في منتصف القرن العشرين قاد عدد من الروائيين الفرنسيين مثل ناتالي ساروت وغرييه وكلود سيمون وميشيل بوتور، عملية إحداث تحول في شكل الرواية ومضمونها وتكوينها الفني وذلك بهدم بنيان الرواية التقليدية مع محاولات إفراز أشكال جديدة بتقنيات ورؤى مختلفة انصب هدفها على إرباك القارئ وذلك للحصول على نوع مختلف من التأثير.
وقد جاءت عملية هدم الرواية التقليدية لتعصف بأهم مكونات السرد التقليدي وذلك من خلال إفراغ الرواية من الطابع الكلاسيكي من حيث وضوح العقدة وتوازن الأحداث وتطورها وهو ما يعني التركيز على الوصف مع تراجع السرد، ويمكن القول إن هذه المعادلة الجديدة التي فرضها رواد الرواية الحديثة تعطي الرواية بُعدًا أشد كثافة في المعالجة وذلك من خلال التركيز على ظواهر الأشياء عوضًا عن تعليلها.
ويمكن القول إن الكاتب المصري “وحيد الطويلة” يعد واحدًا من أهم الكتاب الذين قفزوا فوق حواجز الرواية التقليدية، فالكاتب القادم من ميدان الشعر متسلحًا بخياله إلى ملعب الرواية قدم العديد من الأعمال القوية التي كُتبت لتعيش وذلك لأن سطورها حية لا يمكن أن تُنسى بمجرد قراءتها، فبداية من رواية “ألعاب الهوى” ومرورًا برواية “أحمر خفيف” وباب الليل” و”حذاء فيلليني” ووصولًا إلى روايته الأخيرة “جنازة جديدة لعماد حمدي” نرى أن الطويلة لديه ثيمة تؤرقه وظلت ترافقه طوال مشواره الأدبي وهي الصراع مع السلطة السياسية، فشخوص روايته دومًا ضحايا السلطة التي ترفض وبكل قوة أن يتسلل الرعاع إلى عالمهم، وبين طيات رواياته وبشكل غير مباشر يحكي كاتبنا عن كل بلد غادره الأمل منذ اعتلاء الديكتاتوريات العربية لسدة الحكم.
الصراع بين دولة الضباط ودولة المرشدين
“لو ترك أبناء الضباط المهنة للرعاع سيتسلل الأوباش إلى حياتنا ولن نستطيع أن نعيش، ثم إن الزمن القادم زمن الضباط”.
احترس أيها القارئ، قف مكانك.. بهذه الكلمات تبدأ رواية “جنازة جديدة لعماد حمدي” ويبدأ معها تورطنا كقراء في النص المكتوب أمامنا وكأن الكاتب سيمسكنا من أيدينا ليعرفنا على شخصياته ويطلعنا على مسار الأحداث الممتد على ثلاثمائة صفحة، وأول حدث نتورط به هو الذهاب مع ضابط الشرطة المتقاعد “فجنون” لسرداق عزاء هوجان ابن ناجح زعيم جمهورية المسجلين خطر.
في أثناء الطريق إلى الجنازة يحكي لنا الكاتب قصة “فجنون” الذي وجد نفسه ابنًا لضابط شرطة كبير ورغم عشقه وولعه بالرسم، أجبره والده على دخول كلية الشرطة، ورغم جميع محاولات الابن للدفاع عن رغبته في أن يصبح فنانًا، فقد انهزم أمام سلطة والده وعمل في نهاية المطاف كضابط مباحث في أقسام الشرطة.
“والدك الضابط الفخيم قال إنك يجب أن تتواجد في بيئة شرطية.. حتى في المصيف!.. وفي الحمام إن أمكن، الجرابيع في المصايف الأخرى، وحذار أن تتهور ويعرف أحد أنك زفت، رسَّام”.
يدرك فجنون من كلام والده أنه لا مكان للفن في عالمه الجديد، هناك فقط البطولات الزائفة التي يتفاخر بها زملاؤه الضباط وعالم الجريمة الذي يحاصره شيئًا فشيئًا، فمن خلال ذكريات فجنون نطلع على العلاقة المشبوهة بين المسجلين خطر والشرطة، تلك العلاقة المبنية على تبادل المصالح تارة والتهديد تارة أخرى، فالشرطة كانت تستعين بالمسجلين خطر على الدوام من أجل توجيه عملية الانتخابات وكانت مهمتهم ترتكز على تخريب سرداق مرشح وحماية سرداق مرشح آخر.
الكاتب وحيد طويلة وغلاف روايته
بنية السرد الروائي
في رواية “جنازة جديدة لعماد حمدي” ليس هناك قالب للنص أي بداية ووسط ونهاية، هناك فقط لوحة تفرقت ملامحها مثل قطع الأحجية ليجمعها القارئ ويتعرف على شخوصها وحكاياتهم المعقدة والمتشاكبة، تبدأ الرواية بذهاب الضابط فجنون إلى سرداق العزاء وخلال الطريق نستمع إلى الكثير من الحكايات التي تشكل عالمه المريب والغامض للأشخاص الأكثر شرًا والمجرمين والمنسيين والمهمشين، مع فجنون نذهب إلى قاع المدينة، ذلك العالم السفلي الذي نتعرف فيه على المعلم ناجح وابنة هوجان وأم خنوفة وأم حواء وسيد كباية.
اعتمد الكاتب في سرده على آلية تعاقب الرواة
والحقيقة أن الكاتب أبدع في السرد الروائي وأقنعنا بشكل كبير أن البطل الذي يحكي فنان، إذ استطاع بشكل مبهر أن يرسم أشخاصه بقصصهم المروعة وتحايلهم على القانون، وبروح الفنان التي تسكنه وبمبضع النحات الماهر ينقل لنا فجنون عالم المجرمين بشكل تفكيكي دون الوقوع في مغبة الأحكام الأخلاقية ومن غير محاولة اكتساب التعاطف المجاني.
وقد اعتمد الكاتب في سرده على آلية تعاقب الرواة، فالضابط فجنون يحكي أغلب الأحداث من سيارته في طريقه للعزاء، ثم تطل علينا بعد ذلك آلية سرد الراوي العليم التي ترتكز على استخدام ضمير المخاطب في نقل ما يحدث بداخل سرداق العزاء والغوص داخل الشخصيات الموجودة، بعد ذلك يظهر الراوي المتخفي وهو المتأمل البعيد الذي يراقب الأحداث دون التورط فيها، ويشتبك هؤلاء الرواة مع بعضهم البعض طوال سير الأحداث دون إرباك القارئ وإنما على العكس نشعر خلال القراءة بأن الكاتب يقدم لنا مشاهد سينمائية ويتحرك السرد وفقًا لحركة الكاميرا، فهناك الحركة الثابتة وهي التي نراها في سرد الضابط القابع في سيارته، وهناك حركة “الزوم أوت” أو التكبير والتركيز بشكل موغل في التفصيل على تناقضات النفس البشرية وخبراتها وتعقيداتها شديدة الثراء وهو ما يتجسد في كل أحداث سرداق العزاء، كما أن هناك التصوير البانورامي وهو ما تكرر بشدة في الفصل 29 حين كنا نتتبع مصائر الشخصيات التي تعرفنا عليها في العزاء بشكل متتالي.
سلطة الشرطة تتضاءل لصالح سلطة المسجلين خطر
من صفحات الرواية الأولى يظهر لنا جليًا الصراع الخفي بين سلطة الدولة الرسمية وسلطة المسجلين خطر، فقد تبدو الصورة شديدة القتامة ومرعبة إلى حد كبير ولكن عالم دول المرشدين والمجرمين يتضخم بشدة على حساب سلطة الضباط وهو ما ظهر بوضوح في مشهد العزاء، إذ كان الضابط فجنون يجلس على كرسي شاغر بالصف الثالث وحيدًا فلم يجلس بجواره أحد وتنكر له الجميع وذلك على عكس المعلم ناجح كبير دولة المرشدين الذي كان يحتل المشهد كاملًا بجوار رجاله، وهنا يخبرنا الطويلة في مقطع من نصه على لسان الراوي العليم “يعود ناجح إلى مقعده صلبًا مثل البارحة، على وجهه علامات تحدٍّ وارتياح، جاءته الحكومة بثوب باهت، وهو كطاووس في مقعده”.
مات عماد حمدي وكان يحرس جنازته ضابط شرطة يحمل بيده سلاحًا ولكن روحه روح فنان، قتلها والده حين حرمه من امتهان الرسم
ولمزيد من الكوميديا السوداء يخبرنا الضابط فجنون في مشهد فلاش باك بأن المعلم ناجح من صنيعته حيث كان عاشقًا للسلطة ولهذا عمل مرشدًا للمباحث ولكن قوته مع مرور الوقت طغت على قوة الشرطة وأضحى يلقب في دولته باسم الدكتور ناجح.
ما علاقة عماد حمدي بالرواية؟
منذ الصفحة الأولى من الرواية يبدأ التساؤل عن علاقة عماد حمدي بهذا النص، وما الرمزية التي يحملها اسم الرواية؟ ولكن الحقيقة أن تلك العلاقة ستتكشف مع استمرار القراءة، إذ سيخبرنا البطل أن بدايات عمله في جهاز الشرطة ترافقت مع مشهد جنازة عماد حمدي، ففي ذلك اليوم تحديدًا مات عماد حمدي وكان يحرس جنازته ضابط شرطة يحمل بيده سلاحًا ولكن روحه روح فنان قتلها والده حين حرمه من امتهان الرسم ولكن هل ينتصر الفن في النهاية على حساب السلطة؟
في هذه الرواية يبدو أن الكاتب انتصر للفن، إذ تنتهي الرواية بعلاقة حب محتملة في حياة البطل ولوحة جديدة رسمها، والحقيقة أن الانتصار الذي حققه البطل لم يكن في تحقيق حلمه الخاص بعد 20 سنة قضاها في أقسام الشرطة، ولكن الانتصار تجسد في حفاظه على روح الفنان بداخله طوال كل السنوات رغم كل التحديات التي كانت تواجه تلك الروح.