لم تكن الصورة غامضة لتتضح إلا لفاقدي البصيرة أو المتعامين عن الحقيقة البينة، لم يمر وقت طويل حتى يقف أنصار الربيع العربي في وجه أعدائهم، لكنه قدم الدليل أن معركة بناء الديمقراطية في الوطن العربي ومعركة تحرير فلسطين واحدة وإن اختلفت ميادينها. القطري في تكامله مع القومي. لقد قامت الحجة في اللحظة نفسها على المتحذلقين الواقفين في الظاهر مع الثورات والمساندين في الباطن للانقلابات ومموليها من مال النفط، فقد حددت صفقة القرن المواقف والصفوف لكل ذي بصيرة.
أعداء الديمقراطية أعداء فلسطين
لا أتحدث هنا عن الكيان الغاصب ولا عن ترامب ولا عن المواقف المائعة للدول الغربية عامة التي تنافق شعوبها بموقف رجراج مع الحق الفلسطيني، دون الإشارة إلى أن هذا الحق يتحقق بزوال الكيان، بل أتحدث عن قوى سياسية عربية زعمت الإيمان بالديمقراطية ولكنها انحازت ضدها في الواقع، فلما عقدت الصفقة وجدت نفسها في موقف خياني وإن أصدرت بيانات الشجب المعتادة.
عندما نفذ السيسي انقلابه الدموي على التجربة الديمقراطية الوليدة في مصر، وقف معه وسانده وبرر له اليسار العربي بكل أطيافه، ووقف معه قوميون عرب وزعم كثيرون منهم أنه وريث عبد الناصر وصوروه بصورة البطل القادم لتحرير فلسطين، حينها راجت نظرية الربيع العبري الذي اصطنعه الأمريكان لتمكين الإخوان (وأحزاب الإسلام السياسي عامة) من الحكم مقابل بيع فلسطين (وهو جوهر حديث حسنين هيكل الذي وضع مفهوم الربيع العبري)، ورغم أن الانقلاب المدعوم غربيًا وأمريكيًا وخليجيًا كان على نظام يقوده الإخوان، إلا أن النظرية ظلت رائجة كخلفية ملونة لانقلاب سيحرر فلسطين، ولكن السؤال هنا: أين السيسي من صفقة القرن؟
اليوم يقف السيسي ونظام آل سعود والإمارات مع صفقة القرن ويتركون من برر لهم في ورطة لا مخرج منها.
زمن الانقلاب، وقف نظام آل سعود ونظام الإمارات معه بكل قوة ومولوه بالمال (الرز) حتى تصالب وتمكن من رقاب المصريين وتغيرت مواقف اليسار والقوميين من نظام آل سعود وحليفهم الإماراتي بعد أكثر من سبعين عاما من وصمهم بالرجعية العربية الخائنة للأمة لأنهم قضوا على تجربة ديمقراطية. اليوم يقف السيسي ونظام آل سعود والإمارات مع صفقة القرن ويتركون من برر لهم في ورطة لا مخرج منها.
معاداة الديمقراطية تنتهي إلى خيانة فلسطين
هذه بداهة يرفض كثيرون رؤيتها والانطلاق منها في بناء الديمقراطية وصولا إلى تحرير الأرض المحتلة. هناك تلازم بين تحرير المواطن العربي من نير الطغيان وتمكينه من التعبير عن آرائه ومواقفه، وقد كان المواطن العربي دومًا مناصرًا للحق الفلسطيني بلا شروط ولا حسابات. يشهد على ذلك قرن كامل من الجهاد مع المقاتل الفلسطيني حتى قبل أن ينظم نفسه في منظمات تحرير.
المواطن العربي وقف مع صدام حسين وغفر له كل ظلمه للشعب العراقي لمجرد أن وجه سلاحه نحو الكيان ووقف مع حزب الله دون حسابات مذهبية، لأنه وجه سلاحه ضد الكيان كانت لحظات قرار حر تكشف أن هذا المواطن يعرف ما يريد ويعرف أين يقف من القضايا القومية، لكن الدكتاتوريات منعته من حريته وظلت تقامر بالقضية من أجل مصالحها الضيقة ووحدها الديمقراطية سمحت نسبيًا (في الحالة التونسية على الأقل) بانطلاق هذا المواطن في التعبير عن موقفه بكل حرية.
تحرير فلسطين يبدأ بتحرير المواطن العربي
بناء الديمقراطية يهدد الكيان، لأنه يطلق سراح المواطن العربي في معركة التحرر والتحرير (الشعب يريد تحرير فلسطين تزامنت مع الشعب يريد إسقاط النظام) في كل بلد شهد ثورة لذلك نرى أن الخريطة السياسية العربية الآن تتحدد في خطين موازيين؛ خط الثورة وبناء الديمقراطية وتحرير فلسطين وخط صفقة القرن والقضاء على الديمقراطية وقهر المواطن، وكل من وقف مع صفقة القرن نجده عمليا ضد الديمقراطية.
لم يعد ممكنا القول بأن هناك نظام وطني يستعد لتحرير فلسطين ويقهر في نفس الوقت شعبه في الداخل. معادلة بسيطة أثبتتها الثورة العربية، وهي تحرير فلسطين يبدأ بتحرير المواطن العربي وهذا المواطن يعرف وجهته وقد حدد موقفه منذ أجيال، وقد سمحت صفقة القرن بتجديد هذه القناعة/ الحقيقة.
هل يعدّل أنصار الدكتاتوريات موقفهم؟
لا نعتقد أنهم كانوا يجهلون هذا، ولكن تحديد المواقف من القضية القومية كان ولا يزال محكومًا بالموقف من شركاء الداخل، وبالتحديد من أحزاب الإسلام السياسي. التيار القومي والتيار اليساري يعدلون مواقفهم بالنقيض دومًا من موقف التيار الإسلامي، حتى أن كثيرا منهم يعتبر حركة حماس المقاوم الوحيد الآن، حركة إخوانية ولأنها كذلك فمقاومتها ليست مقاومة، وإنما هي عمل مسلح (إرهابي يقول البعض) ضمن الأجندة الإخوانية العالمية (الأجندة الإخوانية هي العمالة للامبريالية).
لقد كان الموقف من انقلاب مصر موقفًا ضد وجود الإخوان في السلطة، وهو تقريبا نفس الموقف من نظام بشار ومن المخرب حفتر، ومن أنظمة الخليج المصفقة لصفقة القرن، فكل من يعادي الإخوان يلاقي قبولا عند اليسار العربي وشقه القومي. هل سيغيرون موقفهم ويعدلون المقاييس؟
مازالت النظرة إلى الديمقراطية التي تمكن للإسلام السياسي محكومة بموقف أيديولوجي ما قبل ديمقراطي.
لا أرى مؤشرات على ذلك، مازالت النظرة إلى الديمقراطية التي تمكن للإسلام السياسي محكومة بموقف أيديولوجي ما قبل ديمقراطي، لذلك نتوقع استمرار المعارك غير الديمقراطية التي تنتهي دومًا لصالح الكيان ولصالح صفقة القرن وأطرافها، فشروط تحرير فلسطين بما يسقط صفقة القرن ومموليها ومروجيها، لم تتوفر حتى في التجربة التونسية التي نزعم أنها سبقت بقية الأقطار العربية في بناء نظام ديمقراطي حرر إرادة الأفراد، إذ تقوم الأحزاب (في تونس) بدور الأنظمة ( في بقية الأقطار) في خنق إرادة الناس ومنعهم من السير معًا في مسيرة واحدة من أجل فلسطين، لكن رغم ذلك فان الشارع/ المواطن البسيط يعرف وجهته وسيسقط صفقة القرن وهو يبني الديمقراطية برغم الأنظمة والأحزاب التي صنعت قبل ترامب البيئة المناسبة لصفقة القرن حتى قبل أن تخطر على بال ترامب بحد ذاته.