قرابة عقد من الدعم المالي والعسكري واللوجستي والميلشياتي الذي قدمته بسخاء حكومة الولي الفقيه في طهران، لا بد لحكومة النظام السوري من أن ترد الجميل لإيران، حتى لو على حساب الأجيال السورية من خلال ملف التعليم، على ما كشف ما قيل إنه توافق للرؤى بين وزارة التربية في حكومة نظام الأسد ونظيرتها الإيرانية، الأمر الذي يشكل خطرًا كبيرًا على الأطفال السوريين ومستقبلهم وينذر بضياع هويتهم الوطنية والدينية.
في هذا السياق وقعت حكومة دمشق وطهران 11 اتفاقية ومذكرة تفاهم وبرنامجًا تنفيذيًا، في مجالاتٍ اقتصادية وثقافية وتعليمية في ختام اجتماعات الدورة الـ14 من أعمال ما تسمى “اللجنة العليا السورية الإيرانية المشتركة” في دمشق، يأتي هذا في إطار السباق الروسي الإيراني للسيطرة على مختلف القطاعات في سوريا، الاقتصادية والثقافية والتعليمية والتطويرية في مرحلة إعادة الإعمار المحتملة.
إيران تشرف على تعديل المناهج السورية
المتابع للتغلغل الإيراني في سوريا يرى أن إيران تسعى لترسيخ وجودها في شتى المجالات الخدمية والاقتصادية والتجارية، ومن أكثرها خطورة الثقافية والتعليمية، التي تضمن لها مكانتها في سوريا لعقود طويلة الأمد لا يمكن السيطرة عليها.
وخلال اللقاء الذي جمع وزير التربية السوري عماد موفق العزب ونظيره الإيراني محسن حاجي ميرزاني الذي أكد ضرورة “تحديد القواسم المشتركة في مجال تطوير النظام التعليمي”، وقعت وزارة التربية في حكومة نظام الأسد الخميس 23 من يناير/كانون الثاني، مذكرة تفاهم مع وزارة التربية والتعليم الإيرانية، في العاصمة السورية دمشق، ويقضي الاتفاق بإشراف إيران على تعديل المناهج الدراسية السورية وطباعتها في إيران، إلى جانب مساهمات أخرى في السياق ذاته.
وبحسب الموقع الرسمي للحكومة الإيرانية قال رضا كريمي رئيس مركز الشؤون الدولية والمدارس في الخارج: “ميرزاني اقترح على العزب أن تقوم إيران بتعديل وطباعة المناهج الدراسية السورية، بالإضافة إلى نقل إيران تجاربها في مجالات التخطيط التربوي والمعدات التعليمية والكتب المدرسية والمحتوى التعليمي”، مشيرًا إلى التقدم الجيد لإيران في بناء المدارس وإعادة تأهيلها.
واقترح ميرزاني على حكومة النظام السوري بناء إيران مجمعًا للعلوم والتكنولوجيا في سوريا، واعتبار اللغة الفارسية لغة ثانية واختيارية في الثانويات السورية، وإقامة دورات تأهيل للمعلمين السوريين في إيران وإجراء دورات تدريبية في مجال التخطيط والتقييم الأكاديمي، وأضاف كريمي: “منظمة “تجديد وتطوير وتجهيز المدارس” في إيران ستشرف على بناء المدارس السورية وتحديثها، وستقدم دورات تدريبية فنية متخصصة، وستقدم منظمات إيرانية اجتماعية متخصصة مساعدات تتعلق بإرشاد الوالدين وتدريب الموارد البشرية والتدريب على المهارات المهنية للمراهقين وذوي الاحتياجات الخاصة”.
شهد العقد الأخير نتيجة الأوضاع الميدانية والأمنية المتدهورة في سوريا انقطاع تعليمي إلى جانب تسرب آلاف التلاميذ من المدارس، في شتى المناطق السورية، وذلك بمساهمة حكومة نظام الأسد في قصف وتدمير البنى التحتية والمدارس
وتسعى إيران إلى كسب خطوات استباقية وريادية تحقق من خلالها مكاسب حقيقية على الأرض السورية، لتنفذ مشاريعها الاقتصادية لفترات لاحقة، بعد بناء أرضية شعبية لها في سوريا وتأمين طريق بري لها مرورًا بالعراق وسوريا يصلها بمياه المتوسط، تواجه فيه الضغوط الأمريكية، إلا أن هذه الإستراتيجية التي اتبعتها إيران تحقق طموحها التوسعي مع تساهلات حكومة نظام أسد، وهذا ليس جديدًا، فهناك محميات إيرانية عدة في سوريا وأبرزها في دمشق وريفها، مثل بلدة السيدة زينب وعدد من بلدات جنوب دمشق، وفي محافظة حلب شمالًا ودير الزور.
الكاتب والمحلل السياسي السوري أحمد الهواس، خلال حديثه لـ”نون بوست” قال: “النظام السوري بارع في عملية التنميط من خلال الشعارات التي كان يستخدمها كـ(القومية والصمود والتصدي والتوازن الإستراتيجي والمقاومة والممانعة)، ومنذ حكم الأسد الأب عمل على جعل طائفته تسيطر على المفاصل الرئيسية في الدولة، كما وطدّ علاقته مع إيران، وقد بدأ منذ تلك الفترة التشيع المنظّم يغزو سوريا، وجمعية المرتضى التي كان يشرف عليها جميل الأسد هي أحد تجليات ذلك الغزو الإيراني الناعم”.
وأضاف “عملت إيران عبر مرتزقتها على طرد ملايين السوريين السنة من بيوتهم، وباتت الأكثرية أقلية بعد استقدام نحو مليوني شيعي من خارج الحدود، والعمل على تجنيسهم حتى يصبح ما تبقى من السنة في واقع ديمغرافي جديد”، هؤلاء المرتزقة من دول مختلفة تم تقديم مغريات عديدة لهم من أموال وتمليك منازل وتجنيس برعاية حكومة نظام الأسد والدفاع عنه خلال توسع سيطرة المعارضة السورية بين عامي 2012 و2013، ورافق كل تقدم إيراني على الأرض لا سيما في المناطق التي كانت يسيطر عليها تنظيم الدولة (داعش)، افتتاح مدارس وحسينيات بإشراف إيران إلى جانب تقديم بعثات دراسية لإيران.
كما أكد أحمد الهواس أن قرار وزير الأوقاف عام 2014 باعتبار المذهب الجعفري أحد المذاهب الواجب تدريسها في سوريا، عملية تشييع من خلال التعليم لإنتاج جيل متشيع عقائديًا، واعتبر أن الخطر بات يهدد المجتمع السوري فعليًا من التمدد الإيراني، الأمر الذي يحتاج إلى مقاومة ذاتية، إلا أنها ستضعف أمام الوجود الإيراني الميليشياتي، التي تسعى إلى تحضير كيانات مجتمعية متشيعة، ويبقى المتضرر الطوائف السورية الأخرى (الدروز والإسماعيلية والعلوية)، وهذا ما يجلب الخراب إلى سوريا في حرب طائفية تعتمد على الأكثرية.
كارثة تعليمية
شهد العقد الأخير نتيجة الأوضاع الميدانية والأمنية المتدهورة في سوريا انقطاعًا تعليميًا وتسربًا مفرزعًا لملايين التلاميذ والطلاب في شتى المناطق السورية، على وقع الهجمات والاجتياحات التي نفذها نظام الأسد في قصف وتدمير البنى التحتية والمدارس وتهميش الملف التعليمي في مناطق سيطرته وجعله في خدمة توجهاته التي لعبت دورًا كبيرًا في تشويه الرسالة التعليمية، مما شكل تعطشًا للعلم بين الأطفال مع افتقار المؤسسات في مناطق النظام للعديد من الجوانب التعليمية الهادفة وارتباطها بمؤسسات الدولة الأخرى، ويعد هذا التدهور التعليمي مرحلة استغلال جديدة لإيران، فهي تحتاجه لبناء أرضيتها المنهجية.
في هذا السياق قال المعلم التربوي عبد الرحمن حاج عمر خلال حديث لـ”نون بوست”: “الانقطاع التعليمي الذي عاشه الأطفال السوريون يجعلهم غير مدركين للمعلومات والحقائق التي ستزورها إيران بالتعاون مع تربية حكومة النظام، وليس على هذا الصعيد فحسب فإن الرؤية الإيرانية التي بدت خلال الاتفاق مع تربية النظام تبدو مشتملة على جوانب عدة تتعلق بالجانب الأسري وفي حال نشطت منظمات إيرانية في هذا الاتجاه أيضًا سنواجه جيلًا غير مدرك لما وصلت إليه البلاد”.
وأضاف “على السوريين في مناطق سيطرة النظام رفض ومواجهة أي تغييرات ستظهر لاحقًا في المناهج التعليمية، وإلا سيصلون الهاوية دون شعور بمدى الخطورة يواجهونها برعاية حكومة الأسد الذي أوصل السوريين إلى حرب طائفية عقائدية”.
تحدث “نون بوست” مع وزيرة التربية والتعليم في الحكومة السورية المؤقتة هدى العبسي التي قالت: “في الحقيقة الوجود الإيراني خطير جدًا، يهدد وجودنا كسوريين، وبدأت إيران باستعمار سوريا عسكريًا، وعملت على تدمير ثورة الشعب، لتنتقل إلى احتلال آخر فكري وتعليمي وثقافي، مما يعرض جيلًا بأكمله لضياع الهوية والانتماء، وجعل العدو ولي الأمر والطاعة”، مضيفة: “سيدفع السوريون ثمن مشاركة إيران الملف التعليمي، لأن طهران تسعى لمحو ذاكرة الأجيال وصناعة الميليشيات، عبر منهجها في نشر التشيع بين أوساط المجتمعات العربية، ومن خلال هذا الأمر ستحرك الشعب بما يتلاءم مع مصالحها في المنطقة”، واعتبرت العبسي أن حكومة النظام السوري باتت مركز مقاولات تبيع وتشتري في السوريين للمحتل الروسي والإيراني لا أكثر.
إبراهيم مقرش معلم لمادة الرياضيات، يرى في حديث لـ”نون بوست”، أن “التغييرات التي ستحصل من الجانب العقائدي في المناهج الدراسية ستدخل في عقول الأطفال السوريين وتصبح مألوفة لديهم دون معرفة حقيقية عما جرى فعليًا”، وأضاف: “الحاضنة الشعبية للنظام السوري تقبل مناهجه التعليمية رغم التهميش الديني والتمجيد لشخص الأسد ومبادئ البعث، لذلك من الطبيعي أن يتقبلوا التغييرات التي ستضفيها إيران على المناهج التعليمية وسيدفع السوريون ضريبة ما صمتوا عليه”.
وهكذا ينمو النشاط والتغلغل الإيراني في سوريا دون مواجهة فعلية توقف هذا الزحف، بل بمباركة حكومة نظام أسد، ولا يمكن تحديد هذا الجانب إلا من خلال رؤية مدى قبول وتفاعل السوريين في مناطق النظام مع التغييرات المتوقعة بل الأكيدة التي ستجري خلال هذا العام.