعَفين، فكرهم الذي أصبح أخلاقهم.
بدأ الأمر من الخوف على الرزق والخوف من الغد المجهول ألَّا يكون فيه عمل ولا كسب ولا مال، فمال الناس إلى التخلي عن المروءة والشهامة شيئًا فشيئًا، حيث تحولت فكرة أن الرزَّاق هو الله إلى أن الرزَّاق هو العمل والكسب العقلي والحركي، ولأن المستبِد ضَمِنَ تعليمًا تقوم مخرجاته على ربط الرزق بالسبب والنتيجة، أصبح غالبية الناس يؤمنون أن مسايرة قوانين العمل وطاعة الدولة أو رب العمل – حتى في الباطل – هما أساس الحفاظ على الرزق وأساس التعقل والحكمة.
وهذا ما استغله المستبِد أيما استغلال، فعمل جاهدًا على ربط أرزاق الناس بمؤسساته التي يهيمن عليها، فلا وظيفة لمن لا ينتسب لحزبه، ولا تجارة لمن لا يتشارك مع أركان نظامه، ولا ترقية لمن لا يتزلَّف إلى كل من سَفُلَ وانحطَّ من الناس ذوي الخُلُقِ الوضيع، ولا مصلحة تُقضى دون رشوة تُدفع للآلهة الجديدة التي حلَّت شيئًا فشيئًا مكان الله، وأصبح لها عظمتها وتقديسها، وأحيطت بقداسة محكومة بمنطق عقلي عملي لا يقبل النقد ولا حتى التنبيه.
فالخوف على الرزق أورث غالبية الناس المهانة وقلة الحياء والدناءة، وزاد الطين بلَّة رؤيتهم لأزلام الطغاة يسرحون ويمرحون بالمال والمتاع، حتى أصبحوا قدوة لمن دخل فيهم ظانًا – بغرور نفسه – أنه لن يدفع الثمن من أخلاقه وشرفه كما دفعوا، ولكن هيهات، هي منظومة لا تقبل التجزئة، من دخلها كان فاسدًا ثم مفسدًا.
ومن أخلاقهم الغيرة والتحاسد، فبعد ضيق الرزق والخوف من الغد المجهول، ينشأ خلق غريزي متعاظم هو التحاسد بين المستضعَفين ونسيان المستبِدين، ويصبح التوجه بالبغضاء والعداوة إلى ذلك الذي حصَّل مادةً وحظوةً أكثر في حرم المهانة الذي سيَّجَهُ المستبِد بهالة عظمته وجبروته.
يقينك هو فكرك الموثوق المختبر، الذي به تفهم تصاريف الحياة، وبه تصبر صبرًا جميلًا حتى على ما لم تحط به خُبرا
بل إن الغيرة والتحاسد تكون على أشدها إذا تفوَّق عليهم مكتسب للزرق الحلال الوفير، أو متعفف لا يعنيه من كل هذا العالم إلا كرامته وخلقه، فتراهم يتوجهون إليه بتهم وإشاعات تشكِّك في كل شيء فيه، أصله ونسبه وعقله وفكره وماله طبعًا، وإن وجدوا عليه زلة من الزلات التي يقع فيها غالبية البشر، جعلوها الكبيرة التي لا غفران بعدها، واستثمروها وروجوها لكي يريحوا البقية الباقية من ضمائرهم المعذبة بالذل والمهانة، والنتيجة مجتمع غير آمن تنتشر فيه الفوضى الفكرية والخلقية ولا يبقى صالحًا – حتى لبذرة إصلاح يحاول دفنها تحت التراب – بعض ممن بقي عندهم شعاع الأمل في التغيير.
ومن أخلاقهم – وأيضًا نتيجة لما سبق – قلة الصبر وعدم تحمل أي أذى مهما صَغُر، فيسود الاستعجال إلى الخلاص من كل ألم قد يكون ابتلاءً من الله يجب التعامل معه وفق قوانين الله في تغيير ما بالأنفس، فنرى المستضعَف يصيبه الهلع فيسارع إلى دفع الرشوة وقبول مزيد من المهانة والعمل في غير موضع الخير، وما ذلك إلا لضعف في يقينه بربه وعدم فهمه لمصدر القوة في هذا الكون، فالجهل والغباء اللذان ورَّثَهما نظام التعليم لا يسمح للمسكين بإدراك الأسباب التسلسلية وصولًا إلى السبب والمُسبب الأساس الذي بيده كل شيء.
فضعف اليقين أصبح خُلقًا، وكما قال ابن القيم رحمه الله: “من ضعف يقينه، قل صبره”، فيقينك هو فكرك الموثوق المختبر الذي به تفهم تصاريف الحياة، وبه تصبر صبرًا جميلًا حتى على ما لم تحط به خُبرا، وما ذلك إلا لأنك تثق بمآلات الأمور وحسن ختامها.
ينتشر بعد ذلك تباعًا قلة الحياء عند فعل المعايب والمهانات، فترى الناس يتساهلون في خُلق الكذب والرشوة والغيبة والسكوت عن الخطأ الفكري والعملي، وقبول بعض تصرفات وأفكار تقود إلى ضياع حقوق الناس، وتراهم يقدسون أشخاصًا بعينهم، يخفون معايبهم وتصرفاتهم المستهجنة ويشيعون أعمالًا يسمونها إنجازات عظيمة حتى لو لم يستفيدوا منها بشيء، وطبعًا يبدأ ذلك بالسكوت حتى ينتهي إلى المجاهرة والمفاخرة والمناصرة، وهنا يكون قد وُلِد في المجتمع الزعيم القدوة الفذ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وتباعًا، وبالتسلسل المنطقي، تنتشر سيطرة نهم إشباع الغرائز بطريقة غرائبية وبالتدريج، فالغرائز كينونة بشرية خَلقية لا يمكن عزلها ولا تجاهلها. وإن لم تشبع بطرق أخلاقية مصونة، أشبعت بالحرام والذل والمخالفة لكل منطق بشري سوي كريم، ولأن المستبِد ربط الرزق برضاه وبقوانين مؤسساته التي نادرًا ما تضع الخُلق القويم في اعتبارها، أصبح غالبية إشباع الغرائز مرتبطًا باتباع الركب السائر. إلى أين؟ لا أحد من السائرين يعرف إلى أين! حتى المستبِد نفسه، وإن ظنَّ ذلك.
وأخيرًا يسود خلق النفعية المصلحيَّة (البراغماتية) التي تبرر كل شيء للنفس وللآخر، وللمستبِد – طبعًا – الذي يصبح كل ما يفعله خيرًا مطلقًا، والمخالف من أهل الحكمة والشجاعة، خالف لأنه لم يدرك الدنيا ولم يحسن فهمها، فهو بوصفهم، لا يفهم في السياسة.
وبعد سيادة النفعية، تكون أهبلًا إذا استغربت انتشار أخلاق الضياع والمجون.