جاءت عملية تكليف رئيس الوزراء العراقي الجديد محمد توفيق علاوي من رئيس الجمهورية برهم صالح، لتشكل منعطفًا جديدًا في مسار العملية السياسية في العراق، التي واجهت العديد من المطبات الكبرى منذ أكتوبر الماضي موعد انطلاق التظاهرات الاحتجاجية في بغداد وغيرها من المدن العراقية، ضد الفساد والمحاصصة الطائفية والتوزيع غير العادل للثروة وغياب أساسيات الحكم الرشيد في العراق، وهو ما جعل الواقع السياسي العراقي بدوره مفتوحًا على سيناريوهات وخيارات عديدة، في ظل غياب أي فرص للحل السياسي، نتيجة إصرار الطبقة السياسية الحاليّة على جعل سقف الحلول ضمن الأطر التي لا تهدد مصالحها من جهة ومصالح إيران من جهة أخرى.
أصدر رئيس الوزراء العراقي المكلف محمد توفيق علاوي بيانًا قصيرًا أوضح فيه العديد من الخيارات التي سيتبناها في المرحلة القادمة، وعلى الرغم من التفاؤل العالي الذي أظهره في إمكانية تنفيذ مطالب المتظاهرين وتبني الشروط التي نادوا بها منذ بدء الحراك الشعبي، فإنه بالمقابل سيواجه متاعب كبيرة نابعة من الواقع الذاتي والموضوعي للعراق وأزماته، هذا بالإضافة إلى عدم تمتعه بمصداقية كبيرة في الشارع العراقي، وهو ما أثبتته التظاهرات المنددة التي انطلقت عقب صدور أمر تكليفه من رئيس الجمهورية، خصوصًا أن العراق اليوم في خضم أزمات كبيرة.
إن رئيس الوزراء المكلف هو ابن عم السياسي العراقي إياد علاوي الذي كان يُعتبر ذات يوم الأمل العلماني للعراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003، وبدلًا من ذلك طرده نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي المقرب من إيران، كما تمسّك المالكي بالسلطة وأبعد العرب السنة والأكراد، مما أدى في النهاية إلى صعود داعش وقيادة الجيش العراقي للانهيار عام 2014، وفضلًا عن ذلك ترى الحركة الاحتجاجية أن رئيس الوزراء المكلف مثال على الطبقة السياسية القديمة الفاسدة التي تسببت بالاحتجاجات منذ أكتوبر الماضي، وردت الحكومة والميليشيات التي تدعمها إيران بحملة من القمع والتنكيل، مما أسفر عن مقتل أكثر 500 شخص وإصابة 20.000 شخص.
مقتدى الصدر على خط الأزمة
يقود مقتدى الصدر أكبر تحالف سياسي في العراق، ويعتقد بأنه يتجه نحو موقف أقل تركيزًا على إيران، والمزيد من الوطنية العراقية، ودعم الحركة الاحتجاجية عام 2019 التي استهدفت القنصليات الإيرانية والميليشيات التي تدعمها إيران، وفي المقابل أطلقت الميليشيات المسلحة التي تشكل جزءًا من الحشد الشعبي، والتي هي أيضًا جزء من القوات الحكومية شبه العسكرية، النار على المتظاهرين، وشمل ذلك مسلحين من عصائب أهل الحق وبدر وكتاب “حزب الله” والخرساني، كما استهدفت هذه الميليشيات مصالح وسفارة الولايات المتحدة، وسط تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، إذ أطلقوا صواريخ على القواعد التي توجد فيها القواعد الأمريكية وفي المنطقة الخضراء بالقرب من السفارة الأمريكية في بغداد، وفي 27 من ديسمبر 2019، قتل مقاول أمريكي، وبعد يومين قصفت الولايات المتحدة خمسة مواقع لكتائب “حزب الله”.
ردًا على ذلك، قاد رئيس تحالف البناء هادي العامري الاحتجاجات الموالية لإيران إلى السفارة الأمريكية في بغداد، واقتحام مدخل المنطقة الخضراء، وعلى إثر ذلك شنت الولايات المتحدة غارة جوية أسفرت عن مقتل قائد قوة فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس ردًا على ذلك، باختصار هذا هو الوضع الذي يجب على رئيس الوزراء العراقي الجديد التعامل معه في العراق.
العودة الأخيرة لمناصري التيار إلى ساحات التظاهر قد تأتي في إطار دعم موقف الصدر الأخير من حكومة رئيس الوزراء المكلف
أثمرت الضغوط التي قادها مقتدى الصدر عن تكليف محمد توفيق علاوي برئاسة الوزراء، فهو يعرف كيفية القيام بالأعمال المسرحية، لكنه لا يريد أن يقود التظاهرات إلى الدرجة التي تصطدم بالولايات المتحدة ومصالحها، فالإشكالية الكبيرة التي يمكن القول إن التيار الصدري لم يستطع الفكاك منها حتى هذه اللحظة، هي “نزاع الثنائيات” التي لطالما وجد نفسه فيها، محلي – إقليمي، مصلح – جزء من منظومة الدولة وهكذا، وعلى هذه الأساس يبرر موقفه السياسي من التظاهرات الحاليّة، بأنه بمثابة الأخ الأكبر للمتظاهرين والطبقة السياسية في آن واحد، وعلى هذا الأساس يتصرف ويتحرك ويتغير.
إن نظرة التيار الصدري وتحديدًا مقتدى الصدر، هي أن أي عملية إصلاحية في العراق لا ينبغي أن تتم إلا والتيار يكون في مقدمتها أو جزءًا رئيسيًا منها، وهو ما يفسر أيضًا موقفه من التظاهرات ومطالبها، العودة والانسحاب وهكذا، وعليه فإن العودة الأخيرة لمناصري التيار إلى ساحات التظاهر قد تأتي في إطار دعم موقف السيد الصدر الأخير من حكومة رئيس الوزراء المكلف محمد توفيق علاوي، وتبني السيد الصدر لهذا الموقف الداعم يعني أن الحكومة الانتقالية الجديدة جزء من خلطة سياسية يراها الصدر لإخراج العراق من المأزق السياسي الحاليّ، وأنه أعطى دعمه المشروط لها، بمعنى في حال فشلت هذه الحكومة في تبني مطالب المتظاهرين، فإن التيار سيكون في مأمن من ذلك، وهذا أمر آخر يحسب له، بأنه أعطى الدعم المشروط وليس الكامل.
رئيس وزراء غير واضح المعالم
المتغير الرئيسي هنا هو أنه لم يأت على الرادار الأمريكي سابقًا، فنادرًا ما ذكروه في الرسائل الدبلوماسية، ولكن لا يبدو أن لديه الكثير مما يسير عليه، إلا أنه ليس مثيرًا للجدل، قد يكون مقبولًا من الأقسام السنية والكردية في العراق، إذ تحتاج المناطق السنية إلى إعادة البناء بعد تحريرها من سيطرة تنظيم داعش، وتريد المناطق الكردية المتمتعة بالحكم الذاتي، التوصل إلى اتفاق بشأن الميزانيات وغيرها من القضايا.
إذًا كيف سيتغلب علاوي على الكارثة التي تتكشف يومًا بعد آخر؟ لقد أظهرت قوات الأمن أنها لا تسيطر على العراق في الأشهر الأخيرة، كما لا يزال تنظيم داعش يشكل تهديدًا، والأكثر من ذلك فإن الميليشيات المسلحة المدعومة من إيران، تلعب دورًا متزايدًا في السياسة والأمن ومتورطة في عمليات القتل خارج نطاق القضاء.
ومن الواضح أن عملية تكليف رئيس الوزراء الجديد تمثل أسلم الحلول، فهو يمثل حالة توازن بين تهديد المليشيات المسلحة المدعومة من إيران أولًا، ورغبات تحالف البناء الذي يقوده العامري ثانيًا، والصدر الذي يريد أن يظهر بصفة الشخصية الأولى في العراق والمتبني له ثالثًا.
المشكلة الكبيرة أن رئيس الوزراء المكلف أمامه استحقاقات كبيرة أهمها تنفيذ كامل مطالب المتظاهرين من محاربة الفساد وحصر السلاح وغيرها، وهي مهمات أعتقد أنه سيكون عاجزًا عن تنفيذها لأسباب موضوعية وذاتية كثيرة، وهنا ينبغي التأكيد بأنه يمكن أن يفشل في نيل ثقة مجلس النواب، على اعتبار أن هناك سياقات دستورية ينبغي أن تستكملها عملية التكليف، وأن أمر التكليف من رئيس الجمهورية لا يعطيه صفة تنفيذية كاملة ونهائية دون موافقة مجلس النواب عليها.