الاستعمار كان “خطأ جسيمًا ارتكبته الجمهورية”، هكذا وبدون اعتذار رسميّ أو تحمّل تبعات ذاك “الخطأ”، عبّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس ساحل العاج الحسن وتارا في أبيدجان، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، عن العلاقة بين بلاده والقارة الإفريقية، داعيًا إلى بناء صفحة جديدة في العلاقة بين بلاده ومستعمراتها الإفريقية السابقة، كأن تلك المرحلة قد ولّت والحال أن جرائم فرنسا وتدخلاتها العسكرية متواصلة في القارة السمراء.
فرنسا لم تخرج من إفريقيا نهائيًا، وإنما خرجت لتبقى بشكلٍ آخر للمحافظة على مصالحها هناك، فقد أسست العديد من القواعد العسكرية وربطت علاقات وطيدة مع قيادات البلدان الإفريقية لتشديد القبضة على مختلف أركان القارة السمراء.
في هذا التقرير لـ”نون بوست” الذي سيفتتح ملفًا تحت عنوان “جرائم فرنسا في إفريقيا”، سنتطرق معًا إلى التدخلات العسكرية الفرنسية المتواصلة في القارة الإفريقية وأغراضها الخفية من هذه التدخلات التي يخالف أغلبها القانون الدولي.
إعادة حليفها “ليون” إلى الحكم
أسست فرنسا عقب إطلاق أنشطتها الاستعمارية، عام 1524، حكمها الاستعماري في 20 دولة بين شمالي وغربي القارة الإفريقية، فعلى مدار قرابة 300 سنة، خضعت 35% من مناطق القارة السمراء للسيطرة الفرنسية.
خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، استقلت كل المستعمرات الفرنسية، إلا أن نفوذ باريس بقي متواصلًا في أغلب تلك المستعمرات السابقة، حتى إنها منحت نفسها حق – دون الرجوع إلى أحد – التدخل العسكري في تلك الدول لحماية مصالحها هناك.
سنرصد هنا تدخلات فرنسا في السنوات الأخيرة التي يندرج بعضها في إطار المبادرات الدولية، وبعضها الآخر ضمن مبادرات فرنسية ذاتية، عمليات عسكرية راح ضحيتها الآلاف من المدنيين الأبرياء وراحت معها ثروات دول القارة.
تدخل فرنسا في إفريقيا الوسطى لم يقتصر على طرد الإمبراطور جان بيدل بوكاسا من الحكم ونفيه، بل شمل المعارضة أيضًا
في مطلع الستينيات من القرن الماضي، استقلت دولة الغابون عن فرنسا، وتسلم ليون إمبا الذي كان يعمل في سلك الإدارة الاستعمارية كعامل جمارك، الحكم، لكن أطاح به الجيش الغابوني في انقلاب غير دموي في 18 من فبراير/شباط 1964.
بعد يومين فقط، قامت القوات الفرنسية بعملية إنزال في ليبرفيل وأعادت حليفها إلى الحكم، وجوبه ليون بمعارضة كبيرة نتيجة سياساته الموالية لفرنسا، ما دفعه إلى فرض حالة الطوارئ، وتوفي عام 1967 متأثرًا بمرض السرطان وخلفة في الرئاسة نائبه عمر بونجو.
التدخل في جمهورية الكونغو الديموقراطية
في مايو 1978، اقتحم مئات الجنود الفرنسيين مدينة كولويزي في الجنوب الشرقي لجمهورية الكونغو الديموقراطية، بعد أن استولى متمردون هناك على المدينة التي يقطنها الآلاف من الأوروبيين، جاء هذا التدخل استجابةً للمساعدة التي طلبها الرئيس موبوتو سيسي سيكو، ونتج عن هذه المهمة مقتل خمسة جنود، ولكنها سمحت بإجلاء 2700 من الأجانب.
الانقلاب على الإمبراطور جان بيدل بوكاسا
سنة 1979، أوقفت فرنسا مساعداتها لحليفها التقليدي جمهورية إفريقيا الوسطى بحجة قمع الإمبراطور جان بيدل بوكاسا للطلبة والمعارضة في البلاد، إلا أن السبب الأبرز كان تقارب رئيس هذا البلد الإفريقي جان بيدل بوكاسا مع الرئيس الليبي معمر القذافي.
في 20 من سبتمبر/أيلول من تلك السنة، بينما كان بوكاسا في ليبيا، تم إطلاق عملية باراكودا العسكرية لطرده من السلطة، أيام قليلة حتى سقطت العاصمة بانغي تحت سيطرة القوات الفرنسية ليعلن بعدها الرئيس السابق لجمهورية إفريقيا الوسطى ديفيد داكو الذي كان أيضًا مستشارًا لبوكاسا، نهاية المملكة وإعادة تأسيس الجمهورية.
حافظت فرنسا على مصالحها من خلال هذه التدخلات العسكرية
تدخل فرنسا في هذه البلد المليء باليورانيوم، لم يقتصر على طرد الإمبراطور جان بيدل بوكاسا من الحكم ونفيه، بل شمل المعارضة أيضًا، فقد اخترقت المعارضة التي تتنافس على خلافة بوكاسا، حتى إنها أصبحت تقرر من مِن مواطني إفريقيا الوسطى، يستطيع أو لا يستطيع العودة لبلاده.
التدخل في التشاد
في العام 1983 هبطت طائرة هليكوبتر عسكرية فرنسية فوق الأراضي التشادية لتبدأ بذلك عملية مانتا العسكرية بطلب من الرئيس التشادي السابق حسين حبري، لمساعدته في القضاء على تمرد حدث في شمال البلاد، واستمرت هذه العملية سنة كاملة، سقط خلالها عشرات القتلى من الجانب الفرنسي.
وفي فبراير/شباط 1986 انتشرت قوة “إيبرفييه” في هذا البلد الإفريقي، بمبادرة من فرنسا بعد عبور القوات المسلحة الليبية الدرجة 16 شمالًا موازية لخط الاستواء، لدعم غوكوني واديدي الذي أطاح به حسين حبري في أواخر عام 1981 بدعم من فرنسا والولايات المتحدة.
جاءت هذه القوات، ضمن مهمة تقضي حماية مصالح فرنسا خاصة أمن المواطنين الفرنسيين المقيمين في تشاد، وتقديم الدعم اللوجستي لقوات الجيش والأمن التشاديين (الإمدادات والوقود والنقل والتدريب) بالإضافة إلى دعم المخابرات للقوات المسلحة والأمنية التشادية.
ووفق موقع وزارة الدفاع الفرنسية، فقد بلغ عدد جنود تلك القوة، قبل أشهر قليلة من انتهاء مهامها في يوليو/تموز 2014، نحو 950 عسكريًا موزعين على قوات برية (320 جنديًا و80 سيارة)، وأخرى جوية (150 جنديًا ونحو 12 طائرة بقاعدة نجامينا) وقاعدة دعم مشتركة تقدم الدفع الميداني والفني للوحدات المتمركزة في مختلف المواقع.
التدخل في جزر القمر
سنة 1978، تولى أحمد عبد الله الرئاسة في جزر القمر بفضل انقلاب نظمه المرتزق الفرنسي بوب دينارد، عزز عبد الله سلطته وألغى الحرس الرئاسي ومنصب رئيس الوزراء واعتمد دستورًا جديدًا يسمح له بالترشح لولاية أخرى بإذن من فرنسا.
بعد 11 سنة، يوم 26 من نوفمبر/تشرين الثاني 1989 اغتيل أحمد عبد الله بتحريض من الجيش، بعدها بثلاثة أيام قام دينارد والحرس الرئاسي بانقلاب، حيث قتل رجال الشرطة واعتقل مئات الأشخاص ونزع سلاح الجيش النظامي وعزل رئيس المحكمة العليا.
لئن شرعنت فرنسا تدخلها العسكري في مالي بطلب الحكومة المالية مساعدتها في حربها فإن خبراء قالوا إن هذا التدخل جاء لحماية المصالح الفرنسية في هذا البلد الإفريقي
في 15 من ديسمبر/كانون الأول 1989، ردت فرنسا على هذا الانقلاب بعزل بوب دينارد الذي تولى الحكم، وتوجه دينارد مع حلفائه إلى بريتوريا، حيث وضع قيد الاعتقال، ومع عودته إلى فرنسا في فبراير/شباط 1993، تم اعتقاله ثم تبرئته من مقتل أحمد عبد الله.
عملية “كوريمب”
سنة 1990، بدأت فرنسا عملية “كوريمب” في خليج غينيا الذي يقع على سلم أولويات التعاون العسكري الفرنسي في إفريقيا، تهدف هذه البعثة إلى ضمان وجود فرنسي دائم في مياه المنطقة بما يمكنها من الحفاظ على مصالحها الاقتصادية وخاصة تلك المرتبطة باستغلال النفط.
عملية ليكورن
سنة 2002، عرفت الكوت ديفوار أزمة سياسية وعسكرية، وفي سبتمبر/أيلول من تلك السنة، بدأت فرنسا عملية عسكرية تحت اسم عملية ليكورن بشكل مستقل عن عملية الأمم المتحدة، في إطار اتفاقيات الدفاع الموقعة بين البلدين في 24 من أغسطس 1961.
أرسلت فرنسا وحدات عسكرية كبيرة لفصل المتحاربين بناءً على طلب الحكومة الإيفوارية، تكونت قوات عملية ليكورن من 4000 جندي فرنسي وفقًا للسلطات الفرنسية، واستهدفت هذه القوات المتمردين والمدنيين.
أدى الغضب المتزايد من الإيفواريين ضد الفرنسيين إلى أعمال شغب “معادية للفرنسية” في العديد من المدن، مثل تلك التي وقعت في أبيدجان خلال ليلة 6 إلى 7 من نوفمبر 2004، وبعد ذلك تم تقليص عدد القوات الفرنسية هناك.
تكونت قوات عملية ليكورن من 4000 جندي فرنسي
في فبراير/شباط 2011، تم تعزيز قوة ليكورن خلال الحرب الأهلية التي اندلعت هناك بعد رفض لورانت غبابو الاستقالة وقبول نتيجة الانتخابات التي أعلنت وتارا رئيسًا للبلاد، ورجحت القوات الفرنسية مع قوات الأمم المتحدة كفة الميزان لصالح وتارا.
في أبريل/نيسان من تلك السنة اُعتقل غبابو، وفي نهاية العام تم حل هذه الأزمة، وتخفيض عدد العاملين في القوة إلى 450 موظفًا ثم إلى 300 موظف في أوائل 2013.
التدخل في ليبيا
في 17 من مارس/آذار 2011، وافق مجلس الأمن الدولي على فرض حظر للطيران فوق ليبيا، الذي طرحته كل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة ولبنان (ممثل المجموعة العربية)، لمنع القوات الحكومية الليبية الموالية للعقيد معمر القذافي من شن هجمات جوية على قوات الثوار.
بعدها بيومين، بدأت كل من وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، عملية “هارمتان”، وكان انطلاقتها عبر توجيه هجوم على ليبيا بإطلاق صواريخ كروز من طراز توماهوك وتدمير أغلب المنشآت الحربية هناك.
ضمت القوة المشاركة في عملية برخان 3500 عسكري فرنسي، موزعين على خمس قواعد متقدمة مؤقتة
حشدت العملية أسطولًا جويًا باشر عملياته من قواعد جوية متقدمة بمعدل “15 طائرة في اليوم”، كما سخرت قوة المهمات 473، التابعة للبحرية الفرنسية، عتادًا بحريًا وجويًا مهمًا، لتنتهي العملية يوم 31 من مارس/آذار من العام نفسه، وتواصل مهامها تحت اسم عملية “الحامي الموحد” التي نفذها الحلف الأطلسي في ليبيا حتى يوم 31 من أكتوبر/تشرين الأول 2011، أي بعد 11 يومًا من مقتل العقيد القذافي.
يذكر أن الرئيس الفرنسي ساركوزي كان مؤيدًا بصورة مبكرة للتدخل الغربي في ليبيا، فقد كان يرغب بصفة كبيرة بتغيير نظام معمر القذافي، وبعد سنوات من الإطاحة بالقذافي خضع نيكولا ساركوزي لتحقيق رسمي بعد توجيه اتهامات إليه بمزاعم تلقيه أموالًا من معمر القذافي لتمويل حملته الانتخابية، وتتعلق التهم التي يحقق بها معه بـ”التمويل غير القانوني لحملته الانتخابية وإخفاء أموال عامة ليبية والفساد السلبي”.
عملية سرفال
ربيع سنة 2012، سقط شمال مالي الذي تعتبره فرنسا منطقة نفوذ حيوي، باعتبارها مستعمرة سابقة لها، في قبضة مجموعات مسلحة مرتبطة بتنظيم القاعدة، وسارعت فرنسا إلى التدخل العسكري هناك، فأرسلت الآلاف من جنودها في يناير/كانون الثاني 2013 لوقف زحف الجماعات المسلحة على باماكو، ضمن عملية عسكرية حملت اسم “سرفال”.
لئن شرعنت فرنسا تدخلها العسكري في مالي بطلب الحكومة المالية مساعدتها في حربها لاستعادة الشمال ومواجهة المسلحين الإسلاميين ومنع قيام كيان إرهابي هناك يشكل تهديدًا للمنطقة والعالم بأسره، فإن خبراء قالوا إن هذا التدخل جاء لحماية المصالح الفرنسية والغربية في هذا البلد الإفريقي الغني بالنفط والثروات المعدنية، ومحاولة تعزيز الوجود الفرنسي في منطقة تعتبر تقليديًا مركز نفوذ خاص بفعل سابقة الوجود الاستعماري.
عملية برخان
استلمت عملية “برخان” المشعل من عملية “سرفال” و”إيبرفييه”، في كل من مالي وتشاد، في الأول من أغسطس/آب 2014، لتتخذ بعدًا إقليميًا بررته مصالح فرنسا الإستراتيجية في الساحل الإفريقي والتهديدات التي تواجهها المنطقة، وعلى رأسها محاربة “الإرهاب”.
ضمت هذه القوة 3500 عسكري فرنسي، موزعين على خمس قواعد متقدمة مؤقتة، وثلاث نقاط دعم دائمة ومواقع أخرى، لا سيما بالعاصمة البوركينية واغادوغو، وعطار الموريتانية، وفق وزارة الدفاع الفرنسية، خلال هذه العملية لقي العشرات من الجنود الفرنسيين مصرعهم.
عملية “سانغاريس”
في مايو/أيار 2016، أعلن الرئيس الفرنسي حينها، فرانسوا أولاند، من بانغي عاصمة إفريقيا الوسطى، نهاية عملية “سانغاريس” الفرنسية في البلاد، وكانت هذه العملية قد بدأت في ديسمبر/كانون الأول 2013 لدعم القوة الأممية إثر مواجهات دامية بين ميلشيات مسيحية ومسلمة في البلاد.
اتهم الجنود الفرنسيين بارتكاب بجرائم عدة في إفريقيا
بلغ عدد عناصر “سانغاريس” في أوجها نحو 2500 عنصر، واتهمت عناصر منهم في قضية انتهاكات جنسية استهدفت أطفالًا قصر في هذا البلد الإفريقي الفقير، ورغم إنهاء مهمة هذه العملية فقد بقيت قوة احتياطية تكتيكية من 350 جنديًا تدعمها الطائرات دون طيار.
تهدف هذه العمليات العسكرية وغيرها، إلى الحفاظ على وجود فرنسا الاستعمارية في القارة الإفريقية وخاصة مستعمراتها السابقة التي تمتلك ثروات باطنية مهمة، تستغلها فرنسا للنهوض بمكانتها العالمية رغم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعرفها، فإفريقيا بالنسبة إلى فرنسا مصدر حياة لا يجب التخلي عنه.