كتبتُ، أخيرًا، في موقع “مركز المعلومات البديلة”: ستنهض غزة من رمادها، ولكن هل ستسترجع إسرائيل الحد الأدنى من الحياة العادية؟ لأننا نواجه، في حقيقة الأمر، صِراعَيْن اثنين، فمن جهة، هناك العدوان القاتل لإسرائيل (لنتوقف عن الحديث عن الحرب)، ضد سكان غزة، ومن الجهة الثانية، صراع داخلي عميق داخل المجتمع الإسرائيلي، سيحدّد في نهاية المطاف مستقبله أوعَدَمَهُ في قلب الشرق الأوسط.
حصل بالتأكيد، في الغارات الأولى على غزة إجماع إسرائيلي قوي، فلم يعترض أحد على هذه المجزرة، إذا استثنينا بضعة آلاف ممن يُطلق عليهم في فرنسا “أقصى اليسار”، السبب الجوهري لهذا الصمت المتواطئ هو الاسم، الذي تحيل إليه غزة، فغزة، بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين ليست مكانًا ولا سكّانًا، ولكنها شيء وتهديد وقنبلة دمار شامل يجب تحييدها بأي ثمن، والثمن، في حقيقة الأمر، ضخم. غزة هي حماس، والأخيرة هي الإسلام كتهديد للحضارة المسماة باليهودية المسيحية، وللديمقراطية ولحقوق المرأة.
هذا الأمر، ليس فقط في أعين الإسرائيليين، بل وأيضًا في نظر العالم الغربي، بمن فيه قِسمٌ من اليسار، خصوصًا في فرنسا.
إذن، يوجد في إسرائيل إجماع واسع على تأييد المجازر في غزة، وهذا يعني أن التوقيع على وقف لإطلاق النار بدا وكأنه مسألة أيام؛ لأن هذه الحرب الاستنزافية تزعزع أيضًا الحياة اليومية لقسم جوهري من المجتمع الإسرائيلي، وبمجرد ما يتم الإعلان عن وقف إطلاق النار وتنفيذه، تنفتح جبهةٌ جديدة بالنسبة إلى المجتمع الإسرائيلي، مختلفة وأكثر تهديدًا.
بضعة آلاف من المتظاهرين، الذين قَدِموا للتظاهر في التجمع المناهض للحرب في تل أبيب، يوم 19 يوليو/ تموز، لم يكونوا هناك، في معظمهم، من أجل التعبير عن تضامنهم مع سكان غزة، ولكن كانوا، في البداية، وقبل كلّ شيء، من أجل التعبير عن خوف عميق يعتمل في دواخلهم منذ فترة طويلة، تعزّز في الآونة الأخيرة بسبب الفاشية التي تحيط بغزة.
إسرائيل تنزلق بين أيديهم، والمجتمع الذي يريدون أن يعيشوا فيه، ويُربّون فيه أبناءهم، ينهار لصالح دولة تحررت فيها العنصرية، إذ يلتقي المرء بالعنف السياسي والشفهي والجسدي في كل ركن من الشارع، وقد انتهى تجمع 19 يوليو/ تموز وسط مطاردات للمحتجّين حتى في الأقبية، من قبل رافضين التظاهر.
إرهاب الأصوات المنشقة ومنع المعارضة من التعبير واكتساح مكاتب منظمة حقوق الإنسان، يحمل اسماً واحدًا هو الفاشية، إسرائيل أصبحت بخطى واسعة مجتمعًا فاشيًا، لم استخدم أبدًا من قبل هذا المصطلح دونما تفكير عميق.
من وجهة نظر تحليلية، أُفضل التعبيرات التي تُحيل إلى الطابع الكولونيالي لدولة إسرائيل، وخلال ثلاثة أجيال كانت إسرائيل فخورة بصورتها، التي تُظهر بشكل مخادع كثيرًا من المظاهر الديمقراطية والليبرالية، والتي تتقاسم قيم المجتمعات الغربية، وكان يُعترف بها من قبل الأخيرة، هذه الإسرائيل، بصدد التحول إلى دولة توتاليتارية، إذ يمتد القمع المسلط على الأقلية الفلسطينية إلى المنشقين الإسرائيليين.
خلال العقد الأخير صوّت البرلمان الإسرائيلي على كثير من القوانين القامعة للحريات، وهي قوانين لم يكن بالإمكان تصورها قبل عشر سنوات خلت، ولكن ما هو أسوأ من هذه القوانين، هو المناخ الذي يحيط بهذه التشريعات والذي يثير الجدل، بدأ من الدعوات إلى القتل، التي تفوّه بها بعض النواب ضد زميلتهم العربية “حنان الزعبي”، مرورًا بالدعوة إلى الاغتصاب كسلاح حرب من طرف أستاذ أكاديمي من حيفا، وصولاً إلى الحملة العنيفة التي نشرتها وسائل الإعلام بشكل واسع ضد الزواج المختلط (بين عرب ويهود)، ليس من المدهش، بعد ذلك، أن نسمع في أوساط الشباب من اليسار، وبشكل متكرر، الحديث عن الهجرة.
استقبلت، في بيتي، يوم السبت الماضي، خمسة عشر من مناضلي حركة التضامن مع سكان الشيخ جراح في القدس، أو بالأحْرى مناضلين سابقين، لأن معظمهم توجه للدراسة أو العمل في الولايات المتحدة الأمريكية أو كندا أو أوروبا، وقد قدموا خلال أسابيع لزيارة عائلاتهم، لا أحد ممن سافر ينوي العودة “في السنوات القادمة”، كما يقولون، الحياة الجديدة ليست سهلة، ولكن العودة ليست واردة في الوقت الراهن.
“لا أريد أن يتلوّث أبنائي بالفساد، الذي يوجد في الهواء الذي تتنفسونه”، أكد أحدهم، عملية الاغتيال الوحشي، التي تعرض لها الشاب محمد أبو خضير، الذي أُحرِق حيُا من قبل ثلاثة شبان إسرائيليين “معياريين”، تبقى بالنسبة إلى الجميع مؤشِّرًا على درجة الانحطاط التي وصل إليها المجتمع، هل يجب أن نعتبر أنه لم يَعد هناك أمل؟ كل شيء مسألة ثمن: إنه قبل كل شيء الإفلات النسبي من العقاب، الذي تتمتع به السياسة الكولونيالية والقمعية، التي سمحت لنتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة بمواصلة مشروعها.
بعض التغيير في اللهجة من قبل المجتمع الدولي يمكنه، بسهولة، أن يقلب الرأي العام الإسرائيلي. التغيير سيندرج في التقلبات التي تعرفها المنطقة، ولكنه سيستغرق بعض الوقت، بينما الوقت بالنسبة إلى الأطفال الفلسطينيين معدودٌ. تتحدث الصحافة عن بعض التوتر بين واشنطن والحكومة المُحافِظة الجديدة الإسرائيلية – وهو ليس حال الثنائي فرانسوا هولاند ومانويل فالس، للأسف – ولكنها تبقى توترات العائلة الواحدة، التي لا تجد ترجمتها في الأفعال، على الرغم من أن قرار باراك أوباما بإيقاف جزء ضئيل جداً من المساعدة العسكرية، له حمولة رمزية.
من هنا، الحاجة الملحة إلى الحركة الاجتماعية الدولية لتعزيز حملة BDS (مقاطعة، وقف الاستثمارات، العقوبات)، إرسال طرود إلى لاجئي غزة الجدد شيء جيد، ولكن العمل من أجل مراكمة العقوبات ضد إسرائيل أكثر نفعًا.
يجب البدء من خلال حملة دولية، لإنشاء لجنة تحقيق دولية ضد مجرمي حرب غزة، والتي ستصل هذه المرة، إلى نهايتها وتؤدي إلى إحضار هؤلاء المجرمين أمام العدالة، وجعلهم يدفعون الثمن إلى آخر قطرة من دماء أبرياء غزة.
المصدر: موقع بوليتيس / ترجمه من الفرنسية: العربي الجديد