الساعة 1:50
الأول: “السلام عليكم.. يا إخوان في 3 عوائل من المعرة عدوّار الراعي نايمين بسيارات.. اللّي عنده مكان؟”
الساعة 1:52
الثاني: “طلع لعندن فلان.. دقايق وبوصل”
الساعة 1:59
الثالث: “في شب عنده مزرعة طالع لعندن”
الساعة 2:11
الأول: “إجى فلان الله يكتب أجره أخدن.. الله يبارك فيك أخي”
هذا جزء من محادثة جرَت قبل أيام بعد منتصف الليل، على إحدى مجموعات تطبيق “واتساب” التي تضمّ ثواراً وناشطين من قاطني مدينة الباب في ريف حلب الشرقي، بعضهم من أهالي المدينة، وبعضهم الآخر مهجّر إليها.. جاءَت الاستجابة بعد دقيقتين من النّداء، أما المشكلة فتمّ حلها في 20 دقيقة.
إلى الشمال
منذ أعوام ومحافظة إدلب -والشمال السوري عموماً- يستقبلُ موجات المهجّرين السوريين من محافظاتهم التي كان نظام الأسد برفقة إيران وروسيا يسيطرون عليها، وللمفارقة فإنّ أول محافظة سوريّة نزَح أهلها في الثورة السورية كانت إدلب نفسها بعد أقلّ من ثلاثة أشهر على انطلاقتها، عندما اجتاحَت قطعان من جيش النظام مدينة جسر الشغور في المحافظة، مستخدِمةً الدبابات والطيران المروحي، لتفرُغ المدينة من أهلها الذين قطع بعضهم الحدود السورية التركية، وأصبحوا أوّل لاجئين سوريين رسميّاً خارج البلاد، قبل أنْ تتتَالى موجات النّزوح والتهجير، ويصبح ملايين السوريين خارج مناطقهم موزعين بين بلدان اللجوء ومخيمات الحدود؛ وفي مدن الشمال السوري التي استقبل أهلها أهلهم، واقتسموا معهم أرضهم جميعاً.
ومع بدء تركيا تحالفها مع روسيا وإيران، وتوقيعها اتفاقيّات “خفض التصعيد”، ولعبها دور “الضامن” في تلك الاتفاقيات، بدا أنّ السوريين في المناطق المُحرَّرة سيهنَؤُون أخيراً بحياة شبه مستقرّة، وإنْ غابَت عنها بعض أساسيات العيش، إلا أنها ستكون على الأقل في منطقة بدون قصف، فلا يضطرّون فيها لتوديع بعضهم صباحاً متوقِّعين أنْ يفقدوا أحدهم مع انتهاء اليوم!.. لكنّها الأيام تجري كما تشتهي “الميغ”!
هجرة الكرام
لا يمكن القولُ أنّ روسيا التزمَت يوماً بأيٍّ من الهُدَن أو الاتفاقيات التي وقّعَتها بخصوص إدلب، كما لم تفعل في أيّ منطقة أخرى، لكنّ خرقَها للاتفاقيات كان يأتي غالباً على شكل غارات جوية غير مركزة، إلا أنها ومنذ عدة شهور بدأَت حملةً شرسة سيطرَت في مرحلتها الأولى على آخر أجزاء من ريف حماة الشمالي بأيدي الثوار، إضافة إلى مناطق من ريف إدلب الجنوبي، لتُتبعها مؤخراً بالمرحلة الثانية للسيطرة على الطريق الدولي M5، والتي تمكّنَت فيها حتى الآن من السيطرة على مدينة معرّة النعمان إضافة إلى عدد من البلدات والقرى في محيطها، بالطريقة الوحيدة التي تستطيع فيها دخول أرضٍ مُحرَّرة (سياسة الأرض المحروقة)، وما زالت الحملة مستمرّة حتى تاريخ كتابة هذه الكلمات، متوسِّعةً لتشمل مناطق في ريف حلب الغربي أيضاً، ومتسبِّبة في نزوح ما يقارب ال400 ألف نسمة بحسب تقديرات المنظمات المحلية، وسط عجز تام لـ “الضامن” التركي.
وفي الوقت الذي يستبسل فيه الثوار في محاولة صدّ الهجوم غير المتكافئ، تتوافدُ قوافل النازحين إلى مخيّمات الشمال على الشريط الحدودي، أو إلى مدن وبلدات ريف حلب الغربي الأقلّ قصفاً، أو إلى ريفَي حلب الشمالي والشرقي الخاضعَين للنفوذ التركي المباشر أو إلى بساتين الزيتون التي باتت كل زيتونة فيها عمود خيمةٍ لعائلة مُهجَّرة.
مبادرات محلية
منذ بدء حملة النزوح تحرّكَت فرق ومنظمات محلية سورية في مبادرات “استجابة طارئة” للمأساة، بعد أنْ أطلقَت حملات لجمع التبرعات لسد الحاجة المتفاقمة، وذلك في ظلّ غياب شبه كامل للاستجابة من المنظمات الدولية.
يخبرنا “فؤاد السيد عيسى” مؤسس منظمة بنفسج، أنهم منذ بدء حملة النزوح ركزوا جهودهم على إخلاء المدنيين من مناطقهم إلى مناطق نزوحهم، وذلك بسبب الأزمة الكبيرة التي شهدها قطاع النقل، مع ارتفاع الأجور وقلة عدد السيارات العاملة، حيث تمكنوا من إخلاء أكثر من 13 ألف مدني من جبل الزاوية ومعرة النعمان وسراقب وأريحا وغيرها، معتمدين في عمليات الإخلاء هذه على التبرعات سواء الفردية عبر الحملة التي أطلقوها، أو من جمعيات صغيرة عربية وإسلامية، كما تمكنوا بفضل التبرعات من افتتاح 15 مركز إيواء مؤقت في عدد من المساجد والمراكز، يؤمِّنون فيها كافة متطلبات الوافدين الأساسية من طعام وفرش.
ورغم أنّ بنفسج تأخذ عادة تمويلاً من منظمات دولية، إلا أنّ بيروقراطية هذه المنظمات وبطء استجابتها، هي ما دفعتهم إلى الاستعانة بالتبرعات لسد الحاجة الطارئة.
الفزعة.. الفزعة
شملَت حملة النزوح مناطق واسعة من ريف إدلب وأجزاء من ريف حلب الغربي، وهي مناطق مكتظّة بالسكان بفعل عمليات التهجير السابقة التي دفعت مجتمعات كاملة من أكثر من سبعة محافظات سورية للاستقرار فيها، قبل أنْ يضطروا لمغادرتها اليوم؛ الأمر الذي جعل جهود المنظمات المحلية قاصرة عن تغطية المأساة الكبيرة، وهو ما حوّل السوريين في مدن الشمال السوري “الأكثر أمناً” إلى العمل كخلايا نحل لإغاثة أهلهم، فأصبحَت المجموعات التي تضمهم على برامج whatsapp – telegram، تضجّ بعشرات الإعلانات عن مبادرات شخصيّة لمساعدة أهالي إدلب وريف حلب النازحين:
صاحب مزرعة صغيرة كان يؤجّرها كمصدر دخل وضَعها تحت تصرّف النازحين حيث تتّسع لعشرة عوائل، وصاحب “مولِّدة” كهرباء يعلن عن جاهزيته لمدّ الكهرباء مجاناً لكل نازح سكن في منزل “على العظم” أو قبو في الشارع الذي تتواجد فيه مولّدته، ومجموعةٌ من أصحاب سيّارات النقل الصغيرة يُعلِنون جاهزيّتهم لنقل النازحين مجاناً من أماكن نزوحهم في ظل الأزمة الخانقة على النقل، ومجموعة أخرى من أصحاب المطاعم يخصِّصون وجبات يومية مجانية لمدة شهر للنازحين، وورشة نِجارة صغيرة تعلن جاهزيّتها لتأثيث أيّ بناء “على العظم” مجاناً، بشرط أن يخصّصه صاحبه لإيواء النازحين، ومالكُ مستودعات للإسفنج و”الحرامات” يتبرّع بـ 60 “فَرشة” مع “حراماتها” للأُسَر النازحة مجاناً، وآخرٌ يملك محلاً لتجارة المدافئ يوفِّر 32 مدفأة “صوبّة” مجاناً للنازحين.. وكذلك أطباء وصيادلة ومحلات اتصالات وورشات بناء وخياطة وغيرهم كثير، خصّصوا خدماتهم مجاناً للوافدين الجدد، بل إنّ إحدى الفصائل في منطقة ريف حلب الشمالي، والتي سبق لها أنْ قَدِمَت إلى المنطقة بعد سقوط مدينة حلب، أفرغت معسكرها التدريبي وجهزته بالتنسيق مع منظمة إغاثية لإيواء 100 عائلة نازحة لمدة 6 أشهر.
إضافة إلى مئات المبادرات الشبيهة في عشرات المجموعات تشمل كل شيء تقريباً، في حالة جماعية من التكاتف لم يشهدها الشمال السوري في أي حملة تهجير سابقة.
هجرة أخرى
المؤلم حقاًّ أنّ النازحين هذه المرة من إدلب ليسوا جميعاً من أبناء المنطقة، فكثير منهم بالأساس نازحون قدِموا إليها مهجَّرين من مناطقهم بعد حملات شبيهة للنظام وحلفائه الروس والإيرانيين، تمكنوا فيها من احتلال محافظاتهم، بعد تهجير مئات الألوف من أهلها، ليكون الشمال هو المُستقَر.
أبو وليد أحد أبناء ريف دير الزور الذي غادر قريته أواخر عام 2017 إلى الشمال السوري، بعد الحملة العسكرية التي قادتها روسيا وإيران للسيطرة على المحافظة من تنظيم داعش، وتهجيرها للمدنيين من قاطني المنطقة قسراً في الأيام الأولى لسيطرتها، حيث اختار الاستقرار مع عائلته في محافظة إدلب في معرة النعمان، ليجد نفسه اليوم بعد عامين حاول فيهما بناء حياة جديدة، يحمل ما أمكنه من متاع في سيارة مستأجرة -تمكّن من تأمينها “بشق الأنفس”- إلى مدينة جرابلس على الحدود السورية التركية في ريف حلب الشمالي، والتي يقطنها أخوه “المهجر أيضاً”.
يقول أبو وليد: “التهجير صعب بس أول مرة.. أنا طلعت قبل فترة.. وكانوا أكثر أهالي المعرة رافضين يطلعوا وبدهم يبقوا ببيوتهم، ومتأملين تصير معجزة وما يتقدموا الروس.. مثل ما كنت زمان مو قبلان أترك القرية.. حتى لما أخذتها داعش ما طلعت.. وبقيت إلا وصل النظام جنبنا.. ساعتها عرفت أنه ما بقي أمل.. ولازم أمشي”
يضيف أبو وليد “وأنا عالطريق كنت صافن إنه جرابلس موجودة على نهر الفرات، وحاولت أواسي حالي إنه فعلياً هي أٌقرب للدير من إدلب.. وإنه يمكن هي خطوة بطريق الرجعة.. بس كل ما كنت أقرب منها وأبعّد عن إدلب كنت أحس الدير صارت أبعد! وبعد ما وصلت ما عدت قدران أشوف الدير أصلاً!”
وعندما سألناه عن الخطوة القادمة، وهل يفكّر أن يبدأ حياةً جديدة في جرابلس أجاب: “مابي حياة جديدة هين.. العالم كله بده بشار ياخذ كلشي.. حتى جرابلس هين إذا بقي الوضع مثل ما هو بده يجي وياخذها.. مشان هيك أنا قاعد أدور على مهرب أطالع عيلتي على تركيا، ومنها على أوروبا.. وغادي الواحد يقدر يبلش حياته من جديد”
حتى النفس الأخير
قد تدفع الأعداد الكبيرة للنازحين إلى الظنّ بأنّ كل قاطني إدلب وريف حلب الغربي قد نزحوا في الحملة الأخيرة، إلّا أنّ عدداً من المدنيين مساوياً لأعداد النازحين ما زالوا في قراهم التي تقترب منها جحافل الاحتلالين الروسي والإيراني.
على مجموعة صغيرة باسم “العيلة” على برنامج whatsapp، تضمّ أفراد عائلة من أبناء ريف حلب الغربي، يكتب “علي” المقاتل السابق في الجيش الحر والمصاب أكثر من ثمانية مرات: “أنا بلّشت دور على بيت بالريف الشمالي”، ليرد عليه أخوه الأكبر والذي فقد إحدى قدميه عام 2012 ضمن صفوف الجيش الحر: “ما رح نطلع”، يجيبه علي: “عالقليل نطالع النسوان والولاد، حالياً يمكن لاقي بس مستقبلاً مستحيل”، ليُنهي أخوه الكبير النقاش برسالته: “سعرنا بسعر الضّيعة.. خيم.. تحت زيتون”.
يخبرنا علي أنّ والده يرفض بشكل قاطع الخروج من القرية، مكرِّراً دائماً “ما بيدخلوها على جثثنا”، ورغم أنّ “علي” يؤمن بواقعيّته أنّ اقتراب النظام منهم سيدفعهم للنزوح كغيرهم، لكنّ البقاء حتى آخر نفس هو واجبهم تجاه الأرض، لذلك لم يُطِل “علي” نقاش أهله على المجموعة، مكتفياً بإرسال “سمايل” ابتسامة وكلمتين فقط “على الله”.