منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960 رفعت السنغال شعار “الثقافة هي الرافعة للتوجه السياسي”، إذ اختار رئيسها الأول بعد الاستقلال ليوبولد سيدار سنغور صياغة سياسته حول محورين أساسيين وهما؛ التجذر بقيم الحضارة الإفريقية، ثم الانفتاح على الحضارات الأخرى، هذا إضافة إلى إعطاء الأولوية لتنمية الإنسان والفنون.
والحقيقة أن اهتمام الرئيس السابق للسنغال بالفنون نابعاً من كونه مولعاً بالأدب، إذ تخرج سنغور في جامعة السوربون الفرنسية، فكان أول أفريقي يتخرج من هذه الجامعة متخصصاً في علم الأدب الفرنسي، وهناك في باريس تعرف سنغور على الأديب الفرنسي الراحل إيميه سيزار، إذ عاشا سوياً لمدة طويلة وجمعتهما ظروف الدراسة الجامعية، وأطلقا سوياً الميثاق الأدبي والسياسي لحركة “الزنوجة” التي أضحت بعد ذلك بطاقة هوية اجتماعية وأدبية للزنوج، وقد ارتكزت هذه الحركة على كلمة سيزار الشهيرة “ليس لون البشرة هو ما يوحدنا، لكن المثالية في الحياة والتعطش إلى التحرر هو ما يجمعنا”.
تمكن الأدب السنغالي بجدارة سرد تاريخ القارة الإفريقية واحتل مكانة كبيرة بين تيارات السرد العالمية خاصة مع الاهتمام بحركة الترجمة
والزنوجة هي مجموعة القيم الفكرية والسياسية والاقتصادية والفنية والاجتماعية والمعنوية لدى شعوب القارة الإفريقية والأقليات السوداء في آسيا وأمريكا وأوقيانيا، جدير بالذكر أن سنغور تنازل طواعية عن السلطة السياسية عام 1980 من أجل التفرغ لكتابة الأدب، وقد حصد العديد من الجوائز الأدبية أهمها: الجائزة الذهبية في الأدب الفرنسي، والجائزة الكبرى الدولية للشعر في فرنسا، وفي عام 1984 أصبح سنغور عضواً بالأكاديمية الفرنسية للأدب، واحتفاءً به تم تأسيس جائزة تحمل اسمه “ابن خلدون/ليوبولد سيدار سنغور للترجمة في العلوم الإنسانية”.
وتكرسياً للسياسة الثقافية التي انتهجها سنغور، فقد مُنحت السنغال أساساً ثقافياً متيناً، ففي عام 1966 أقيم أول مهرجان عالمي للفنون الإفريقية في السنغال، فمنذ البداية وضعت السنغال نصب عينيها الإعلاء من قيمة الثقافة والفنون بكافة أشكالها؛ بداية من الفنون الحية مثل المسرح والرقص والموسيقى ومروراً بالفنون البصرية كالسينما والتصوير.
وبالنسبة للأدب السنغالي، فقد تمكن بجدارة من سرد تاريخ القارة الإفريقية واحتل مكانة كبيرة بين تيارات السرد العالمية خاصة مع الاهتمام بحركة الترجمة، فمن خلال الرواية السنغالية تعرفنا على تاريخ الاستعمار والنضال في البلاد وكذلك أنماط المعيشة اليومية والعادات والتقاليد التي تمثل السنغال، ليس هذا فحسب إذ تذخر الرواية السنغالية بالتراث القديم والفلكلور المحلي والعوالم الغرائبية.
أشهر روايات الأدب السنغالي
إذا كان أدب أمريكا اللاتنية قد استقى معظم إلهامه من الواقعية السحرية، فإن الأدب الإفريقي بصفة عامة والسنغالي خاصة انبثق إلهامه من الأساطير الشعبية والقصص الخرافية، إذ أن القارة الإفريقية شديدة الثراء فيما يخص الحكايا الشعبية التي تتناقلها الأجيال جيلاً من بعد جيل، وقد بدأ انتشار الرواية السنغالية مع بداية حركات التحرر والاستقلال التي انطلقت في معظم أنحاء القارة في خمسينات القرن الماضي، أما عن الموضوعات التي تناولها الأدب السنغالي فهي الحديث عن المشكلة الطبقية في السنغال وأشواق مختلف أطياف المجتمع إلى تحقيق أحلامهم التي ناضلوا من أجلها كثيراً أيا كانت هذه الأحلام سواء أحلام بسيطة أو أحلام كبيرة.
رواية المغامرة الغامضة: إشكالية الديني والسياسي في السنغال
“على الأقل يجب أن تعرف من تكون في صحبته في هذه المعركة، إن قضيتك تستحق الاستماتة في الدفاع عنها، ربما، لكن لسوء الحظ فإن أولئك الذين كانوا سيقفون إلى جانبك ليدافعوا عن قضيتك لن يكونوا في طهرك وقد ينطلقون من القضية للتمويه على خطط وأهداف سافلة”
أنا لست بصدد إثبات حقي في الحياة كأسود ولكني يجب أن أبحث عن العدالة والحرية
تتناول رواية للكاتب السنغالي شيخ حميدو كان مسألة الهوية والتحديات التي تواجهها، فمن خلال هذا العمل يأخذنا حميدو كان إلى مفصل تاريخي هام في تاريخ بلاده السياسي والاجتماعي، وذلك في ستينات القرن الماضي، إذ كان التمييز العنصري على أشده في السنغال، فعلى لسان بطل الرواية يقول حميدو كان: “أنا لا أحب كلمة الزنوجة لأنها توحي بأنني يجب أن أدافع عن ذاتي كزنجي، والحقيقة أن ما أبحث عنه هو أوسع من ذلك. أنا لست بصدد إثبات حقي في الحياة كأسود ولكني يجب أن أبحث عن العدالة والحرية”، وهكذا كان يود حميدو كان في عمله تجاوز مسألة الزنوجة إلى الدفاع عن السنغالي كإنسان له الحق في الحرية والحياة بعدالة.
تتحدث الرواية أيضاً عن الإشكالية القائمة بين الديني والسياسي، حيث تأخذنا الرواية في سفر طويل وبعيد عبر عواصم “بلاد الديابولي” الإفريقية، وهناك تدور مناقشات فكرية ثرية للغاية بين المعلم ومجموعة من التلاميذ في حوارات ملهمة، يهدف الكاتب من ورائها إثبات كيفية استغلال العامل الديني من أجل استغلال الناس وإخضاعهم، إذ يقول المعلم لتلاميذه في الرواية “إذا ضمن الله انتصارهم علينا، فإنه حسب الظاهر أنه نحن عباده المتحمسون أغضبناه، لقد حكم عباد الله طويلاً العالم، فهل فعلوا ذلك طبقاً لشريعته؟ لا أعلم … علمت أن في بلاد البيض الثورة ضد البؤس لا تعنى أبداً الثورة ضد الله “.
رواية إضراب الشحاذين: الهامش حين يتصدر المشهد الرئيسي
ماذا لو استيقظنا يوماً ما في الصباح ووجدنا أن الشحاذين قد أضربوا عن العمل وذلك برفضهم تقبل أي صدقات من المارة!! يبدو الأمر مضحكاً أليس ذلك؟ ولكن في رواية “إضراب الشحاذين” للكاتبة السنغالية أميناتا ساو فال لم يبد الأمر كذلك على الإطلاق، فبعد أن ضاقت السلطة السياسية ذرعاً بالمتسولين والمجذومين وأصحاب الأمراض وخارقي النفايات قررت أن تحاربهم لأنهم يضرون بشدة بقطاع السياحة، وهو الأمر الذي رد عليه الشحاذين بإضرابهم عن العمل.
تبدو عوالم الرواية شديدة الإرباك وشديدة التعقيد، إذ تقتحم الكاتبة حياة الشحاذين وتنقل يومياتهم عن قرب، كما تسجل صراعهم الاستثنائي مع السلطة، وفي إمعاناً من الكاتبة في السخرية والجنون يجد أحد أعضاء الحكومة نفسه في مأزق ولن يخرجه من هذا المأزق سوى الشحاذين! إذ يعلم أحد الوزارء عن طريق عرافه الخاص بأنه سيصبح نائب الرئيس خلال ثمانية أيام فقط ولكن بشرط أن يذبح ثوراً صدقة ويقدمه إلى 77 متسول وهنا يبحث الوزير عن الشحاذين ولكن دون جدوى، إذ امتنع الشحاذين عن قبول صدقة الوزير.
رواية خطاب طويل جداً: تحديات المرأة السنغالية
تحكي رواية “خطاب طويل جداً” للكاتبة السنغالية ميرياما با، قصة امرأة تركها زوجها بعد علاقة متنية دامت عقدين من أجل الزواج بصديقة ابنته، حتى أنه غادر معها إلى خارج البلاد وترك زوجته وحدها ترعى أبناءه الاثنى عشر.
تأتي الرواية على شكل رسائل طويلة تحكي فيها البطلة عن صراعاتها النفسية لصديقتها التي هاجرت لأمريكا مع بناتها، وذلك بعد طلاقها من زوجها الذي قرر الزواج بأخرى، ومن خلال هذه الرسائل تعرفنا البطلة على عادات وتقاليد المجتمع السنغالى والذي تطغى عليه بشدة الثقافة الذكورية، كما نشاهد عن كثب الحياة القاسية التي عاشتها البطلة بعد سفر زوجها إذ اضطرت إلى العمل الشاق حتى تربي أبنائها.