أنا أؤمن أن الكتابة حب، أؤمن أن الكتابة أقدر ما تكون على نقل مشاعرنا بطريقة أقرب للحقيقة، وأؤمن أن الحب يدعونا لأن نكتب أكثر وأن نبدع في الكتابة أكثر، لكن الحرب في هذه الأرض تحاول أن تمنعنا من الحب .. من الإيمان .. من الفرح .. من الأمل .. من الكتابة أيضًا.. ومن أحلامنا!
أود أن أكتب الآن، تحديدًا في هذه اللحظات التي أسمع فيها أصوات الانفجارات وأزيز الطائرات، وأنا أرى أمي جالسة لا تفعل شيئًا سوى التحديق في وجوهنا، وأبي صامت يسمع الأخبار عبر مذياعه القديم، وجدتي تصلي صلاة العشاء للمرة الثالثة ربما لأنها ترغب أن تستشهد وهي تصلي، أختي نور التي هدم بيتها تحتضن ابنها في الظلام وتهدهد له كي ينام، أختي سمية بدت ذابلة جدًا، تحت القصف تشعل شمعة وتقرأ كتاب “رأيت رام الله” لعلها تهرب للكتب رغبة في أن تعيش معانة أقل من التي نعيشها؟ أود أن أكتب لأنني ببساطة أريد أن أكتب، لأنني منذ خمسين يومًا وأنا أشتاق لإنسانة اسمها (إسلام) ولأجلها يجب أن أكتب، أو على الأقل أن أحاول الكتابة.
تعود بي ذاكرتي لتلك الليلة القاتمة جدًا، ليلة (مجزرة الشجاعية) مجزرة الشجاعية الأولى، أربع عائلات كانت تسكن بيتنا الصغير، الطائرات والمدفعيات تقصف في كل مكان، القصف لم يتوقف، انفجار كل ثلاث ثواني، البيوت تهدم فوق رؤوس أصحابها، المساجد تُنسف، القذائف تقتل الناس في الشوارع، شظايا الصواريخ تضرب جدران منزلنا، سمعنا صوت الناس يركضون هربًا من الموت، بعضهم ترك أحبابه خلفه ملقون على الرصيف مضرجين بدمائهم، جيراننا غادروا بيوتهم، للمرة الثالثة يتلقى أبي اتصالاً مسجلاً يأمرنا بمغادرة المنزل لأن حي الشجاعية تحول لمنطقة عسكرية مغلقة، اتفق الجميع على أن نبقى في بيتنا، زادت وتيرة الانفجارات أكثر، سمعنا صوت انفجار عنيف جدًا، فجأة “إسلام تتصل بك!”
كان الجوال يهتز بيدي وأنا أتساءل ماذا أفعل، للحظة فكرت ألا أرد، بعد ثانيتين فتحت الخط: “السلام عليكم .. كيف حالك يا إسلام؟” جاء الصوت من بعيد خائفًا جدًا بأنفاس متسارعة: “عاصم .. يلا اطلعوا من البيت، اطلعوا هلقيت، شو بتستنوا؟ ما ضل حد بالشجاعية، اليهود بقصفوا كل مكان، احنا سامعين الانفجارات اللي عندكم قوية كتير من عنا، كيف عندكم؟ اطلعوا ولا تخوفونا عليكم، تعالوا عنا، أمانة يا عاصم!” صمتُ طويلا قبل أن أرد: “إسلام .. ما بنقدر نطلع!”
عمري أربع وعشرون عامًا، عشت فيها ثلاثة حروب ما رأيت أعنف ولا أقسى من الليلة الرابعة من الهجمة البرية على حي الشجاعية، كنا سبعة وعشرين إنسانًا في غرفتين، لا نفعل شيئًا سوى انتظار الموت، اتصلتْ بي إسلام ليلتها، لا أذكر ماذا قالت لي أو ما قلتُ لها، لكني أذكر أنها كانت ترى ضوء الصواريخ من بيتها ثم تسمع صوت الانفجار عبر الهاتف يضربنا، في الصباح كانت الانفجارات ما زالت مستمرة، لم نلقي لها بالاً فقد شابت قلوبنا، كنا نحدق في عيون بعضنا البعض ونتساءل: “معقول لساتنا عايشين؟”
قريبًا كان الموت منا، قريبًا لدرجة أننا كنا جالسين ننتظره بهدوء، ننتظره وألسنتنا تقول: “أشهد أن لا إله إلا الله” مع كل انفجار! استمر إرهابهم في الشجاعية أيامًا، كل الليالي كانت نسخة مكررة من الليلة الرابعة، كلنا كنا متشابهين، وجوهنا الباهتة، قلوبنا المؤمنة، صمودنا الأسطوري، يقيننا بالنصر، أحلامنا بأن نموت معًا أو نعيش معًا، طريقة حديثنا، ضحكنا المصطنع على نكتة يلقيها أحدنا على أفيخاي أدرعي، ثلاث تمرات كانت سحورنا وعلى ثلاث تمرات كنا نبدأ فطورنا البسيط، نصلي جماعة في البيت، ندعو في كل صلاة، نستبشر كلما سمعنا صوت صواريخ المقاومة، نكبر كلما سمعنا خبرًا عن عملية إنزال خلف خطوط العدو ونطير من السعادة عندما نسمع مذيع الراديو يقول: “وعاد مجاهدونا بسلام”.
في يوم التهدئة الإنسانية، كنت أنا وإسلام قريبين من الموت هذه المرة، لن أنسى جرأتها عندما زارتنا في ذلك اليوم، ولن أنسى خوفي عليها عندما قام الاحتلال بمجزرة الشجاعية الثانية قبل آذان المغرب فقتل العشرات وأصاب المئات في لحظات، خرجتُ بها من البيت، عيون أمي تودعنا، مشينا مسافات طويلة، خرجنا من الشجاعية والطائرات والانفجارات لم تتوقف، وصلنا إلى بيتها في الطرف الآخر من المدينة، على باب بيتها حدقت بي وقالت: “دير بالك على حالك يا عاصم!”
ستنتهي هذه الحرب وتبقى الذكريات، سنذكر أننا مررنا بجانب بيت عائلة الدلو قبل دقائق من قصفه على رؤوس ساكنيه، سنذكر أننا عشنا أسابيع لا نصلي الفجر في المسجد لأن الاحتلال قصف مساجدنا، سنذكر أن الحرب تجعل البيوت الصغيرة تتسع لعائلات كثيرة، سنذكر الصاروخ الذي سقط على منزلنا ولم ينفجر، وسنسأل أنفسنا: “ماذا لو انفجر؟” سنذكر ضحكات أطفالنا ودموعهم، سنذكر والد الطفلة ملطخًا بدماء ابنته يقف على باب غرفة المستشفى ينتظر أحدًا يخبره أن ابنته ما زالت حية، سنذكر أحبابنا الشهداء الذين لم نعطهم حقهم من الحزن والدموع، وأصدقاءنا الذين لم نزرهم في المشافي وهم جرحي، وأقرباءنا الذين هدمت بيوتهم مع الذكريات التي فيها، سنذكر قصف “تل أبيب” وحيفا ولثام أبو عبيدة وخطابه الذي أعلن فيه أسر الجندي (شاؤول آرون) سنذكر وجه (نتنياهو) وهو يعلن أنه يواجه عدوًا شرسًا في غزة، سنذكر أننا عشنا حربًا قاسية جدًا خرجنا منها بمزيد من الحب والإيمان والأمل والأحلام والكتابة أيضًا.
ستنتهي هذه الحرب وتعيد غزة لملمة أشلائها من جديد، ستشرق الشمس كالمعتاد، وننام في غرفنا كالمعتاد، ونستيقظ في الصباح نخطط لأيامنا كالمعتاد، ونسهر دون قصف وانفجارات، سنعود لنكره الروتين ونلعن التخاذل ونصلي في المساجد، ستحفر المقاومة الأنفاق ويذهب الطلاب إلى المدارس ويغيب طلاب الجامعات عن محاضرات الساعة الثامنة، سيذهب العشاق إلى شاطيء البحر ويجلسون قرب الميناء، ستعود الشوارع لتضج بالأطفال الذين يلعبون بكرة قدم معطوبة وعجوز يصرخ عليهم أن يبتعدوا من أمام منزله، سنرفع صور الشهداء، سنلتقي الجرحى فنقبل رؤوسهم، سنحب المقاومة أكثر ونعشق القسام أكثر، سنبدأ التحضير لصفقة الأحرار الثانية، ستنتهي هذه الحرب وننتصر .. ستنتهي هذه الحرب ونبقى أحياء.
لقراءة باقي النص الذي كتبته إسلام (اضغط هنا)