حروب اليوم لا تبقي ولا تذر، فكلما زاد التطور التكنولوجي في قطاع التسليح، زاد معه الخراب في البنية التحتية والعمران للمدن الحاضنة للحرب، فأسلحة اليوم أشدُ بطشًا وأكثر تدميرًا، ولعل مدن الموصل وحلب وغيرهم أمثلة حية لهذا.
عدم تورع أطراف النزاعات عن قصف البلدات القديمة التي تضم الأوابد الأثرية أو الاحتماء بها واتخاذها ثكنات عسكرية وتعمد إتلاف بعض الآثار في بعض الأحيان فضلاً عن نهبها وسرقتها في أحيان أخرى، كل ذلك خلق حالة فوضى وعبث أفرغت المنطقة من معالم إرثها الحضاري، لكن رغم الدمار الهائل في هذه المدن، فإن إعادة إحيائها وتعميرها وبناء ما تهدم منها هو أمر ممكن.
أحدثت التكنولوجيا وتقنيات الذكاء الاصطناعي ثورة في عالم البناء وترميم المناطق الأثرية، إذ تتنافس كبرى شركات التكنولوجيا لتقديم أحدث ابتكاراتها ما بين الروبوتات إلى الحفارات ذاتية القيادة أو الطابعات ثلاثية الأبعاد التي باتت تستخدم مؤخرًا في إنجاز الكثير من المهام المعقدة.
ترميم المناطق الأثرية وإعادة بنائها
عمل تنظيم داعش عند احتلاله لأجزاء من العراق وسوريا على تدمير جزء كبير من المعالم الأثرية التي كانت في المناطق الواقعة تحت سيطرته، فهدم وشوّه عددًا من آثار مدينة تدمر التاريخية في سوريا التي يعود تاريخها لنحو 2000 سنة، كما دمر أجزاءًا من مدينة الحضر التي يعود تاريخها إلى القرن الثالث قبل الميلاد، ومدينة النمرود 1300 سنة قبل الميلاد، وكلتا المدينتين تقعان في الموصل.
إذن، ما هي التقنيات التي يمكن أن تساهم بشكل فاعل في إعادة ترميم آثار تلك الحواضر؟
مشروع Iconem
أطلقت شركة مايكروسوفت بالتعاون مع شركة Iconem مشروعًا لمسح المناطق الأثرية من خلال الطائرات، فقامت Iconem بمسح مواقع أثرية في 20 دولة، بما في ذلك المدن الآشورية القديمة في الموصل والأديرة القديمة في أفغانستان.
تعمل الخوارزميات المتقدمة وقوة الحوسبة في Microsoft AI على تمكين Iconem من دمج آلاف الصور بسرعة في نماذج ثلاثية الأبعاد عالية الدقة تساعد الخبراء على تقييم الضرر.
المسح الرقمي
من مدينة تدمر إلى مدينة الموصل العراقية والعاصمة النيبالية كاتماندو، تتيح التقنيات الحديثة للخبراء في مجال النسخ الرقمي والتصوير ثلاثي الأبعاد إعادة ليس فقط المعالم الأثرية، ولكن أيضًا مدنًا بأكملها من تحت الأنقاض، حيث تتم نمذجة تلك الصور وإعادة تصميم تلك المناطق من خلال بناء نماذج ثلاثية الأبعاد، تساعد تلك النماذج المصممين على تصور فكرة أفضل في المستقبل لإعادة تصميمها.
مبادرة باسل
هي مبادرة من ابتكار باسل خرطبيل، وهو مطور برمجيات فلسطيني سوري، لعب دورًا رئيسيًا في الوصول إلى بيانات المناطق الأثرية في سوريا، تعمل مبادرته على إنشاء نماذج ثلاثية الأبعاد تعتمد على المصادر والبيانات المفتوحة.
حصل خرطبيل على جائزة الحرية الرقمية في مؤشر الرقابة على جهوده للترويج لإنترنت مجاني في البلاد، اعتقله نظام الأسد في منتصف مارس/آذار 2012 وأعلنت زوجته في أغسطس/آب 2017 مقتله تحت التعذيب في سجون الأسد.
من الأمثلة على إنجازات مبادرة باسل “معبد بيل” الذي دمره تنظيم داعش بالكامل، ولكن تم الحفاظ عليه في شكل رقمي ويمكن إعادة بنائه، وكذلك قوس تدمر الذي أُعيد تصميمه وبنائه كنسخة طبق الأصل، لكن القوس سيمر بجولة في نيويورك ودبي قبل أن يتم تثبيته في تدمر نفسها.
قوس النصر التدمري في أشهر ميادين لندن عام 2016
التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي في قطاع البناء
يعمل نحو 7% من القوى العاملة في العالم في صناعة البناء والتشييد، لذلك فهو قطاع رئيسي في الاقتصاد العالمي، وينفق الأفراد والشركات 10 تريليونات دولار سنويًا على الأنشطة المتعلقة بالبناء، ويتوقع الجميع أن الذكاء في قطاع البناء سيخلق ثورة جذرية، إذ سيعمل على خفض التكاليف واختصار الوقت وتسهيل جميع مراحل البناء.
لكن ما الفوائد التي يحققها الذكاء الاصطناعي في عالم البناء؟
إبقاء المشروع ضمن التكلفة
معظم المشاريع الضخمة تتجاوز الميزانية، لذا تستخدم الشبكات العصبية الاصطناعية في المشروعات للتنبؤ بتجاوزات التكلفة بناءً على عوامل مثل حجم المشروع ونوع العقد ومستوى الكفاءة لمديري المشاريع.
تحسين التصاميم
نمذجة معلومات البناء هي عملية قائمة على النماذج ثلاثية الأبعاد وتوفر رؤى للمهندسين في مجال الهندسة والبناء لتخطيط وتصميم وإنشاء وإدارة المباني والبنية التحتية بكفاءة.
تخفيف المخاطر
كل مشروع بناء لديه بعض المخاطر التي تأتي في أشكال كثيرة مثل الجودة والسلامة والوقت ومخاطر التكلفة، وتكون معظمها بسبب تداخل الأعمال المختلفة في وقت واحد.
تخطيط المشروع
تستخدم الشركات الروبوتات لالتقاط صور ثلاثية الأبعاد لمواقع البناء بشكل مستقل ومن ثم تغذي تلك البيانات في شبكة التعلم العميق التي تصنف مدى طول المشاريع المختلفة، وإذا بدت الأمور بعيدة عن المسار الصحيح، فيمكن لفريق الإدارة التدخل للتعامل مع المشكلات الصغيرة قبل أن تصبح كبيرة.
يجعل الوظائف أكثر إنتاجية
هناك شركات بدأت في تقديم آلات إنشاء ذاتية القيادة لأداء مهام متكررة بكفاءة أكبر من نظرائها من البشر، مثل صب الخرسانة والبناء الحجري واللحام والهدم.
الحفاظ على سلامة العاملين
تحدث الوفيات بين عمال البناء في أثناء العمل خمس مرات أكثر من العمال في القطاعات الأخرى، ووفقًا لـOSHA، فإن الأسباب الرئيسية لوفيات القطاع الخاص في صناعة البناء والتشييد كانت السقوط، تليها إصابة العامل بسقوط قطع ثقيلة عليه، والصعق بالكهرباء.
يعالج نقص العمالة
إن نقص العمالة والرغبة في زيادة الإنتاجية المنخفضة في هذه الصناعة تجبر شركات المقاولات على الاستثمار في علم الذكاء الاصطناعى وعلوم البيانات.
يقول تقرير McKinsey لعام 2017 إن شركات المقاولات يمكنها زيادة الإنتاجية بنسبة تصل إلى 50% من خلال تحليل البيانات في الوقت الفعلي.
التقنيات الحديثة التي دخلت في عالم البناء
1 الخرسانة القابلة للشفاء
تُنفق مبالغ ضخمة سنويًا على إصلاح التشققات في الخرسانة، وهي نوع من الخرسانة تحتوي على ألياف عند تعرضها للرطوبة بسبب التشقق يؤدي إلى تفاعلها وتكوين أكسيد يعمل على غلق الفراغات.
2 مادة airgel العازلة
تعرف هذه المادة باسم “الدخان المتجمد”، وهي مادة شبه شفافة عند سحب السائل منها تتكون من مادة هلامية تشبه السيليكا، وتتمتع بخواصها العازلة، وتمتلك 4 أضعاف قوة الألياف الزجاجية المستخدمة بالعزل.
3 مدن الخيزران
هي مدن مصنوعة من هياكل الخيزران عبر تشبيكها مع بعضها، وهو شكل من أشكال البناء المستدام ومورد متجدد أقوى من الفولاذ وأكثر مرونة من الخرسانة، والغرض من استخدامها إقامة مجتمع جديد داخل الغابات مع زيادة عدد السكان.
4 الطوب الذكي
الطوب الذكي عبارة عن وحدات ربط متصلة بالطراز وتشبه “الليغو” مصنوعة من الخرسانة عالية القوة التي طورتها شركة “Kite Bricks”، والطوب الذكي متعدد الاستخدامات ويأتي مع عازلية كبيرة للحرارة، وهو ذو تكاليف قليلة.
5 البنايات المكافحة للتلوث
تُعرف أيضًا باسم “الغابات الرأسية”، وهي مباني حجرية شاهقة مصممة لمعالجة تلوث الهواء، سوف تضم مباني مكافحة التلوث أكثر من 1000 شجرة و2500 شجيرة لامتصاص التلوث في الهواء للمساعدة في ترشيحها لتنظيف الهواء.
6 نمذجة المعلومات
نمذجة معلومات البناء (BIM) هي واحدة من هذه النظم المحوسبة التي تسهل جمع المعلومات عن المباني قيد الإنشاء على أساس منتظم.
يعزز هذا النظام بشكل كبير التواصل بين المهندسين والمصممين الذين يعملون في المشروع.
الطابعات ثلاثية الأبعاد
لعل من أقوى الابتكارات التقنية في عالم البناء وتشييد المباني، هو النجاح في استخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد في البناء، تم تطويرها لأول مرة في الثمانينيات، ولكن في ذلك الوقت كانت عملية استخدامها صعبة ومكلفة وكان لديها عدد قليل من التطبيقات.
لكن في عام 2000 أصبح استخدامها بسيطًا نسبيًا وبأسعار معقولة وأصبحت قابلة للحياة لمجموعة واسعة من الاستخدامات، مثل صناعة الإلكترونيات الاستهلاكية والبلاستيك والمعادن والفضاء والهندسة والتطبيقات الطبية، وغيرها الكثير.
نمت مبيعات أجهزة AM أو الطابعات ثلاثية الأبعاد بسرعة، ومنذ عام 2005، أصبح الاستخدام المنزلي للطابعات ثلاثية الأبعاد منتشرًا بشكل كبير.
استخدام AM في البناء
في صناعة البناء، يمكن استخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد لإنشاء مكونات البناء أو “طباعة” المباني بأكملها، وأصبحت الصناعة مُصنعة بالفعل في التصنيع بمساعدة الكمبيوتر، وكانت الفوائد الكثيرة التي امتازت بها سببًا في انتشارها.
ومن أبرز فوائدها سرعة إنجازها للعمل ورخص كلفة المباني التي تنجزها، وهو الأمر الذي يساهم بشكل كبير في بناء وحدات سكنية رخيصة ومناسبة لذوي الدخل البسيط، كما يمكن جلبها لتوفير بيوت للنازحين أو المشردين بسبب الحروب.
أخيرًا، إن الأمثلة عن المدن التي استعادت عافيتها بعد دمارها الكامل حول العالم كثيرة، فمن مدينة وارسو البولندية إلى مدينة هيروشيما اليابانية، وهي أمثلة قريبة، وتعطي بصيص أمل لسكان المدن المنكوبة كالموصل وحلب وغيرهما للعودة والبدء من جديد، واستجلاب تقنيات حديثة يمكن أن يحدث فارق في إعمار هذه المدن، لكن الأساس أن تتوافر إرادة دولية حقيقية في إعادة إعمار هذه المدن وعودتها للحياة من جديد.