في الـ2 من أكتوبر/تشرين الأول 2018، وفي موعد بث حلقة برنامج “الاتجاه المعاكس” المقدم على قناة “الجزيرة” تفاجأ المشاهدون بصورة الأمين العام المساعد للحكومة الموريتانية إسحاق الكنتي على كرسي الضيوف، لكنه الغائب الحاضر، فسرعان ما أعلن مقدم البرنامج فيصل القاسم بأن الرجل وصل الدوحة وموجود في أحد فنادقها، إلا أنه رفض الحضور للبرنامج كما كان مخطط له.
وفي خضم تصاعد منسوب التكهنات عن رفض الكنتي المشاركة رغم حضوره للدوحة بالفعل، خرجت وسائل إعلام موريتانية لتكشف النقاب عن كواليس هذا الموقف، وذلك حين أعلنت أن الإمارات غاضبة ومنزعجة من هذه الزيارة وتعتبرها كسرًا للحصار المفروض على قطر وقناة الجزيرة، الذي شاركت فيه نواكشوط بعد يوم واحد فقط من إعلان كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر قطع علاقاتها الدبلوماسية مع قطر في 5 من يونيو 2017.
ومنذ هذا الموقف استقر في يقين الجميع أن أصابع أبناء زايد في موريتانيا باتت تتجاوز المألوف والمتوقع وفق الأعراف الدبلوماسية التقليدية، وهو ما تفسره الجهود الحثيثة التي بذلتها أبو ظبي للإبقاء على حليفها الأول في البلاد، الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، على كرسي الرئاسة لولاية جديدة رغم مخالفة ذلك للدستور، ثم تلاه البحث عن بديل آخر يتمتع بذات المواصفات المرنة في التعامل مع الإماراتيين.
بالأمس، أعلنت الإمارات، تخصيص ملياري دولار لموريتانيا من أجل إقامة مشاريع استثمارية وتنموية وتقديم قروض ميسرة، وتأتي تلك المبادرة تنفيذًا لتوجيهات رئيس البلاد خليفة بن زايد وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، متزامنة مع زيارة الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني، للإمارات، وهي الزيارة الأولى له لبلد عربي منذ توليه السلطة.
بات من الواضح أن الإمارات تتسلح في تحركاتها السياسية بميزانية شديدة السخاء قد لا يجاريها إلا طموح ولي عهدها وحاكمها الفعلي محمد بن زايد، في القوة والسيطرة، راغبة من وراء تلك التحركات في إحكام السيطرة على عشرات الموانئ والوجود في سواحل عديدة من دول العالم، لا سيما في القارة الإفريقية التي تمتلك فيها قواعد عسكرية في جيبوتي وإريتريا، إلى جانب وجودها العسكري في ليبيا عبر دعمها قوات خليفة حفتر.
شهدت وأخي محمد ولد الشيخ الغزواني رئيس موريتانيا توقيع عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم بين بلدينا .. ماضون في ترسيخ تعاوننا الوثيق وتعزيز العمل المشترك في مختلف المجالات. pic.twitter.com/lG9fqMVuPH
— محمد بن زايد (@MohamedBinZayed) February 2, 2020
المال ثمن الولاء
تنتهج أبو ظبي لتنفيذ أجندتها السياسية سياسة المال مقابل الولاء، وهو ما تتبعه مع الكثير من الدول التي تعاني من هشاشة في بنيتها الاقتصادية والسياسية بوجه عام، حيث تكون الأجواء مهيأة لإعادة هيكلة القرار السياسي في حال ضخ الملايين من الدولارات والمنح والمساعدات التي تنتشل تلك البلدان – ولو مؤقتًا – من مأزقها الاقتصادي.
وتحت عنوان “التعاون الإماراتي الموريتاني” وضمن اتفاقيات عدة ضخت أبو ظبي خلال الأربعين عامًا الماضية أموالها بسخاء في جيب نواكشوط، كانت البداية الأبرز عام 1979، حين منحت مبلغ 40 مليون درهم إماراتي لتمويل جزء من طريق “الأمل” الرابط بين كيفة والنعمة شرقي موريتانيا.
تلا ذلك القرض الذي حصلت عليه موريتانيا عام 1980 من صندوق أبو ظبي للتنمية على قرض بمبلغ 24 مليون درهم إماراتي لتمويل مشروعات واستصلاحات زراعية وبناء سدود، وهي القروض التي في الغالب لا تقوى نواكشوط على سدادها فيكون المقابل ارتهان قرارها السياسي.
وبعد ثورات الربيع العربي تعزز هذا التوجه بصورة كبيرة، حيث ارتفع مستوى التعاون بين البلدين، عسكريًا وأمنيًا واقتصاديًا وسياسيًا، فقد نشطت التجارة البينية بين البلدين لتبلغ سنويًا 48 مليون دولار، فيما وصلت قيمة الشحن البحري من الإمارات إلى موريتانيا 78.8 مليون دولار أمريكي، والشحن الجوي 3.5 مليون دولار أمريكي، وتصدير السيارات 6.7 مليون دولار.
دخول الإمارات بقوة في المجالات الاقتصادية والعسكرية وحتى الإعلامية في البلاد أثار حالة من الغضب لدى الشارع الموريتاني الذي بات يتساءل عن الثمن الذي ستدفعه بلاده مقابل تلك المساعدات
وقبل عدة أشهر وقعت البلدان عدة اتفاقيات لتطوير التعاون التجاري، في مجالات الطاقة والثروة الحيوانية وتكنولوجيا الإعلام، علاوة على تشكيل مجلس مشترك لرجال الأعمال، بجانب اتفاق آخر للاستثمار الزراعي مع الإمارات يمكن الشركات الإماراتية به من تنفيذ مشروعات زراعية كبيرة، علاوة على قيام دبي على مجموعة من المشاريع الضخمة في موريتانيا، مثل تكفّل شركة “مجموعة الإمارات الاستثمارية”، بإعداد مخطط شامل لمدينة نواكشوط لعام 2020، وبناء شركة “مصدر” الإماراتية محطة للطاقة الشمسية.
جدير بالذكر أنه وبجانب الإمارات تدعم السعودية هي الأخرى بشكل قوي الموريتانيين، في محاولة لتشكيل قوة عسكرية مشتركة في الساحل الإفريقي، لمواجهة النفوذ الإيراني المتنامي في غرب إفريقيا، حيث وعدت أبو ظبي بإنشاء “مدرسة حرب” في موريتانيا لتدريب القوات الموريتانية المشاركة في تلك القوة، وقد خصصت السعودية 118 مليون دولار، فيما قدمت الإمارات 35 مليون دولار لتمويل القوة العسكرية المشتركة، وفي المقابل تراجعت العلاقات الموريتانية الإيرانية في السنوات الثلاثة الأخيرة بسبب التقارب الملحوظ لنواكشوط مع حلف الرياض – أبو ظبي.
غضب موريتاني
دخول الإمارات بقوة في المجالات الاقتصادية والعسكرية وحتى الإعلامية في البلاد أثار حالة من الغضب لدى الشارع الموريتاني الذي بات يتساءل عن الثمن الذي ستدفعه بلاده مقابل تلك المساعدات، هذا في الوقت الذي تتهم فيه أحزاب موريتانية أبو ظبي بالتدخل في شؤونها الداخلية مثلما كانت تدعم الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز ضد المعارضة الموريتانية ودفعته لإغلاق مقرات وممتلكات هذه الأحزاب خاصة الأحزاب الإسلامية منها.
تعزز هذا الغضب بصورة أكبر مع زيارة وفد عسكري إماراتي لموريتانيا قبل أيام، لدراسة مشروع تطوير مطار عسكري شمال البلاد، بحسب مصادر عسكرية قالت: “الوفد سيعقد اجتماعات مع عدد من المسؤولين في الجيش وخاصة قادة المنطقة الشمالية”، وبحسب المصادر ذاتها فإنه “تم الاتفاق في زيارة سابقة لقائد أركان القوات الجوية الإماراتية لموريتانيا على تطوير المطار الواقع في القاعدة العسكرية الشمالية وهو اتفاق يندرج في إطار التعاون العسكري بين البلدين”.
تعد المساعدات الاقتصادية التي تقدمها الإمارات إحدى وسائل القوة الناعمة التي يستخدمها أبناء زايد من أجل شراء ولاءات الدول والحكومات
ويتميز هذا المطار بموقع إستراتيجي خطير، كونه يقع في منطقة قريبة من الحدود بين موريتانيا ومالي من جهة وموريتانيا والجزائر من جهة أخرى، وهو الأمر الذي ربما يثير حفيظة المغرب والجزائر بوجه عام إزاء تغلغل النفوذ الإماراتي في هذه المنطقة المتوترة بطبيعة الحال.
وفي السياق ذاته وقبل أشهر قليلة منحت الإمارات الجيش الموريتاني طائرة عسكرية تعمل في مهام الاستطلاع الجوي والإنزال المظلي ونقل الجنود والمؤن، كما افتتحت كلية للدفاع في العاصمة الموريتانية نواكشوط أطلق عليها اسم كلية محمد بن زايد، ومع نهاية 2018 صادقت الحكومة الموريتانية خلال اجتماع استثنائي، على مرسوم يتضمن المصادقة على عقد تنازل عن مطارها الدولي “أم التونسي” لصالح شركة (Afro Port) الإماراتية.
وبحسب تلك الصفقة تتنازل نواكشوط للشركة الإماراتية عن تسيير البوابة الجوية الوحيدة للبلاد لمدة 25 سنة، فيما لم تعلن الحكومة الموريتانية ولا الشركة الإماراتية تفاصيل الصفقة أو الامتيازات التي سيستفيد كل طرف منها، وهو ما أثار حفيظة أحزاب المعارضة التي وصفتها بـ”الصفقة المشبوهة”.
النائب البرلماني المعارض محمد ولد محمد أمبارك يعتبر أن تسليم مطار نواكشوط الدولي لشركة أجنبية هو امتداد لمسلسل من الفساد قامت به الحكومة الموريتانية، بدأ بتسليم ميناء الصداقة في نواكشوط لشركة أخرى أجنبية، من دون عرضه على البرلمان ليقول كلمته في أموال الشعب.
وقال: “تسليم المطار لشركة إماراتية من دون المصادقة عليه من طرف البرلمان سابقة خطيرة، وقمة الفساد والتلاعب بمصالح العامة، خصوصًا المؤسسات العمومية التي راحت ما بين الإفلاس والتنازل عنها للأجنبي”، متسائلًا “ماذا بقي من المؤسسات العمومية؟”.
يذكر أنه في أواخر يناير الماضي، ذكرت وسائل إعلام موريتانية أن الإمارات قررت إنشاء قاعدة عسكرية من خلال تمويل مشروع تطوير مطار عسكري شمالي البلاد، لكن نواكشوط نفت هذا الكلام وقالت إن ما تم تناقله مجرد “شائعات”، ليستيقظ الشارع الموريتاني أمس على خبر تخصيص ملياري دولار من أبو ظبي لإقامة مشروعات يقال إنها استثمارية.
القوة الناعمة للإمارات
تعد المساعدات الاقتصادية التي تقدمها الإمارات إحدى وسائل القوة الناعمة التي يستخدمها أبناء زايد من أجل شراء ولاءات الدول والحكومات، وهو ما ثبت نجاحه مؤخرًا مع بعض الدول الأخرى، وهو ما أكده المحلل السياسي محمود علوش الذي قال إن تلك المساعدات “مغرية بالنسبة لدول فقيرة”، موضحًا “لا أسميها مساعدات اقتصادية؛ حيث إنه في العلاقات بين الدول ليس هناك شيء من دون مقابل، فكيف الحال عندما نكون أمام هذا التنافس الإقليمي والدولي على منطقة هي بأمس الحاجة إلى المال؟”.
وأشار علوش في تصريحات له إلى ما تشهده شمال إفريقيا ومنطقة القرن الإفريقي من تنافس إقليمي محموم بين عدة أطراف منذ سنوات، مضيفًا: “الإمارات منخرطة في تحالف مع مصر والسعودية ودول أوروبية في هذه البلدان في مواجهة تحالف آخر تقوده تركيا وتنخرط فيه دول إقليمية كقطر، وهذا ما يفسر الاهتمام الإماراتي البارز في شمال إفريقيا”.
المساعدات التي تعلنها الإمارات عبارة عن كذبة أمام العالم، فمثلاً في اليمن لم يقدم الهلال الأحمر التابع لأبو ظبي أي شيء يذكر على الأرض، بل إنه دفع تلك المليارات لتسليح مليشياته
مؤكدًا “ليبيا على سبيل المثال تشكل في الوقت الراهن ساحة صراع بالوكالة بين هذين المحورين، وكذلك الصومال، وإن أخذ فيه هذا الصراع شكلاً أقل حدة، وحاليًّا تنضم موريتانيا إلى قائمة هذه الدول”، معتبرًا أن الموقع الجغرافي لدول مثل موريتانيا أو ليبيا وغيرها من البلدان التي تشهد هذا التنافس الخارجي “يحظى بأهمية عسكرية للأطراف المتنافسة”.
واختتم المحلل السياسي حديثه بقوله: “لذلك نسمع منذ فترة عن بناء قواعد عسكرية في هذه الدول، هذا هو ثمن ما تسمى المساعدات الاقتصادية، فالإماراتيون لديهم قدرات مالية، لذلك نجدهم يلجأون إلى استثمار هذه القدرة لخدمة سياساتهم الخارجية، هم ينفقون بسخاء كبير من أجل حصد أكبر قدر من النفوذ”.
الرأي ذاته اتفق معه الباحث في العلاقات الدولية، اليمني محمد المخلافي الذي يرى أن ما ساهم في تسهيل الوجود العسكري المكثف في هذه المنطقة من الإمارات، “وجود حزام من الدول الهشة والأنظمة السياسية غير المستقرة”، معتبرًا أن هذه الدول، ومن بينها اليمن “تعتبرها الإمارات اليوم نفوذًا مهمًا لها، خاصة في ظل السباق الجيوسياسي المعقد الذي تتنافس فيه أبوظبي مع مجموعة من اللاعبين الإقليميين”.
ولفت إلى أنه خلال الأعوام الأربع الماضية عملت الإمارات على نشر قواعد عسكرية لها، بداية من عدن وسقطرى وميون في اليمن، ومرورًا بعصب في إريتريا، وصولًا إلى بربرة وبوصاصو في الصومال، ومن المتوقع أن يمتد إلى دول أخرى في إفريقيا، كما هو الحال مع ليبيا وموريتانيا أخيرًا.
واختتم الباحث اليمني بأن “المساعدات التي تعلنها الإمارات عبارة عن كذبة أمام العالم، فمثلاً في اليمن لم يقدم الهلال الأحمر التابع لأبو ظبي أي شيء يذكر على الأرض، بل إنه دفع تلك المليارات لتسليح مليشياته التي انقلبت على الحكومة المعترف بها دوليًا، فيما يفاخر أمام العالم أنه يساعد اليمنيين”.
بات التساؤل عن الثمن المتوقع أن تدفعه موريتانيا نظير الملياري دولار الإماراتيين، حديث الشارع الموريتاني، مع إعلان هذا الخبر، في الوقت الذي تساءل فيه البعض عن المقابل الذي تحصل عليه أبو ظبي من وراء ضخ هذه المليارات في دولة مثل موريتانيا، علمًا بأن أبناء زايد لا يضخون أموالًا لوجه الله ولا بد من أهداف خفية من وراء تلك التحركات وهو ما أثبتته التجربة في أكثر من ساحة.. تساؤلات تكشفها الأيام القادمة.