ظلال قاتمة ألقى بها انتشار فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي بصفة عامة والصيني على وجه الخصوص، حيث أجبرت مئات الشركات العالمية على وقف أنشطتها في المناطق التي ثبت احتضانها للفيروس، وعلى رأسها مدينة ووهان التي تضم 40 مليون شخص وتعرضت للعزل التام في محاولة لإبطاء تقدم الوباء الذي بات خطرًا يهدد الجميع.
موقع بلومبيرغ الأمريكي في تقرير له قال إن الانتشار السريع للفيروس تسبب في إحداث حالة من الشلل التام لمنظومة السفر والأعمال في الصين، لافتًا إلى أن مدينة ووهان – الذي تم عزلها – تعد مركزًا مهمًا بالنسبة للشركات العالمية، إذ تقع فيها نحو خمسمئة منشأة، وتحتل المركز 13 من بين نحو ألفي مدينة بالصين تضم مصانع ومرافق أخرى.
ونتيجة للمخاوف التي سيطرت على أجواء الاقتصاد العالمي، لجأت بعض الشركات إلى وقف نشاطها في الصين، على رأسها شركات صناعة السيارات ومنها الشركة الفرنسية لصناعة سيارات “بيجو” التي قالت في بيان لها في 25 من يناير الماضي، إنها ستجلي موظفيها الأجانب وعائلاتهم من منطقة ووهان، موضحة في بيان أن 38 شخصًا سيغادرون المدينة، بحسب الموقع الأمريكي.
المحلل الاقتصادي الأمريكي وليام غريتن – في تقريره الذي نشرته مجلة “ذا ويك” الأمريكية – أوضح أن التأثير التجاري لفيروس كورونا أصبح وخيمًا بشكل متزايد الأيام الأخيرة، حيث أوقفت الشركات الكبرى عملياتها التجارية في الصين، فيما توقع محللون أن تفشي المرض يمكن أن يمثل “حدث البجعة السوداء” وهو مصطلح يستخدم لوصف حدث غير متوقع له عواقب وخيمة وغير متوقعة على الاقتصاد العالمي، في ظل حالة القلق التي باتت تخيم على معظم الشركات في جميع أنحاء العالم.
لكن ربما يصح هنا التذكير بالقول السائر لأبي الطيب “مصائب قوم عند قوم فوائد”.. ففي الوقت الذي تغلق فيه العديد من الشركات العالمية لا سيما المتخصصة في صناعة السيارات مصانعها في الصين ربما ينعكس ذلك على ذات الصناعة في دول أخرى كالمغرب على سبيل المثال، الذي يتميز بمكانة مرموقة في خريطة صناعة السيارات في العالم.
من الطبيعي أن تبحث شركات صناعة السيارات التي أجبرت على غلق مصانعها في ووهان مؤقتًا عن بديل آخر لتعويض حجم النقص في معدلات الإنتاج، لا سيما إن علمنا أنه في تلك المدينة فقط تنتج شركات صناعة السيارات 1.6 مليون سيارة سنويًا بنسبة 6% من إجمالي الإنتاج الصيني من السيارات.
أحاديث عديدة تدور في الأوساط عن إمكانية استفادة صناعة السيارات في المغرب من وراء هذه الأزمة الوبائية التي تضرب الاقتصاد في مقتل، وهنا سؤال يفرض نفسه: هل يصبح المغرب البديل لتلك الشركات خاصة أنها تملك مصانع في العديد من المدن المغربية؟
على مدار السنوات الثمانية الأخيرة قفزت معدلات إنتاج السيارات في المغرب بنسب فاقت 800%
الأول إفريقيًا
خلال السنوات الأخيرة استطاع المغرب تصدر القائمة الإفريقية في معدلات إنتاج السيارات، حيث رفع حجم الإنتاج خلال العامين الماضيين إلى مستويات قياسية غير مسبوقة، وعلى مدار السنوات الثمانية الأخيرة قفزت معدلات الإنتاج بنسب فاقت 800%، إذ انتقل الإنتاج من 50 ألف سيارة سنة 2012 إلى قرابة 402 ألف سيارة 2018 بعد افتتاح مصنع رينو طنجة قبل سنوات من طرف المجموعة الصناعية الفرنسية.
ساهمت تلك المعدلات المرتفعة في الإنتاج في رفع حجم صادرات المغرب الخاصة بقطاع السيارات بنسبة 300% خلال الفترة نفسها، إذ استقر في حدود 70 مليار درهم (7.7 مليار دولار)، فيما يطمح مهنيو قطاع السيارات في المملكة إلى رفع صادراتهم إلى 100 مليار درهم (12.5 مليار دولار) سنة 2022، ثم 200 مليار درهم (25 مليار دولار) في 2025، ويراهنون على صادرات مصنع بوجو ستروين بالمنطقة الصناعية في القنيطرة لبلوغ هذا الهدف.
المغاربة يعولون على المصنع الجديد الذي دشنته مجموعة “بي إس إي بوجو- سيتروين” بالمنطقة الصناعية في القنيطرة مضاعفة معدل اندماج قطاع صناعة السيارات بالمغرب لينتقل من 40% إلى 80%، وخلق 4500 منصب شغل مباشر و20 ألف منصب شغل غير مباشر.
تمتلك بعض تلك الشركات العالمية مصانع عملاقة خاصة بها في المغرب، حيث تمتلك شركة رينو مصنعين في طنجة والدار البيضاء
يذكر أن المجموعة الفرنسية لصناعة السيارات خصصت استثمارات قدرت بـ6 مليارات درهم، يمكنها من تخصيص جزء من الإنتاج للتصدير، ذلك المتعلق بمكونات وأجزاء السيارات، وذلك بحجم مليار يورو سنويًا، إضافة إلى إحداث وحدة للبحث والتنمية تشغل 1500 مهندس وتقني عالي المستوى.
وبجانب ريادة صناعة السيارات إفريقيًا، تشير الإحصاءات إلى أن المغرب يعد خامس مصدر لتصدير السيارات إلى الاتحاد الأوروبي، وتبلغ حجم مبيعاته سنويًا قرابة 100 مليار درهم (11.1 مليار دولار) وهو الرقم المرجح للزيادة خلال السنوات القادمة بعد افتتاح عدد جديد من المصانع في بعض المناطق.
وتحتل صناعة السيارات صدارة الصادرات المغربية منذ 2014 وحتى اليوم، وقد مثلت بما نسبته 24,4% من مجموع تلك الصادرات سنة 2016 متقدمة على قطاعي الزراعة والفوسفات، الأمر الذي يجعلها واحدة من أبرز مرتكزات الاقتصاد الوطني المغربي خلال السنوات الأخيرة.
كورونا وإنعاش السوق المغربية
بعد وقف نشاطات كبريات شركات صناعة السيارات في العالم، العاملة في الصين، وفي مقدمتها جنرال موتورز وهوندا وبيجو ونيسان وستروين ورينو، بات المغرب الوجهة الأقرب لتلك الشركات لاستئناف نشاطها مرة أخرى، خاصة أن الكثير من تلك الشركات تقود صناعة السيارات في المملكة.
وتمتلك بعض تلك الشركات العالمية مصانع عملاقة خاصة بها في المغرب، حيث تمتلك شركة رينو مصنعين في طنجة والدار البيضاء، فيما تمتلك بيجو مصنعًا في مدينة القنيطرة بتكلفة استثمارية 550 مليون يورو، هذا بجانب احتضان المغرب لأكبر مصنع لإنتاج السيارات في إفريقيا بطاقة إنتاجية 100 ألف سيارة سنويًا.
يذكر أنه في يونيو 2019 افتتحت مجموعة “بي إس إيه – بيجو سيتروان” الفرنسية، مصنعًا جديدًا للسيارات في المغرب تقدر طاقته الإنتاجية بـ100 ألف سيارة، وتطمح المجموعة إلى مضاعفة حجم مبيعاتها في إفريقيا والشرق الأوسط بحلول 2021، مع توقعات بارتفاع معدلات الإنتاج مستقبلًا ليبلغ 200 ألف سيارة، وينتظر أن يشغل المصنع الذي استغرق تشييده أربع سنوات، نحو 2500 شخص في مرحلة أولى.
وقد أطلق المغرب إستراتيجية صناعية للفترة ما بين 2014 و2022 تراهن على صناعة السيارات والطيران، فيما تتوقع المملكة تحقيق المزيد من الريادة في صناعة السيارات على المستوى العالمي كما نجحت في ذلك إفريقيًا وفي منطقة الشرق الأوسط.
رقم صعب في القطاع
بات المغرب رقمًا صعبًا في صناعة السيارات، ليس في إفريقيا وحدها بل في العالم أجمع، وهو ما أكده رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني الذي لفت إلى أن بلاده تنتج سيارة كل دقيقة ونصف، مضيفًا في تصريحات أمام مجلس النواب (البرلمان)، في الـ30 من ديسمبر 2019 أن المملكة تصنع حاليًّا سيارة كهربائية قال إنها “مغربية مئة بالمئة”، وستخرج إلى الأسواق في وقت قريب.
وأشار العثماني إلى أن “قطاع صناعة السيارات من أهم أقطاب مخطط التسريع الصناعي”، مؤكدًا أنه مكن المغرب من التموقع كـ”قطب صناعي جهوي في مجال صناعة السيارات وأجزائها”، موضحًا أن بلاده أنتجت أكثر من 420 ألف سيارة في 2018، مقابل 376 ألف سيارة في 2017.
أما عن عوائد بيع السيارات المصنعة مغربيًا، أوضح أن صادرات قطاع صناعة السيارات ارتفعت بصورة كبيرة مقارنة بما كانت عليه في 2014، مبينًا أن هذا القطاع وفّر نحو 117 ألف وظيفة مباشرة إضافية ما بين عامي 2014 و2018، ومن المرجح أن يصل الرقم إلى 90 ألف فرصة عمل خلال 2020.
ربما يعود انتشار فيروس كورونا في الصين بالنفع على صناعة السيارات في المغرب رغم ما يحمله هذا الوباء من آثار كارثية على الاقتصاد العالمي
وفي دراسة جاءت تحت عنوان “صناعة السيارات بالمغرب: نحو مصادر جديدة للنمو” كشفت مديرية الدراسات والتوقعات المالية، التابعة لوزارة الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة، أنه من خلال المشاركة في تركيب البنيات التحتية التكنولوجية بالبلدان الإفريقية وإحداث شبكات البحث والابتكار، ستخلق المملكة فضاءات للتعاون وتبادل الخبرات مع هذه البلدان وستبلور ريادتها التكنولوجية في المنطقة لفائدة صناعة السيارات.
الدراسة أوضحت أن المملكة تتمتع بالفعل بمكانة عالية التقنية و”واعدة جدًا” على مستوى مدينة الدار البيضاء التي تحتل المرتبة الـ12 في العالم من حيث الاستثمار الأجنبي المباشر القوي الذي يجذبه قطاع صناعة السيارات، ما يجعلها على نفس مستوى مدينة برشلونة الإسبانية (منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية 2016).
وتتوقع أن تعمل المملكة على الاستفادة من منصاته المتاحة والمخصصة للابتكار والبحث والتطوير من أجل جذب شركات تصنيع المعدات الدولية الأخرى الأكثر تقدمًا من حيث الاستثمارات في البحث والتطوير، مثل فولكس فاغن وتويوتا وجنرال موتورز وفورد وديملر، التي تحتل المراتب الأولى ضمن أفضل 20 مستثمرًا بقطاع السيارات في مجال البحث والتطوير (الاتحاد الأوروبي 2018).
ودعت الدراسة في توصياتها إلى الاستفادة من الاستثمار في الإنتاج بالدول النامية، مسجلة أنه من شأن الاستثمارات الجديدة أن تدفع بصناعة السيارات الوطنية لخلق فرص جديدة وجلب تكنولوجيات حديثة وخبرة في قطاع السيارات، كما أوصت باغتنام الفرص الجديدة التي تلوح في الأفق، وذلك فيما يتعلق بالتغيرات على مستوى الطلب الخارجي.
وهكذا ربما يعود انتشار فيروس كورونا في الصين بالنفع على صناعة السيارات في المغرب رغم ما يحمله هذا الوباء من آثار كارثية على الاقتصاد العالمي واقتصاد الشرق الأوسط على وجه الخصوص، الذي يرتبط بشكل كبير بالمنتجات الصينية التي بلا شك تأثرت ولا تزال بتداعيات هذا الفيروس الذي أجبر الكثير من الشركات والمصانع على غلق فروعها هناك.