ترجمة وتحرير: نون بوست
من المتوقع أن يؤدي انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي في 31 كانون الثاني/ يناير، هذا الأسبوع، إلى زعزعة استقرار الاتحاد الأوروبي وتغيّر موازين القوى في صفوف الدول الأعضاء الـ 27 الأخرى.
من المتوقع أن تستغرق مغادرة المملكة المتحدة للمؤسسات الأوروبية أكثر من ثلاث سنوات ونصف وذلك في أعقاب استفتاء خروجها من الاتحاد الأوروبي، والذي حُدّد في الأول من شهر شباط/ فبراير. خلال انعقاد اللجنة، لم يكن لدى لندن أي ممثل منذ عدة أشهر، في ظل خروج حوالي 73 من أعضاء البرلمان الأوروبي البريطانيين من برلمان ستراسبورغ. وسوف يسجّل الاجتماع حول طاولة المجلس، حيث يجتمع القادة الأوروبيون، لأول مرة منذ تأسيس المنظمة غياب أحد الأطراف.
كيف ستبدو أوروبا بـ 27 عضوا؟ في الحقيقة، سوف تكون الخسارة رقمية، إذ سينخفض عدد سكان الاتحاد الأوروبي بنسبة 66 مليون نسمة، إلى جانب فقدان مساهم رئيسي في ميزانيته وأكثر من 15 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. وحسب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ستصبح المملكة المتحدة من هنا فصاعدًا “منافسا لألمانيا”.
من وجهة نظر جيوسياسية، ستكون عواقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وخيمة بالنسبة لأوروبا، فإلى جانب فرنسا، تعد المملكة المتحدة إلى غاية 31 كانون الثاني/ يناير واحدة من الدولتين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي تعتبر “قوة نووية عسكرية” وسيكون لها مقر دائم في مجلس الأمن الدولي.
الفراغ شبه الفلسفي
يكاد الفراغ الذي خلفه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يكون فلسفيًا. في هذا السياق، صرّح أحد الدبلوماسيين الذي فضل عدم الكشف عن هويته بأن: “لندن صاغت البناء الأوروبي، بدءا من ثاتشر وصولا إلى بلير، من خلال منحه توجها مؤيدًا للسوق وللتوسّع، مع أدوات ذات سلطة محدودة، أي ميزانية صغيرة وسيادات وطنية مؤكدة”. عمومًا، جعلت رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر، بفضل مقولتها الشهيرة “أريد استرداد أموالي” في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1979، من السوق الداخلية حجر الأساس في البناء الأوروبي.
في سياق متصل، أضاف الخبير الديبلوماسي، الذي يعيش في بروكسيل: “ترغب المملكة المتحدة في التوسع لإضعاف الاتحاد وتجنب الاندماج والحصول على حلفاء”. وفي الواقع، أنشأ البريطانيون، بالإضافة إلى هولندا، تحالفا مع الدول الاسكندنافية وجزء من الدول الشرقية لمنح أوروبا وجها أكثر ليبرالية، إلى جانب أنهم أتقنوا في بروكسل استراتيجية التأثير بشكل تام وكانوا في قلب معركة الأفكار.
من جهته، قال مدير مكتب روبرت شومان في بروكسل، إريك موريس، إن “الرؤية الفرنسية في أوروبا تراجعت منذ التسعينات، حتى بعد التوسع الكبير في سنة 2004″، خاصة منذ أن استفادت ألمانيا، في أوج قوتها الاقتصادية في مطلع القرن العشرين، بالكامل من التوسع في بلدان الكتلة السوفيتية السابقة.
“عامل جمود”
أكد دبلوماسي آخر أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يعتبر “بالنسبة لأوروبا، لحظة مماثلة لإعادة توحيد ألمانيا، الذي انجر عنه إحداث تغيير جذري في المشهد الأوروبي”. وبعد إعادة توحيد ألمانيا، أصبحت أوروبا قادرة على إعادة التعامل باليورو. لكن هل ستكون أوروبا قادرة على إعادة إنعاش قوتها بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟ في الحقيقة، يرى البعض ذلك بمثابة فرصة لإعادة هيكلة المشروع، في الوقت الذي يكتسب فيه النهج الأوروبي شعبية. وفي النهاية، لم تعد زعيمة حزب التجمع الوطني، مارين لوبان تتحدث عن خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي.
يمكن أن يؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى نشأة اتحاد نقدي أكثر قوة
من جهة أخرى، هناك قلق متنامي بشأن إمكانية إضعاف الاتحاد الأوروبي بشكل دائم. في هذا الإطار، حذّر وزير الشؤون الأوروبية الأسبق آلان لاماسور من أن “الخطر يتمثّل في الانحدار إلى منزلة تفتقر إلى أدنى مستوى من الأهمية، وذلك من شأنه أن يضعف أوروبا بشدة إذا واصلنا ‘العمل كالمعتاد'”. في المقابل، يتفق الجميع على أنه لا يوجد شيء مُسجّل في هذه المرحلة. وحسب جوسيب بوريل، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، الذي سافر إلى نيودلهي في 16 كانون الثاني/ يناير، فإن “الاتحاد الأوروبي يعتبر عنصرا فاعلا يبحث عن الهوية، فهو لا يعرف حتى الوقت الراهن ماهية الدور الذي يريد أن يلعبه”. وأضاف لاماسور أن “المملكة المتحدة كانت منذ سنة 1973 بمثابة معرقل، ويمثل خروجها إزاحة له”.
لكن الأمر المؤكد أن المشروع الأوروبي لم يكن يعني الكثير بالنسبة إلى لندن على عكس باريس أو برلين. ويُذكر أن المملكة المتحدة ساهمت في إضعاف هذا المشروع من خلال عدم المشاركة في منطقة اليورو ومنطقة شنغن، ومضاعفة القيود في مجال العدالة والشؤون الداخلية. وقد أشار أحد الدبلوماسيين إلى أن “المملكة المتحدة جسّدت أوروبا في أشكال مختلفة. لقد كانت بمثابة عامل جمود”.
عموما، يمكن أن يؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى نشأة اتحاد نقدي أكثر قوة، إذ ستجد منطقة اليورو نفسها معززة بصورة آلية، حيث ستمثل حوالي 85 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي الأوروبي، مقارنة بحوالي 72 بالمئة في الوقت الراهن. ومن المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم بشكل أكبر، بينما تعمل كرواتيا وبلغاريا على تبني العملة الموحدة بشكل أسرع. وفي هذا الصدد، قال إنريكو ليتا، رئيس معهد جاك ديلورز والرئيس السابق لمجلس الوزراء الإيطالي: “لقد أصبحت منطقة اليورو محرك الاتحاد الأوروبي بشكل متزايد”.
انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي سيغير موازين القوى
أضحت لندن خارج سياق الشؤون الأوروبية منذ أن أضفى رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون طابعا رسميا على استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وذلك في أوائل سنة 2016. وفي الوقت الراهن، لا يمكن اعتبار ذلك حافز جديدا لأوروبا في الوقت الراهن، ويجب أيضا ألا نستخفّ ببعض أوجه التقدّم الذي أحرزته أوروبا في مجال مكافحة الإغراق التجاري أو الدفاع الأوروبي.
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتقلص هيمنة النظام في ألمانيا، سيجعل فرنسا سيدة الموقف
لا شك أن الأجندة “الجيوسياسية” لرئيسة المفوضية الجديدة، أورسولا فون دير لين، التي تريد بناء أوروبا أقوى وذات سيادة واشتراكية، لن تضطلع بنفس الأولويات في صورة وجود المملكة المتحدة. لكن هذه الأجندة تستجيب للتحديات المناخية والرقمية وتخدم انسحاب الولايات المتحدة من الساحة الدولية كما تدعم الهجمات التجارية التي يشنها دونالد ترامب وطموحات بكين.
في هذا الصدد، أوضح فيليب لامبرت، نائب رئيس مجموعة الخضر في البرلمان الأوروبي أن “المملكة المتحدة لم تكن عائقا أمام وقوع الاتحاد الأوروبي في حلقة يمكن أن نصفها بالمُفرغة، وعلى أية حال لم تكن الطرف الوحيد وحتى أن ذلك لم يَطل جميع المجالات”. كما أضاف هذا المسؤول البلجيكي المنتخب: “تتستّر العديد من الدول خلف لندن”. وقد أشار بهذا القول إلى تملص دول البنلوكس من المسائل الضريبية، وإلى علاقة هولندا وألمانيا بالميزانية الأوروبية.
“لعبة الأدوار”
سوف يؤدي انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي إلى تغيّر الموازين. في هذا السياق، أورد نيكولاس فيرون، وهو أحد مؤسسي مجمع التفكير الأوروبي بروغل: “ترتبط المفاوضات الأوروبية بطقوس محددة، حيث يلعب كل طرف دورا محددا. وتضطلع كل من فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة الأدوار الرئيسية. لكن في الوقت الراهن، أُعيد توزيع هذه الأدوار لتحتل كل من فرنسا وألمانيا قلب النظام، إلا أن تطلعات كل دولة تختلف عن الأخرى، نظرا لأن العاصمة الألمانية برلين تعتبر قوة اقتصادية في حين أن العاصمة الفرنسية باريس لها وزن جغرافي سياسي. كما أن انتهاء عهد أنجيلا ميركل، وإن كان ذلك صعبا، لا يسهل الأمور”.
على حد تعبيره “لا ترغب البلدان الأقل قوة في إعطاء الأولوية لأي من الدولتين. فقد أدركت هذه البلدان أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتقلص هيمنة النظام في ألمانيا، سيجعل فرنسا سيدة الموقف، وذلك بالطبع بقيادة إيمانويل ماكرون الذي يرغب في مزيد دعم السيطرة الأوروبية. وقد صرّح ممثل عن أحد حلفاء بريطانيا: “سينتقل الاتحاد الأوروبي من سوق إلى استراتيجية، أي سننتقل من عهد ميركل إلى عهد ماكرون!”.
تظل السوق الداخلية، التي تضم 450 مليون مستهلك، بمثابة الداعم الرئيسي للوحدة الأوروبية
في إطار عملية إعادة الهيكلة، يراقب خبراء الشؤون الأوروبية بعناية تأثير اتفاقية لاهاي، التي تتماشى كثيرا حتى الآن مع مصالح لندن. في مجالات معينة، اقترب الهولنديون من باريس، مثلما رأينا أثناء إعادة التفاوض بشأن إرسال عمال منتدبين. أما بالنسبة لمجالات أخرى، تظلّ الميزانية الأوروبية متقاربة مع ميزانية برلين.
في بعض الأحيان، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بتقويض أفكار الإليزيه من أجل اتحاد نقدي أكثر قوة، فإنهم يجدون حلفاءهم فيما يسمى في الوقت الراهن “الرابطة الهانزية” التي تضم الدنماركيين ودول البلطيق والسويد، الذين انضم إليهم الإيرلنديون. وحسب مصدر مقرب من الاليزيه أنه “سيكون هناك سيولة لفترة من الوقت”. لذلك، يتعين على باريس وبرلين المضي قدمًا وبحذر في هذا المشهد المتحرك، في حال لم يرغب أي منهما في تصلب المواقف.
في المقابل، تظل السوق الداخلية، التي تضم 450 مليون مستهلك، بمثابة الداعم الرئيسي للوحدة الأوروبية. من جانبه، وصف أحد الدبلوماسيين المشهد قائلا: “إن السوق الداخلية بمثابة غراء يشد بعضنا إلى الآخر. إنه مربط الفرس”. ستجد أوروبا نفسها في مواجهة الاختبارات الأولى لتقييم قدرتها على الانتعاش الاقتصادي وذلك من خلال محاولة إقناع بولندا بالانضمام إلى مشروع تحييد الكربون لسنة 2050، وقدرتها على بناء سياسة هجرة مشتركة بعد أشهر من الجمود، وكذلك من خلال النسق الذي تنتهجه الميزانية الأوروبية التي يجري التفاوض عليها.
عموما، سوف تدور المفاوضات بين لندن وبروكسل في إطار هذه التحديات لتحديد علاقتهما المستقبلية التي ستكون حاسمة بالنسبة لأوروبا. هذا من شأنه أن يساهم في الحد من أضرار انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وخاصة على الجغراسياسي. فضلا عن ذلك، سيكون هذا بمثابة أول اختبار لوحدة الأوروبيين، الذين في حال لم تتوافق مصالحهم وانقسمت آراؤهم، فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيضعف أوروبا بالفعل.
المصدر: لوموند