في مفردات اللغة العربية قلّ أن نجد مفردة اختزلت بداخلها ذلك الفيض الهائل من المعاني والدلالات والإحالات النفسية والعاطفية كما فعلت الرسائل، فنحن حين نقرأ رسائل الكتاب التي تم تجميعها لاحقًا في إصدارات مختلفة يداهمنا ذلك الشعور بسقوط الجدار الصلد الذي كان يفصلنا عنهم، وبأنهم بعيدًا عن عبقريتهم وإبداعهم الأدبي يشبهوننا تمامًا في حزنهم وفرحهم ووقوعهم في شرك المرض والفقر والحب.
لكن تبقى المتعة الاستثنائية المتجسدة في الرسائل هي قدرتها على الجمع بين فنون السرد والاعتراف والسيرة الذاتية وما يتخلل ذلك من بوح عفوي جميل وتتبع لتفاصيل العيش بكل دقائقه وجزئياته، فقد مكنتنا كتب الرسائل بأطيافها وأشكالها كافة من تجميع الحياة المفككة لأصحابها، يشبه الأمر كثيرًا قطع الأحجية، فنحن حين نقرأ لكاتب نفكر كثيرًا في منبع إبداعه وكيف عاش التجربة الثرية التي مكنته من كتابة إبداعاته ولكن بقراءة رسائله يمكننا وضع الأمر في نصاب واحد.
صحيح أن الرسائل ثمرة اللحظات العابرة ولكن حين توضع بشكل متسلسل فإنها تقدم صورة متكاملة عن حياة كاتبها وتحولاته ومحطاته المختلفة، ومن ناحية أخرى تشكل الرسائل إحدى أهم الوثائق التي تعبر عن أحوال المجتمع وطرق عيشه وثقافته والشاهد الأصدق والأمين على العصر الذي تنتمي إليه.
في رسائل سيلفيا بلاث على سبيل المثال، وبين طيات السطور نجد الاضطراب والحزن الذي رافقها من عمر الثامنة إثر وفاة والدها، ونجد الألم والحماس ولحظات الفرحة، رسائل بلاث هي ما يقرب من 600 صفحة تحتوي على حياة كاملة مليئة بالصخب والهوس والعواطف المتضاربة.
من سيلفيا بلاث؟
“أريدُ للحياة أن تمسّني بعمق؛ لكن دون أن أعمى عن رؤية وجودي في نور الخفة والفكاهة”.
ولدت بلاث في ولاية ماساتشوستس بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1932، وفي نوفمبر عام 1940 وبعد عيد ميلادها الثامن توفي والدها إثر مضاعفات خطيرة أدت إلى بتر قدمه بسبب إصابته بمرض السكري، وقد بدأت بلاث كتابة القصائد الشعرية في أثناء زياراتها المتكررة لقبر والدها، وكانت تلك القصائد تحمل الكثير من الحزن والألم.
كانَ عليّ أن أقتُلكَ، يا أبي.
مِتَّ قبلَما يتَوفَّرُ لي الوقتُ…
كَيِّسٌ، ثقيلٌ رخاميٌّ، مِلؤهُ الله،
تِمثالٌ شَبَحيٌّ بإصبَعِ قَدَمٍ رماديةٍ.
اعتدتُ أن أُصلِّي، لأستعيدكَ،
وأنا أَئِنُّ.
درست بلاث في جامعة سميث وجامعة نيونهام في كامبريدج، وتعرفت بعد ذلك على زوجها الشاعر البريطاني الكبير تيد هيوز، وبعد تخرجها أضحت كاتبة محترفة للشعر والرويات والقصص القصيرة وذلك حتى أصبحت واحدة من أكثر شاعرات القرن العشرين شهرة، تقول بلاث في إحدى رسائلها لأمها: “الكتابة هي حبي الأول. علي أن أعيش بعافية وثراء وبعدٍ لكي أكتب، لا يمكن إطلاقًا أن أكون كاتبة منطوية ضيّقة، مثلما هو حال العديدين، لأن كتابتي تعتمد على الكثير من الحياة”.
صوت سيلفيا بلاث الداخلي الذي لا يسكت
في إحدى قصائدها الأولى كتبت بلاث: “تسألني لماذا أمضي عمري في الكتابة.. إن كانت مصدر تسلية.. إن كانت تستحق.. وفوق كل شيء إن كانت ذات جدوى.. إن لم يكن إذن؟ أثمة سبب.. أنا أكتب فقط لأن هناك صوتًا في داخلي لن يسكت”.
في أثناء دراستها بجامعة سميث وبسبب ضغط المصروفات الدراسية كانت بلاث تقسم وقتها بين الكتابة والعمل الجزئي كنادلة بأحد المطاعم
في رسائلها كانت بلاث دومًا تتأرجح بعنف بين التصريح الدائم بأنها تريد أن تنغمس بشدة في الكتابة دون الالتفات إلى عملية النشر، وهاجس خوفها الدائم ألا تملك صوتًا خاصًا بها، ولهذا ظلت تصارع دومًا للبحث عن هويتها التي يمكن بواسطتها أن تتقدم إلى حدود اللغة والحياة، ولكن نظرًا للسياق الاجتماعي في تلك الحقبة الزمنية وبسبب سياسة النشر التي فرضها السوق في ذلك الوقت فإن صوت بلاث لم يُسمع فيما هو أبعد من المعاناة النسائية الدرامية، إذ وُصفت دومًا بأنها امرأة مصابة بالاكتئاب.
في ذلك الوقت كانت بلاث تحظى بالكثير من رسائل الرفض من الناشرين والمحررين وهو الأمر الذي أدخلها في نوبة شديدة من الاكتئاب وجعلها تشعر بالفشل وأن الأمر الوحيد الذي ظنت طوال حياتها أنها تتقنه وهو الكتابة أضحت فاشلة فيه، ولكن بلاث لم تستسلم وظلت تكتب وتكتب، ففي أثناء دراستها بجامعة سميث وبسبب ضغط المصروفات الدراسية كانت بلاث تقسم وقتها بين الكتابة والعمل الجزئي كنادلة بأحد المطاعم، ولكن بعد أن درست بلاث عامًا كاملًا بجامعة سميث تخلله الكثير من العمل المضني والكتابات التي كانت تُرفض اتضح لبلاث انها أخطأت في اختيار التخصص المطلوب ولهذا قررت الانتحار.
ففي العطلة الصيفية استغلت فرصة خروج أمها التي كانت تعمل كمعلمة إلى العمل، وسرقت حبوبها المنومة وذهبت إلى القبو بعد أن كتبت لأمها رسالة بأنها ذاهبة إلى نزهة طويلة، ولكن فور أن لاحظت أمها اختفاء حبوبها حتى اتصلت بالإسعاف ووجدها أخوها في القبو عن طريق الصدفة لتمكث بعدها بلاث بإحدى المصحات العقلية لمدة 6 أشهر ويتم علاجها بالصدمات الكهربائية.
الحب والوجع والخيانة التي أدت للموت
حين فاقت بلاث من صدمتها الأولى ووقفت على أقدامها مرة أخرى عادت لحياتها في جامعة سميث، اختارت تخصصها هذه المرة بعناية وأكملت دراستها وفازت بجميع الجوائز الكبرى في الأبحاث العلمية والكتابة، كما حررت مجلة الجامعة “مادموزيل – Madmoizelle” وحصلت على جائزة جلاسكوك على كتاباتها: “المتجول على البحر” و”المحبوبان”.
بعد ذلك حصلت بلاث على منحة جامعة نيونهام في كامبردج، ونشرت ديوانها الشعري الأول “العملاق وقصائد أخرى” وذلك في أواخر الستينيات في بريطانيا، ورغم النجاح الكبير الذي حصدته، فإنها كانت تعاني دومًا من ذلك الخوف الكامن في أعماقها بأنها لن تقابل يومًا شخصًا يحبها وأنها ستعاني دومًا من الوحدة وبشكل أو بآخر لن تصبح إلا نسخة مكررة من والدتها، وفي تلك الفترة تحديدًا ظهر في حياتها الشاعر الكبير “تيد هيوز” الذي وقعت بلاث في غرامه على الفور إذ كانت ترى فيه ذلك الشخص الناضج والناجح والمفعم بالطموح والحماس.
تزوجت بلاث من هيوز عام 1956 وعاشا في الولايات المتحدة أولًا ثم انتقلا إلى بريطانيا، وبسبب عملهما ككاتبين من المنزل كانا عادة ما يجوبان بلاد العالم لأن هيوز كان يحب السفر كثيرًا، وفي هذه المرحلة عاد الاكتئاب يسيطر مرة أخرى على بلاث ولكي تجدد شعورها بالطمأنينة قررت إنجاب الأطفال.
ولكن بعد ست سنوات من الزواج اكتشفت بلاث أن هيوز يخونها مع إحدى معارفها القدامي “آسيا ويفيل” وحين علمت بلاث بالخيانة لم تتخل عن هيوز فورًا ولكنها تركت له العديد من الفرص ليعاود الكرة في حياتهما معًا مرة أخرى وذلك حتى وجدت في مكتبه قصيدة عذبة كتبها زوجها إلى عشيقته يخبرها فيها أنه سيتخلص قريبًا من الإخطبوط الذي يحاصر حياته حاليًّا ويقصد به بلاث.
الحياة هي وِحدة. رغم كل المرح المبهرج الصاخب، الحفلات التى بلا جدوى، رغم الوجوه المبتسمة الزائفة
حاولت بلاث مرارًا المقاومة ولكنها وجدت أنها تعيش مع زوج خائن وحياة لا تستحق أن تُعاش، فقررت أن تنهي حياتها بأن حشرت رأسها داخل الفرن حيث ماتت إثر التسمم بأول أكسيد الكربون، ولأن بلاث كانت حريصة بشدة على حياة أطفالها فقد وضعت مناشف مبللة تحت الأبواب حتى تكون حاجزًا بين المطبخ وغرف أطفالها.
“الحياة هي وِحدة. رغم كل المرح المبهرج الصاخب، الحفلات التى بلا جدوى، رغم الوجوه المبتسمة الزائفة التى نرتديها جميعًا.. وعندما تجد في النهاية أحدًا تشعر معه أنك تستطيع أن تثبت لواعج نفسك، تتوقّف فى الحال مذعورًا من كلماتك، هي صدئة جدًا، قبيحة جدًا، تافهة جدًا، وواهنة.. لأنها بقيت زمنًا طويلًا حبيسة فى الظلام الخانق لداخلك. أجل، يوجد فرح، ارتياح، عِشرة. لكن وِحدة الرُوح في وعيها الفظيع بذاتها هى رهيبة.. وطاغية!
الاكتئاب الذي عصف بحياة سيلفيا بلاث
في رسائلها التي بدأت بلاث تكتابتها منذ الصغر كان يبدو وبشدة أنها تحتمي بالكتابة من ثِقل الواقع وتتجاوز بها عن قسوته، ولذلك فقد نسجت من قصادئها ثوبًا رقراقًا تداخلت فيه خيوطه الذهبية مع مهاراتها الشعرية، ولكن يبدو أن بلاث انسحقت في عالمها الخيالي ولم تكترث كثيرًا للواقع الذي كانت كلما تعود إليه يداهمها الاكتئاب ولهذا كانت تواجهه دومًا بالمزيد والمزيد من الكتابة.
ولكن كان لدى بلاث أيضًا ذلك الخوف من كونها لا تملك هوية خاصة بها وهو الأمر الذي جعلها تعتقد دومًا حتى بعد أن حققت نجاحًا كبيرًا أنها بائسة لا روح فيها ولا حياة، وأن كتاباتها جوفاء لأنها بالأساس شخصية جوفاء لا تملك ذاتًا حقيقية، فكل ما تملكه خواء وهو الأمر الذي يتضح من رسائلها إلى والدتها إذ كانت تخبرها بلاث بأنها امرأة منتهية، ورغم كل محاولات بلاث لتجميل حياتها عبر الكتابة والأمومة التي وصفتها بأنها توسيع لتجربة الحياة، فإن جميع محاولاتها باءت بالفشل، وقد يكون انتحارها في جزء منه بجانب خيانة زوجها هو انطلاقًا من إيمانها بعقاب ذاتها على الفشل.
وفي منحى آخر فالموت المأساوي للكاتب هو العنصر الأساسي القادر على فهم إنتاجه الأدبي، بلاث ماتت في الثلاثين من عمرها، وبموتها هذا وبشكل غير مباشر بالمرة حلت معضلة مشتركة بين كاتبات هذا الزمن، إذ إن بلاث حاولت دومًا تأليف نصوص ملتزمة يرضاها المجتمع وذلك من خلال اللعب على وتر اللغة ولكن دون جدوى، ففي النهاية كانت هناك معضلة الكاتبة الأنثى المستنزفة التي كانت تُدفع إلى حرق كتابات كانت ستبدو جيدة لو تم العمل عليها، ولكنها تُحرق في نهاية الأمر خوفًا من الرقابة.