غليان يعيش على وقعه قطاع التعليم بالمغرب، بعدما دخلت جولات الحوار بين وزارة التربية الوطنية والنقابات التعليمية بشأن إصلاح التعليم نفقًا مسدودًا، خاصة ملف التوظيف بالتعاقد الذي ترفض الوزارة التراجع عنه وتعتبره خيارًا إستراتيجيًا، فيما تراه أسرة التعليم “خطة مشؤومة” تنذر بالسوء وضبابية المآل، وبين صراع الحكومة والأساتذة يقبع التلاميذ ضحايا، فيما يتبادل الطرفان الاتهامات بشأن المسؤول عن كارثة ضياع الزمن المدرسي.
العودة إلى الشارع
إضراب لأربعة أيام خاضه المدرسون المنضوون تحت لواء “التنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد” كخطوة تصعيدية بعدما أبت وزارة التربية الوطنية إدماجهم في النظام الأساسي للوظيفة العمومية، بينما ما زال التوظيف على أساس تعاقدي لدى “الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين” ساريًا، وحاليًّا يجتاز 15 ألف مدرس تدريبهم بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين حتى يلتحقوا بمهامهم خلال الموسم المنصرم، بينما يشتغل في المدارس 70 ألف أستاذ متعاقد جرى توظيفهم على 4 دفعات منذ 2016، وأغلبهم يشاركون في الإضرابات.
وزير التربية الوطنية سعيد أمزازي: لا تراجع عن نظام التعاقد
يرفض المدرسون تحمل مسؤولية هدر زمن التمدرس، ويعتبرون وزارة التربية الوطنية المسؤولة الأولى عن بقاء التلاميذ خارج المدارس، لأنها “تتهرب من إلغاء التعاقد الذي فرضته منذ 2016” وفق المدرسين الذين ما زالوا يهددون بالتصعيد في الإضراب ويعلنون بصوت واحد: “نريد للتلاميذ أن يستفيدوا من حقهم في الدراسة، لكن الوزارة تماطل في إيجاد الحلول، وينبغي أن تتحمل مسؤوليتها إزاء ذلك”.
بيان التنسيقية ذكر أن “سياسة الهروب إلى الأمام والآذان الصماء التي تنهجها الدولة في مختلف القطاعات الاجتماعية، وعلى رأسها قطاع التربية والتعليم، وفي ظل تنامي حالة الاحتقان داخل المنظومة التعليمية بسبب العشوائية والارتجالية وتراكم الملفات منذ سنوات دون حل جذري” وفق البيان الذي دعا إلى مواصلة معركة إسقاط “مخطط التعاقد” وإدماج جميع الأساتذة في الوظيفة العمومية ورد الاعتبار لأسرة التعليم وإعلان إضراب مدته أربعة أيام منذ الثلاثاء 28 من يناير حتى الجمعة 31 من يناير/كانون الثاني 2020، وتنظيم مسيرة وطنية بمدينة الدار البيضاء.
آلاف من المدرسين حجوا من مختلف ربوع المملكة من أجل المشاركة في المسيرة بالدار البيضاء يوم الأربعاء 29 من يناير 2020، وامتلأت الشوارع بذوي الوزرة البيضاء (الزي الرسمي للمدرس)، فيما واجهت قوات الأمن هذه التظاهرة بالعنف ومنعت المسيرة من الوصول إلى القصر الملكي، إذ نزلت بثقلها لوقفها وتغيير مسارها صوب مركز العاصمة الاقتصادية.
سلوك عقابي
قبل انطلاق الإضراب وصل لبعض الأساتذة استدعاء للحضور إلى مراكز الأمن، قصد الاستماع لهم بشأن الإضراب والدعوة لـ”مسيرة غير مرخص لها”، وفي المقابل يعتبر المدرسون هذه الخطوة “انتهاكًا” للحق في الإضراب الذي يكفله دستور 2011 في الباب المتعلق بالحريات والحقوق الأساسية، لكن هناك قانونًا تنظيميًا يحدد شروط وكيفيات ممارسة هذا الحق.
القانون يعتبر المشاركين في الإضراب في حالة توقف مؤقت عن العمل، ويتم خصم جزء من أجرتهم مقابل أيام الإضراب، حيث بدأ العمل بهذا القرار منذ حكومة عبد الإله بنكيران (2011 إلى 2017)، بينما يرى الموظفون فيه سلوكًا عقابيًا يندرج ضمن التضييق على العمل النقابي، لأن هذه الاقتطاعات المتكررة تؤدي إلى إضعاف النقابات التي لن تجد آذانًا صاغية عندما تدعو إلى الإضراب بسبب الخوف من المساس بالراتب.
خلال الموسم الدراسي المنصرم، صمم المدرسون على مواصلة التصعيد بإفراغ المدارس وملء الشوارع طيلة شهرين من الإضراب الذي شهده الأسدس الثاني، وقوبلت بعض هذه المسيرات السلمية بالعنف، أكثرها رعبًا كانت مسيرة ليلة 23 من مارس/آذار 2019، حين خرج المدرسون المتعاقدون في مسيرة ليلية حاملين الشموع بشوارع العاصمة الرباط، وتدخلت قوات الأمن لفض تجمعاتهم ومنعهم من الاعتصام، باعتباره نشاطًا غير مرخص له.
فضلًا عن الخصم من الرواتب، كانت خطة الإدارة للضغط على الأساتذة المضربين، إرسال إنذارات تتضمن تهديدًا بالعزل من الوظيفة في حالة عدم العودة إلى الأقسام في ظرف أقصاه أسبوع من تاريخ تسلهم إشعار ترك الوظيفة، وفي آخر المطاف قامت الإدارة بمحاولة فاشلة وهي توظيف عشوائي لحاملي الشهادات الجامعية وإلحاقهم بالحجرات الدراسية دون امتحان أو تكوين تأهيلي من أجل تعويض الأساتذة المضربين.
الاقتطاع من رواتب الأساتذة المتعاقدين ما زال ساريًا إلى الآن بنحو 100 دولار شهريًا، علمًا أن الراتب يتجاوز بقليل 500 دولار، ما أثنى العديد من الأساتذة عن الانخراط مجددًا في الإضراب الذي تدعو إليه من حين لآخر “التنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد” وتسانده نقابات المدرسين.
تحت رحمة المخاوف
بدأ العمل بالنظام الأساسي لموظفي الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين (الخاص بالمدرسين المتعاقدين) منذ 2018، وعدلت وزارة التعليم بعض بنوده حتى يبدو مشابهًا للنظام الأساسي للوظيفة العمومية الخاص بالأساتذة المرسمين، إذ أرادت بذلك احتواء غضب الأساتذة المضربين وإقناعهم بالعودة إلى المدارس، لكن الإضراب استمر شهرين متواصلين.
نقط الاختلاف بين نظامي الأساتذة المتعاقدين وزملائهم المرسمين، تكمن في الفصل المتعلق بالإحالة إلى المعاش، وهو مآل غير محمود لأنه لا يضمن إلا أجرة تقاعدية زهيدة، فيما تحرم هذه الفئة من الحركة الانتقالية على المستوى الوطني، والعديد من المباريات التنافسية مثل بعثة تدريس أبناء الجالية المغربية المقيمة بأوربا.
والأساتذة يقولون إن نظام التعاقد جعلهم تحت رحمة المخاوف من الاستغناء عنهم في أي لحظة، وفي حالة من الهشاشة لا يشعرون معها بالاستقرار الوظيفي، وهو الوضع الذي يتعذر معه أداء المهام التربوية والتعليمية الموكلة إليهم على أكمل وجه.
خطة توظيف المدرسين بموجب عقد لمدة سنتين قابل للتجديد، بدأ العمل بها منذ 2016، آنذاك أعلنت الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين عن عملية توظيف أول فوج من المتعاقدين، التحقوا بحجرات الدرس مباشرة بعد نجاحهم في اختبارات التوظيف الكتابية والشفوية، وتوقيع العقد مع وثيقة تعَهُّد تحرمهم من الاستفادة من التقاعد النسبي، وتشدد على أن التوظيف بالتعاقد لا يخول لهم الحق في الإدماج المباشر في أسلاك الوظيفة العمومية، وهو ما يطالب به هؤلاء المدرسون الآن.
ويرى المدرسون أنهم وقعوا على “عقد إذعان”، جرى إكراههم ووضعهم أمام الأمر الواقع، ولم يكن لهم الحق في تعديل بنود العقد أو الإضافة عليها، والطريقة التي جرى بها توظيفهم شابها الاختلال، إذ ينبغي توظيفهم كأساتذة مرسمين أسوة بزملائهم السابقين، كما تنفي نقابات المدرسين أن تكون وزارة التربية الوطنية قد استشارت معها بشأن خطة التعاقد، وتعتبر هذا القرار استجابة من الحكومة لتوصيات المؤسسات المالية العالمية.
تعويض نقص الأساتذة
خلال العقد الأخير أصبح عدد الأساتذة الذين يحالون إلى التقاعد أكثر من الأساتذة الجدد، وفي 2015 وصل نقص الأساتذة إلى الذروة، ما أدى إلى أزمة الاكتظاظ في الحجرات الدراسية وإسناد عدة مستويات دراسية إلى مدرس واحد، في حين أن عدد التلاميذ في تزايد بفضل خطة مكافحة الهدر المدرسي وتشجيع التمدرس في الأرياف خاصة الفتيات اللواتي ينقطعن عن الدراسة في سن مبكرة، رغم أن تحصيلهم العلمي في المغرب أضحى أعلى مقارنة مع الفتيان، وفق شهادة أسرة التعليم.
لجأت الوزارة إلى خطة التعاقد من أجل تعويض النقص الحاصل في المدارس العمومية، لأن مؤشر كتلة أجور الموظفين العموميين أضحت تستحوذ على نصف نفقات ميزانية الدولة متجاوزة ميزانية الاستثمار، وهي مشكلة لا تروق للمؤسسات المالية العالمية المانحة للقروض، خاصة أن الأساتذة يمثلون نسبة كبيرة من موظفي الدولة، ولكي تحصل الحكومة المغربية على قروض جديدة من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تجنبت احتساب رواتب الأساتذة المتعاقدين ضمن كتلة الأجور، لكنها تحتسب ضمن ميزانية الدعم الممنوحة للأكاديميات الجهوية، ضمن المصاريف التي يتم إنفاقها على تجهيزات المؤسسات المدرسية.
مهنة التدريس ما فتئت تفقد مكانتها، ولم تعد مهنة جذابة تتصدر الخيارات المهنية، فهم يعملون بعقود غير ملائمة ويتقاضون أجورًا لا تقدر القيمة العظيمة للخدمات الجليلة التي يقدمونها للنشء، وكثيرًا ما يعيشون في ظرف عسيرة بالأرياف النائية.
فضلًا عن غياب التقدير وتدني الأجور يعاني المدرسون من قلة التدريب، ويجب على وزارة التربية أن تلتزم بتوفير التدريب الملائم والتنمية المهنية المستمرة وحماية حقوق المدرسين، لتحصل على جيل جديد من المعلمين المؤهلين والمتحمسين والمخلصين، إذ لن يتمكن المتعلمون من التمتع بحقهم في التعليم الجيد، عندما لا يُقدّر المدرسون حق تقديرهم.