على مدى أكثر من ثلاثة أشهر تواصل الحراك الشعبي في لبنان رافعًا العديد من المطالب التي تفاوتت بين رحيل النظام والطبقة السياسية، إلى إسقاط الحكومة وتشكيل حكومة من أصحاب الاختصاص بعيدًا عن المحاصصة السياسية، وصولًا إلى مواجهة لحظة الحقيقة بعد تشكيل الحكومة الجديدة، وخلال هذه الفترة مرّ الحراك وكذلك القوى السياسية بحالة من المد والجزر وصولًا إلى لحظة مواجهة التحديات التي أفرزها الواقع الجديد، فما أبرز التحديات التي تواجه الحكومة، وأبرز التحديات التي تواجه الحراك الشعبي في المرحلة المقبلة؟
تحديات الحكومة
بعد أن صادق رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون، على حكومة الرئيس حسان دياب التي تألفت بعد شهر ويومين على تكليفه من عشرين وزيرًا وفق منطق المحاصصة، بات أمام حكومة دياب التي سماها “حكومة إنقاذ لبنان” تحديات حقيقية.
التحدي الماثل أمام حكومة دياب هو كسب ثقة المجتمع الدولي والعربي، الذي يتم التعويل عليه من أجل تحصيل المساعدة ماليًا واقتصاديًا للخروج من الأزمة
فمنذ اللحظة الأولى لإعلان الحكومة تحرك الشارع اللبناني ضدها وأعلن رفضه لها لأنه اعتبرها حكومة اللون الواحد، حكومة المحاصصة والسياسيين، فاندفع الناس إلى قطع الطرق في العديد من المناطق ومحاولة الدخول إلى المجلس النيابي، وفي كسب ثقة الشارع يكمن التحدي الأساسي أمام حكومة دياب، فهي بحاجة لإقناع المحتجين والمعتصمين منذ ثلاثة أشهر بأنها ليست حكومة السياسيين المتهمين عندهم بـ”خراب البصرة” وانهيار البلد، وليست حكومة أي طرف من الأطراف السياسية، بل فعلًا حكومة تحاكي تطلعات المعتصمين والمحتجين، وستعمل على تلبية تطلعاتهم وحل الأزمة المالية الاقتصادية وستكافح الفساد وستضع حدًا للهدر والسرقة والتهرب والتهريب وستعمل على إعادة الأموال المنهوبة.
فإذا نجحت حكومة دياب في إقناع الشارع بذلك تكون نجحت في الخطوة الأولى التي يمكن البناء عليها للخطوة الثانية الأخرى، أما إذا فشلت، وهو أمر متوقع، فإنها لن تتمكن من الصمود طويلًا أمام الأزمات التي ستتوالد وتتكاثر ولن تجد لها حلاً.
أما التحدي الثاني الماثل أمام حكومة دياب فهو كسب ثقة المجتمع الدولي والعربي، الذي يتم التعويل عليه من أجل تحصيل المساعدة ماليًا واقتصاديًا للخروج من الأزمة، ومن المعروف أن المجتمع الدولي يرهن مساعدته للبنان بحكومة تلبي تطلعات الشعب اللبناني، ومن هنا أهمية النجاح في الخطوة الأولى للفوز بالخطوة الثانية، فضلًا عن ذلك فإن حكومة دياب أمام مسؤولية إبعاد لبنان عن المحاور الإقليمية والصراعات القائمة في المنطقة باستثناء موضوع العداء لكيان الاحتلال الإسرائيلي، والنجاح في هذه المسؤولية (إبعاد لبنان عن صراعات المنطقة) يُكسب الحكومة الفوز بتحدي كسب ثقة المجتمعين الدولي والعربي، وإلًا فإن الفشل في ذلك سيفاقم الأزمة ويضع لبنان في مواجهة كبرى مع هذين المجتمعين ليس له قدرة على تحمل تبعاتها.
أما التحدي الآخر، الذي يمكن أن يكون الأول في أهميته، هو تحدي إقناع الرئيس دياب الأطراف التي سمته لرئاسة الحكومة، وشاركته تشكيل الحكومة بضرورة التخلي عن سياساتها القائمة على المناكفة والكيدية والمحاصصة وإدخال لبنان في صراعات المحاور، والاكتفاء بدعمه في عملية إنقاذ لبنان اقتصاديًا وماليًا وسياسيًا وأمنيًا، وهو في الحقيقية التحدي الأساسي، فمنه يمكن بناء ثقة مع المعتصمين وكسب ثقة المجتمعين الدولي والعربي، وبالتالي كسب هذا التحدي هو بداية الانتصار في مواجهة هذه المعركة من التحديات.
ولكن لا يبدو، ومن خلال طريقة تشكيل الحكومة وتعامل الأطراف السياسية مع آلية التشكيل، أن طريق الرئيس دياب وحكومته سيكون سهلًا وميسرًا أو أن تلك الأطراف ستساعده في معركة مواجهة التحديات، فما زالت تلك القوى حتى الآن محكومة بمنطق المحاصصة والمصالح الذاتية في مقابل منطق آخر في مكان آخر محكوم بالإلغاء والمعركة الصفرية، وهذا ما يمكن أن يقوض كل الجهود للخروج من الأزمات بقدر ما يمكن أن يشكل متكأً للرئيس الجديد في معركة إدارة التناقضات.
تحديات الحراك الشعبي
أما الحراك الشعبي الذي انطلق ليلة 17 من أكتوبر/تشرين الأول وتواصل على مدى أكثر من ثلاثة أشهر وأحرز بعض النقاط فإنه يجد نفسه اليوم أمام تحديات إضافية لا بد أن يتعامل معها.
أولًا: استطاع هذا الحراك أن يستمر طيلة الشهور الماضية وأن يرغم الحكومة السابقة على تقديم ورقة إصلاحات اقتصادية اجتماعية، بغض النظر إذا ما كانت الحكومة الحاليّة ستأخذ بها أو ببعضها أم لا، واستطاع أيضًا لاحقًا أن يرغم حكومة العهد الأولى على الاستقالة وأن يكون تصوره لشكل وحجم الحكومة الحاليّة حاضرًا في عقل القوى السياسية والكتل النيابية عند تسمية رئيس الحكومة الجديد وعند تشكيل الحكومة أيضًا وحتى عند مناقشة الموازنة في جلسة المجلس الأخيرة.
وكل هذه تعد من المنجزات التي أحرزها الحراك، وكذلك من التحديات التي استطاع أن يتجاوزها ويتخطاها، إلا أنه في قضايا أخرى لم يحرز تقدمًا أو إنجازًا لاعتبارات كثيرة، ولكن ذلك لا يعني أن الحراك انتهى أو أنه أحرز كل ما يريد، فهو بعد تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة حسان دياب بات أمام تحديات إضافية وجديدة لا بد أن يتعامل معها، فما أبرز هذه التحديات؟ وكيف سيتعامل الحراك معها؟
لعل التحدي الأهم الذي ينتظر الحراك بعد تشكيل الحكومة هو في الحفاظ على سلمية وحضارية التحركات والفعاليات التي اعتمدها الحراك طيلة الشهور الماضية، فمن الواضح أن هناك من يحاول حرف الحراك عن هذا المسار، وقد بدا ذلك واضحًا في المواجهات التي حصلت خلال الأسابيع الأخيرة سواء في شارع الحمرا في أثناء الهجوم على مصرف لبنان وبقية المصارف، أم في وسط بيروت في الليالي التي شهدت محاولات لاقتحام المجلس النيابي وقد حصلت مواجهات عنيفة بين القوى الأمنية والمحتجين الذين لجأوا إلى العنف وأعمال الشغب والفوضى والتكسير، وخلفت تلك المواجهات إصابات كثيرة فضلًا عن توقيفات للعديد من المشاركين، وهو بحد ذاته ما يهدد الحراك الشعبي لاحقًا بالانزلاق نحو الفوضى والعنف، وهذا بالطبع سيصيبه في مقتل، إذ إن الكثيرين سينفضون عنه، فضلًا عن أن ذلك سيتيح للمجموعات أو القوى التي تتقن لعبة العنف والفوضى ولديها الإمكانات قيادة الحراك وأخذه إلى المكان الذي تريده هي.
العامل السلبي مع هذه الحكومة، بعد إعداد بيانها الوزاري ونيلها الثقة، والحكم المسبق عليها، قد يجعل الحراك يفقد بعضًا من مصداقيته
ولعل التحدي الثاني أمام الحراك هو في الحفاظ على البُعد الوطني في الفعاليات والشعارات وفي الخطاب الجامع، وهنا يلاحظ أن هناك من بدأ يعمل على تحويل الحراك من الوطني الجامع إلى “الشوارعي” الضيق، وبالطبع هذا أيضًا يشكل تحديًا مهمًا أمام الحراك نجح فيه خلال الشهور الماضية وهو مطالب بتحصين نفسه حياله خلال الأسابيع والشهور المقبلة.
أما التحدي الثالث فهو في رفض الانقياد إلى أي جهة داخلية وخارجية، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر، خاصة أن الجهات التي تحاول الاستغلال و”الاستثمار” في الحراك على المستوى الداخلي والخارجي كثيرة، ولها “أجنداتها” الخاصة، وقد استطاع الحراك أن ينجز بعض النقاط عندما كان عامًا رافضًا لأي تدخل فيه، والحفاظ على ذلك يتيح له القدرة على ترسيخ القناعة به، وفتح الطريق أمامه لتحقيق تطلعاته.
كما أن من التحديات الماثلة أمام الحراك اليوم بعد تشكيل الحكومة، أنه رفع شعار حكومة الاختصاص، وأن الحكومة التي شُكلت، وبغض النظر عن آلية وطريقة التشكيل، تضم وزراءً من أصحاب الكفاءة والاختصاص، ونحت جانبًا كل الوجوه القديمة التي كانت تستفز الشعب اللبناني، ويعتبرها المسؤولة عن معاناته، وبالتالي فإن العامل السلبي على الدوام مع هذه الحكومة، بعد إعداد بيانها الوزاري ونيلها الثقة، والحكم المسبق عليها، قد يجعل الحراك يفقد بعضًا من مصداقيته، وبالتالي فإن التحدي في هذا السياق يكمن في الحكم على ما ستقدمه الحكومة وما ستقوم به، ومن ثم بعد ذلك البناء على الشيء مقتضاه، وإلًا فإن الكثيرين قد يرون أن الحراك ليس إلا ألعوبة بأيدي الآخرين وعند ذلك يفقد مبرر وجوده وبذلك يكون قد سقط بالضربة القاضية.
بين تحديات الحكومة وتحديات الحراك الشعبي يكمن مستقبل البلد، فإذا نجح كل من الطرفين في تجاوز التحديات أمامه فإن ذلك قد يكون في صالح مستقبل البلد، وأما إذا ما فشلا فإن ذلك قد يقود إلى مزيد من الانتظار أو ربما الفوضى التي تحقق غاية الأطراف المتربصة بلبنان واللبنانيين.