عقب انتخاب الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عام 2016، أشار إلى إمكانية إيجاد خيار حقيقي لتحقيق السلام بين الإسرائيليين والشعب الفلسطيني، وكان واضحًا أن هذه المسألة إحدى أولوياته الرئيسية، كما كانت دومًا بالنسبة للرؤساء الأمريكيين السابقين، إلا أن تعامل ترامب مع هذا الملف كان أكثر ميلًا للجانب الإسرائيلي وأكثر إجحافًا بحق الفلسطينيين، فمنذ توليه الحكم اعترف بمدينة القدس عاصمة لـ”إسرائيل” ونقل السفارة الأمريكية إلى هناك وشرعن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية وضم الجولان السوري المحتل إلى “إسرائيل”، دون أي اعتبار لحقوق الفلسطينيين أو القانون الدولي.
ومؤخرًا، أعلن عما تُسمى “صفقة القرن” أو “خطة ترامب للسلام”، التي أقرت متجاهلة للوجود الفلسطيني ووضعه القانوني، فهي تضع الأراضي الفلسطينية بين أيدي “إسرائيل”، وتهديها السيادة شبه الكاملة لأملاك وتحركات وقرارات الشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من أن جزءًا كبيرًا من تلك البنود تصف الصورة الحاليّة أو الوضع القائم هناك، فإن هذه الصفقة تضفي صبغة قانونية وشرعية لممارسات الاحتلال الإسرائيلي الجائرة ضد الشعب الفلسطيني، كما تمنحه مساحة أكبر للتوسع دون أي مساءلة قانونية أو دولية للحقوق الإنسانية والسياسية والاجتماعية للفلسطينيين.
يضاف إلى ذلك، بأنها تُعطي “إسرائيل” حجة أو أداة لإظهار الشعب الفلسطيني بموقف الطرف الرافض لإيجاد حل سلمي للصراع أمام الرأي العام، وفي المقابل، تبين “إسرائيل” في صورة الطرف المسالم الذي يدعو الفلسطينيين إلى الجلوس على طاولة واحدة لإتمام عملية السلام، وبهذه الطريقة تضمن الدعم والقبول الدولي لخطواتها المستقبلية في الاستيلاء على ما تبقى من حقوق وأراضي الفلسطينيين، ولكن على أي حال وبصرف النظر عن محاولاتها لتشويه الحقيقة إلا أنه لا يمكن النظر إلى “صفقة القرن” إلا على أنها نوع من “البلطجة” والوحشية الإسرائيلية تحت الرعاية والمباركة الأمريكية.
خطة حمائية وإستراتيجية انتخابية
فجر الإعلان عن “صفقة القرن” ردود فعل فلسطينية وعربية غاضبة، لا سيما أن توقيت هذه الخطوة جاء مواتيًا لمصالح ترامب ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الشخصية والحزبية، وفي إطار دعم صورتهما الشعبية، إذ يأتي القرار قبل الانتخابات الإسرائيلية التي ستجري في مارس/آذار القادم، ومع بداية جلسات الكنيست للبت بحصانة نتنياهو ضد تهم الفساد، وفي الوقت الذي يواجه في ترامب محاكمة لعزله أمام مجلس الشيوخ الأمريكي، ومنافسة قوية من مرشحي الرئاسة الأمريكية المحتملين لعام 2020.
وبما أن الصفقة جاءت لدعم حملاتهما الانتخابية من جهة وتكريس الاحتلال الإسرائيلي من جهة أخرى، تضاعف الرفض الفلسطيني وتصاعدت حدته تجاهها، إذ اتخذت الفصائل الفلسطينية موقفًا موحدًا تجاه هذه الصفقة، وعبرت عن عزمها على “إفشال” الصفقة والتصدي لها، وكانت قناة “كان” الرسمية الإسرائيلية، قد نقلت عن شخصيات سياسية في القيادة الفلسطينية لم تسمهم، أن هناك “أجواء ما قبل الانتفاضة الأولى (1987-1993)”، والقيادة الفلسطينية تدرس قطع العلاقات مع “إسرائيل” ووقف التنسيق الأمني.
أضافت القناة أيضًا أن رئيس الأركان الإسرائيلي أفيف كوخافي ألغى ندوة عسكرية مقررة مسبقًا، تجنبًا لأي تصعيد في الضفة الغربية وقطاع غزة مع إعلان ترامب تفاصيل “صفقة القرن”، فمن المرجح ألا يبقى الرفض الفلسطيني اعتراضًا نظريًا ومرسومًا بالكلمات والشعارات، بل أن يُترجم على أرض الواقع إلى حراكات شعبية، كشكل من أشكال المقاطعة والمقاومة ضد الاحتلال.
خيارات التعامل مع الصفقة الإسرائيلية الأمريكية
دعت حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، وفصائل العمل الوطني في محافظة طولكرم، الشعب الفلسطيني للخروج إلى الشوارع في تظاهرات حاشدة، وفي السياق ذاته، قال عزام الأحمد عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، إن القيادة الفلسطينية ستتخذ قرارًا مدروسًا وعمليًا، بهدف إفشال الخطة المزعومة، مشيرًا إلى ضرورة الانسحاب من كل الاتفاقيات المبرمة مع “إسرائيل”، كما ذكر أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، سيدعو إلى اجتماع للقيادة الفلسطينية (يضم فصائل منظمة التحرير واللجنة التنفيذية للمنظمة وقادة الأمن واللجنة المركزية لحركة فتح ورئيس الحكومة) عقب إعلان الإدارة الأمريكية عن صفقة القرن المزعومة.
التقديرات في جهاز الأمن أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، لن يوقف التنسيق الأمني في الفترة القريبة وسيفضل الانتظار من أجل رؤية تبعات “صفقة القرن” على الأرض
وكان من المخطط أن يتحدث الرئيس عباس في مجلس الأمن الدولي خلال الأسبوعين المقبلين عن خطة السلام الأمريكية المزعومة، متأملًا أن يصوت مجلس الأمن على مشروع قرار ضد خطة ترامب، وذلك في الوقت الذي أرسل فيه عباس رسالة خطية إلى نتنياهو، مهددًا بـ”كسر القواعد” ووقف التنسيق الأمني والتنصل من كل الاتفاقيات الموقعة والدعوة للنزول إلى الشوارع في احتجاجات حاشدة سلمية، بحسب ما أوردته القناة 12 الإسرائيلية، ولكن ذكرت صحيفة “هآرتس” أن جهاز الأمن الإسرائيلي يسعى للحفاظ على التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية ومنع نشوب المواجهات وتنظيم مظاهرات كبيرة.
وأضافت “التقديرات في جهاز الأمن أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، لن يوقف التنسيق الأمني في الفترة القريبة وسيفضل الانتظار من أجل رؤية تبعات “صفقة القرن” على الأرض”، وبصرف النظر عن مدى جدية تلك التصريحات ومدى جاهزية القيادات الفلسطينية لخوض هذه المعركة مع الاحتلال، إلا أن العديد من المحللين والناشطين السياسيين يرون أن تبني وسائل حازمة وقاطعة تجاه هذه الصفقة، سوف يعرقلها ويفسد خطة “إسرائيل” بالكامل، وكانت أبرز أدوات الرد المقترحة:
حل اتفاقية أوسلو
وصف المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد اتفاقية أوسلو سابقًا بأنها “استسلام فلسطيني”، وهي وجهة نظر تتبناها شريحة واسعة من الشعب الفلسطيني، وينتظرها الكثيرون ممن يظنون بأن عدة قيادات فلسطينية ومن بينهم الرئيس عباس وأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات ألمحا إلى اتخاذ خطوة كهذه حين تحدث الأخير عن “خطوات” أبرزها “إعلان انتهاء المرحلة الانتقالية” بمعنى إنهاء اتفاقية أوسلو، ولكن الأمل المرجو كان يمكن أن يتحقق لو أن ذلك لم يعن في الوقت ذاته حل السلطة نفسها لأن القيادات الداخلية مشغولة بالسباق إلى كرسي خلافة الرئيس عباس، عدا عن ذلك، فإن القضية الفلسطينية مرت بمراحل مفصلية وفرضت عليها قرارات راديكالية سابقة، وكان حينها لا بد أن تأخذ السلطة خطوة مماثلة لردع انتهاكات الاحتلال الإسرئيلي المستمرة، لكنها لم تفعل وفضلت غض الطرف عنها، ومثالًا على ذلك، رد فعلها على إعلان القدس عاصمة لـ”إسرائيل”.
حل السلطة يعني وقف التنسيق معها وسحب الاعتراف بها ومقاطعة المفاوضات معها وإلغاء كل الاتفاقيات الموقعة (أوسلو وما تلاها من اتفاقيات أمنية واقتصادية) والالتزامات المترتبة عليها
انضمت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأوضحت على لسان القيادي هاني الثوابتة، أن “المطلوب هو القطع مع كل الحقبة السابقة من اتفاقات سياسية، بمعنى أوسلو وما تلاها من اتفاقيات أمنية واقتصادية”.
ولكن إذا حدث ذلك، فلا شك أن “إسرائيل” ستتلقى صفعة مفاجئة على وجهها، لأن حل السلطة يعني وقف التنسيق معها وسحب الاعتراف بها ومقاطعة المفاوضات معها وإلغاء كل الاتفاقيات الموقعة (أوسلو وما تلاها من اتفاقيات أمنية واقتصادية) والالتزامات المترتبة عليها وانتقال التبعية الإدارية للفلسطينيين إلى الاحتلال، لكي يتحمل التكاليف المادية والمسؤولية المدنية ويدفع ثمن تجاوزاته القانونية والإنسانية، وذلك ضمن سياسة “قلب الطاولة”، بحسب وصف الباحث في شؤون الشرق الأوسط، فراس أبو هلال.
في السياق ذاته، يقول يوناتان فريمان أستاذ العلوم السياسية بالجامعة العبرية: “صفقة القرن واتفاق أوسلو يتحدث فيهما الأطراف الثلاث: الفلسطينيون والإسرائيليون والأمريكان، عن قيام سلطة مستقلة، “إسرائيل” لا تريد التحكم بالفلسطينيين والسيطرة عليهم، لكنها في الوقت ذاته ملزمة بالانسحاب من المناطق الفلسطينية التي توجد فيها اليوم”، مضيفًا “في حين أن اتفاق أوسلو سعى لمنح “إسرائيل” شرعية في العالم العربي، فإن صفقة القرن حملت الهدف ذاته أيضًا”.
الوحدة الفلسطينية
قالت إذاعة صوت فلسطين الحكومية في مقابلة مع عضو اللجنة المركزية لحركة فتح عزام الأحمد، إن وفدًا من الفصائل الفلسطينية كافة سيتجه إلى غزة تمهيدًا لزيارة الرئيس عباس إلى القطاع، بهدف توحيد الموقف الفلسطيني الرافض للصفقة الإسرائيلية الأمريكية، وتحريك هذا الملف على المستوى الدبلوماسي باتجاه الجامعة العربية وقمة عدم الانحياز ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومجلس الأمن الدولي، خصوصًا أن الأمم المتحدة عبرت صراحة عبر قراراتها عن أن “العلاقة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” تشجع “إسرائيل” على اتخاذ سياسات وممارسات توسعية وعدوانية”.
يزداد هذا الجانب أهمية بسبب فقدان الفلسطينيين للدعم العربي، وخاصةً بعد مباركة الصفقة من بعض الحكومات العربية وهي الجهات التي قادت موجات التطبيع الأخيرة
ومنذ العام الماضي، قال المتحدث الرسمي باسم حركة المقاومة الإسلامية “حماس” حازم قاسم: “المطلوب فلسطينيًا إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة، عبر قيام السلطة الفلسطينية بتطبيق اتفاقات المصالحة، خاصة اتفاق القاهرة 2011، وتفاهمات بيروت”، في محاولة لتهيئة الأرضية لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية ورفع العقوبات عن قطاع غزة المحاصر وتوحيد الصفوف الفلسطينية ووقف ملاحقات المقاومة، عدا عن ذلك، دعا إلى ضرورة اتباع إستراتيجية إعلامية وطنية لكشف جريمة الصفقة ودعم الرواية الفلسطينية في المحافل الدولية كافة.
دعمت هذه الإستراتيجية حركة الجهاد الإسلامي على لسان القيادي أحمد المدلل الذي قال: “صفقة القرن تستهدف القضية الفلسطينية والدول العربية أيضًا، وهذا يتطلب وجود مشروع فلسطيني موحد من أجل مواجهة هذه الصفقة”، مشددًا في تصريحه على “التعجيل في لقاء الأمناء العاميين للفصائل الفلسطينية، وأن يكون هناك إستراتيجية فلسطينية موحدة، وأن ينهي كل العقوبات على قطاع غزة المحاصر”.
في هذا الخصوص، يرى البعض أن إجماع الفصائل الفلسطينية على ملفي القدس واللاجئين يشجع الجميع على إعلان الوحدة والتمسك بمبادئها، إلا أن السجل التاريخي الذي تملكه الأحزاب فيما يتعلق بمسألة الانقسام يثير الشكوك لدى البعض الآخر لأن اجتماعات الأحزاب السابقة لم تثمر عن أي نتائج إيجابية، وأخلت بوعودها في كل مرة، فضلًا عن أن هذا التحرك أتى متأخرًا ولا يناسب خطورة الوضع الحاليّ، لا سيما أن الصفقة تسلب الفلسطينين تقريبًا كل شيء، فليس لديهم أرض ولا وطن ولا تاريخ ولا القدس ولا حق العودة ولا وادي الأردن ولا أي شكل من أشكال الحياة اليومية الاعتيادية بسبب جميع تعقيدات الاحتلال والحواجز العسكرية.
يزداد هذا الجانب أهمية بسبب فقدان الفلسطينيين للدعم العربي، وخاصةً بعد مباركة الصفقة من بعض الحكومات العربية وهي الجهات التي قادت موجات التطبيع الأخيرة، وذلك عدا عن الأزمات السياسية التي تعصف ببلدان مثل سوريا والعراق، ولا تمنحها المساعدة اللازمة لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
المواجهة والتصعيد العسكري
واحدة من السبل الباقية للتصدي للخطة الأمريكية الإسرائيلية، هي المقاومة الشعبية التي يمكن من خلالها البدء بموجة جديدة وتصعيدية من الكفاح والنضال الفلسطيني الذي عهدناه، لكن هذه المرة لا بد ألا تكون أهدافها فقط الوصول إلى المساواة في دولة واحدة، لأن ذلك يقلل من شأن ما يحدث وسيحدث، وعوضًا عن ذلك أن تكون حالة من الغضب الشعبي والاستنفار الواسع الشبيهة بالهبات والانتفاضات الشعبية التي تؤكد حرص الشعب الفلسطيني على عدم التفريط بأرضه وحقوقه.
ولكن أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخليل الدكتور بلال الشوبكي، استبعد هذا الاحتمال على أساس أنه لا يرى مؤشرات لقدرة الفصائل على وضع برنامج ميداني موحد لهذه المواجهة، ورغم ذلك، نشر الجيش الإسرائيلي تعزيزات عسكرية إضافية في الضفة الغربية المحتلة وعلى الحدود مع قطاع غزة، تحسبًا للاحتجاجات.
ينتظر العالم أن تعلن السلطة الفلسطينية عزمها الاستعانة بإحدى تلك الوسائل، رغم أن الأمل الضئيل والوضع الراهن يستلزم خطوات سريعة ومدروسة لإنقاذ القضية الفلسطينية، ولعل غسان كنفاني امتلك رؤية واضحة عن ذلك، حين قال ذات مرة: “يبدو من المستحيل في هذا العصر أن تجد الأمم حظوظها على قارعة الطريق، بل يتعيّن عليها أن تنتزعها من فكّ عالمٍ متأزّم”.