الأمور تسير في السودان بشكل متسارع ومتناقض على حد سواء، ففي الوقت الذي يعلن فيه النظام السوادني (الحكومة والمجلس السيادي) التزامه بمطالب الثورة وسط الدعوات المتكررة لمليونيات تحت عنوان “إعادة هيكلة السلطة الانتقالية واستحقاقات التحول الديمقراطي” يسير قادته على النقيض تمامًا، ضاربين بتك الشعارات عرض الحائط.
فبالأمس وفي قفزة دراماتيكية على الأحداث، كشف مسؤول إسرائيلي كبير، أن “إسرائيل” والسودان اتفقا على “بدء تطبيع العلاقات“، وذلك بعد لقاء رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو مع عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني، خلال زيارة لأوغندا، وذلك بدعوة من رئيسها يوري موسيفيني.
يأتي هذا اللقاء المثير للجدل بعد أيام من إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطته لتصفية القضية الفلسطينية، المعروفة إعلاميًا بـ”صفقة القرن”، وقبل أيام قليلة من الزيارة المرتقبة للبرهان لواشنطن بدعوة رسمية من وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو، وهو ما فتح باب التكهنات بشأن هذا التزامن المحفوف بالألغام.
نتنياهو وقبل توجهه إلى أوغندا صباح أمس قال إنه يأمل بأن يحمل معه في طريق العودة “بشائر جيدة” دون أن يسميها، بينما أشارت مصادر أخرى في الوقت نفسه أنه يسعى للحصول على إعلان من أوغندا ودول أخرى بشأن فتح سفارات لها في القدس المحتلة.
علامات استفهام متباينة أثارها هذا اللقاء في هذا التوقيت الحرج الذي يمر به السودان في ظل ما يعانيه من عزلة دولية وتوتر في العلاقات مع بعض القوى الدولية على رأسها الولايات المتحدة التي دفعت الخرطوم ولا تزال ثمنًا باهظًا جراء إدراجها على قوائم الإرهاب وفرض العقوبات عليها.
إفريقيا والدبلوماسية الإسرائيلية
تعد هذه الزيارة الخامسة لرئيس الحكومة الإسرائيلية للقارة الإفريقية، ما يكشف المكانة المتقدمة لدول القارة على رادار الكيان المحتل، إذ يسابق نتنياهو الزمن لتحقيق أكبر قدر من المكاسب الدبلوماسية والاقتصادية لتحسين صورته المشوهة داخليًا ومن المحتمل أن تطيح بمستقبله السياسي إثر تقديمه للمحاكمة بسبب قضايا فساد.
الرئيس الأوغندي خلال زيارة نتنياهو لبلاده قال إن كمبالا تدرس إمكانية فتح سفارة لها في القدس (المحتلة)، مؤكدًا “إذا قال صديق إنني أريد سفارتكم هنا وليس هناك فلا أرى سببًا في عدم القيام بذلك”، واستدرك “إننا نعمل بشكل حقيقي، وندرس ذلك”، بينما رد عليه رئيس حكومة الاحتلال: “عندما تفتحون سفارة في القدس سنفتح سفارة في كمبالا.. نأمل فعل ذلك في المستقبل القريب”.
ورغم العلاقة القوية التي تجمع بين تل أبيب وكمبالا، فإن كلا البلدين ليس له سفارة لدى البلد الآخر، حيث تتولى حاليًّا سفارة “إسرائيل” في نيروبي شؤون العلاقات مع أوغندا، علمًا بأن موسيفيني يعد حليفًا قويًا للاحتلال الإسرائيلي منذ فترة طويلة، وتدرب تل أبيب بعض عناصر قوات الأمن الأوغندية.
يعود تاريخ العلاقات الإسرائيلية – الإفريقية، إلى الخمسينيات من القرن العشرين، حيث تقلبت بين التطبيع حينًا والمقاطعة حينًا آخر، غير أن “إسرائيل” تمكنت مؤخرًا في تثبيت أقدامها في عمق القارة السمراء، خاصة بعدما فرض الوجود الإسرائيلي نفسه، ليس على الأنشطة السياسية والاقتصادية وحسب كما يحرص رئيس الوزراء الإسرائيلي أن يفخر بذلك في تصريحاته بين الحين والآخر، بل هناك تمدد ونشاط عسكري وأمني مثير في كثير من الدول الإفريقية، ولكنه يجري بعيدًا عن أعين وسائل الإعلام.
التطبيع مقابل إنهاء العزلة
يبدو أن نتنياهو يعي جيدًا حقيقة المشهد السياسي والاقتصادي المتأزم داخل السودان، وعليه سعى لتبرير لقائه بالبرهان قائلًا في البيان الصادر عن مكتبه إنه “يعتقد أن السودان بدأ يتحرك في اتجاه جديد وإيجابي.. رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان يرغب في مساعدة بلده على المضي قدمًا في عملية تحديث من خلال إنهاء عزلته ووضعه على خريطة العالم”.
وفي السياق ذاته قالت مصادر إسرائيلية إن رئيس حكومة الاحتلال طلب من البرهان فتح الأجواء السودانية أمام الطيران الإسرائيلي القادم من أمريكا اللاتينية، وهو الطلب الذي لم يذكر رد فعل رئيس مجلس السيادة السوداني عليه، غير أنه يكشف طبيعة الحوار الذي دار بينهما خلال اللقاء.
وكانت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، قد نقلت، مساء الإثنين، عن مصدر إسرائيلي لم تسمه، أن “لقاء نتنياهو والبرهان يمكن أن يقود إلى مرور الرحلات الجوية الإسرائيلية فوق السودان”، لافتة إلى أن رئيس الحكومة الإسرائيلية صرح بعد استئناف العلاقات مع تشاد في يناير/كانون الثاني 2019، بأنه يسعى لإقناع السودان وتشاد بالسماح للطائرات الإسرائيلية بالتحليق عبر إفريقيا إلى البرازيل، وهو المسار الذي سيقلص مدة الرحلات الجوية بنحو 3 ساعات.
ومن الواضح أن هذا اللقاء تم دون علم الحكومة السودانية وهو ما كشفته وزيرة الخارجية السودانية أسماء محمد عبد الله في تصريحاتها لـ”الجزيرة” بأن لا علم لها بأي لقاء قد يكون جمع البرهان ونتنياهو، لكن هذا لا يمنع من احتمالية طرح ملف التطبيع على مائدة حوار النظام السوداني الجديد.
الطريق إلى استرضاء واشنطن يمر عبر تل أبيب، وهو المبدأ الميكافيللي الذي ينتهجه الكثير من القادة العرب بصرف النظر عن المرتكزات الوطنية والقومية العربية
وزيرة الخارجية السودانية نفسها وفي حوار سابق لها بشأن فرص وإمكانية إقامة بلادها علاقات مع “إسرائيل”، قالت: “الوقت غير مناسب للحديث عن التطبيع مع “إسرائيل”، لأن السودان ليس بحاجة إلى مشاكل جديدة”، بينما في حوار آخر مع هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، أشارت إلى أنه “ليس هناك شيء ثابت في السياسة، ولكن قد تتغير السياسة وقد يقيم السودان علاقات مع “إسرائيل”، لكن هذا الوقت ليس المناسب” مضيفة: “لن نتخذ قرار التطبيع مع “إسرائيل” قريبًا، آخذين بالاعتبار مشاعر الشعب السوداني ونظرته في حال حدث تواصل”.
وفي حوار أجرته معه وكالة “الأناضول” في 30 من سبتمبر 2019 نفى المتحدث باسم مجلس السيادة السوداني محمد الفكي، ما يتردد بشأن تطبيع السودان للعلاقات مع “إسرائيل”، ووقف دعم السودان للفلسطينيين، كشرط أمريكي لرفع اسم السودان من القائمة الأمريكية.
الفكي علق على تلك الأنباء بقوله “هذا الحديث سمعناه كثيرًا، لكن لم يطلبه منا أحد بصورة رسمية”، على حد تعبيره، وتابع: “السودان لديه التزام تجاه القضية الفلسطينية، وهو أمر معروف، ولا نفكر في هذه القضية بمعزل عن دول الإقليم في الجوار العربي، فهذه ليست قضية سياسية أو تجارية واقتصادية فقط، بل قضية تاريخية وأمنية وملفاتها مرتبطة مع بعضها البعض، لذلك الأصلح دائمًا أن ندخل إلى هذه القضية برؤية موحدة، لأننا نحتاج إلى ثقل الدول العربية تجاه هذه القضية”.
وبحسب بعض المصادر فإن الدافع الأبرز للبرهان من وراء الإقدام على هذه الخطوة التي ربما تثير الشارع ضده هو محاولة إنهاء العزلة الدولية المفروضة على بلاده، يقينًا منه أن الطريق إلى استرضاء واشنطن يمر عبر تل أبيب، وهو المبدأ الميكافيللي الذي ينتهجه الكثير من القادة العرب بصرف النظر عن المرتكزات الوطنية والقومية العربية.
يذكر أن السودان لا يقيم – حتى كتابة هذه السطور – أي شكل من أشكال العلاقات مع “إسرائيل”، وراج الحديث بشكل موسّع قبل عزل عمر البشير عن اقتراب إقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين، تزامنًا مع تلميحات من نتنياهو الذي أثار الجدل بتصريحات عن إمكانية التطبيع الجوي مع السودان قريبًا، غير أن الخارجية السودانية أكدت حينها أن موقف السودان تجاه “إسرائيل” ثابت ولن يتزحزح مهما حدث من تحولات.
حكم أبدي للعسكر
فريق آخر ذهب إلى أن خطوة البرهان تعكس نواياه الحقيقية بشأن مستقبل الحكم في السودان، الذي يبدو وفق هذا الفريق أنه سيكون حكرًا على العسكريين وحدهم، ضاربًا بالشعارات الوطنية والديمقراطية التي تم رفعها قبل ذلك بشأن مدنية الدولة وسلاسة تداول السلطة عرض الحائط.
حالة من الغضب تخيم على الشارع السوداني في أعقاب ما تم إعلانه بشأن لقاء البرهان – نتنياهو
أنصار هذا الفريق يلمحون إلى أن إذابة جليد العلاقات بين الخرطوم وتل أبيب إنما جاء بضغوط إماراتية سعودية تستهدف تعزيز التعاون مع الكيان المحتل في مقابل مزايا سياسية واقتصادية تحصل عليها البلاد بصفة عامة والبرهان بصفة خاصة، فربما يصبح الرجل الحليف الأقوى للأمريكان والإسرائيليين مستقبلًا، منافسًا في ذلك محمد حمدان دقلو “حميدتي” الطامع هو الآخر في كرسي الحكم عبر بوابة أبناء زايد وسلمان.
الناشط السوداني وائل نصر الدين، مدير المركز السوداني للدراسات الإستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية، علق على هذه الخطوة بأن البرهان يريد الكرسي، مضيفًا في تصريحات له على صفحته الشخصية على فيس بوك “الموضوع بالنسبة لي منتهي من أول يوم.. إنه انقلاب عسكري كامل الدسم”.
ويعتبر نصر الدين أن “البرهان الذي التقى برأس الصهاينة في أوغندا وسيلتقي بترامب لم يعد عسكريًا عاديًا، بل أصبح يملك التفويض الكامل لحكم السودان من الصهاينة والأمريكان”، متابعًا “الأزمات التي ترونها تواجه الحكومة المدنية (الفاشلة) لخنقها هي تمهيد للشعب ليتقبل الانقلاب العسكري القادم”.
وفي السياق ذاته دعا عدد من النشطاء السودانيين إلى إنشاء تنسيقية شبابية تضم جميع الشباب الرافضين للتطبيع مع “إسرائيل” وترفض صفقة القرن التي يعمل لأجلها “محور الشر الإماراتي السعودي المصري في الشرق الاوسط” على حد قولهم، مطالبين بالتصدي لمساعي تصفية القضية الفلسطينية سودانيًا مهما كانت الإغراءات.
حالة من الغضب تخيم على الشارع السوداني في أعقاب ما تم إعلانه بشأن لقاء البرهان – نتنياهو، وسط حالة من التخوف من تكرار السيناريو المصري، وانقلاب المجلس السيادي والعسكر في البلاد بصفة عامة على مكتسبات الثورة التي على رأسها إقامة حياة ديمقراطية مدنية.
ورغم أنه لم يصدر حتى كتابة هذه السطور أي ردة فعل من قوى الحرية والتغيير أو تجمع المهنيين السودانيين بصفتهما الركيزة الأبرز لثورة ديسمبر، فإن الأجواء تشير إلى أن الساعات القادمة ربما تشهد فعاليات ضاغطة على مغامرات البرهان، إذ إن السير في هذا الاتجاه سيعزز بلا شك مكانة الإسلاميين وأنصار نظام البشير شعبيًا، وهو الموقف الذي ستسعى القوى الثورية السودانية لتجنبه أيًا كان الثمن.