في 2014 حين ضربت روسيا ضربتها الكبرى بضم شبه جزيرة القرم عقب تدخلها العسكري شرقي أوكرانيا، تعرض الروس لعقوبات اقتصادية قاسية وباتت الدولة شبه معزولة ومنبوذة عالميًا، فيما تسابق زعماء الغرب لانتقاد الرئيس فلاديمير بوتين، معتقدين أن بتلك الضغوط ستغير موسكو سلوكها.
لكن مع مرور الوقت تغير الوضع تمامًا، وبدلًا من أن ترضخ روسيا للعقوبات الموقعة عليها تخطت هذا الحاجز بمراحل إلى آفاق أخرى أكثر اتساعًا شمالًا وجنوبًا، شرقا وغربًا، وبدلًا من أن ينكفئ الكرملين على الأوضاع الاقتصادية التي اهتزت جراء تلك العقوبات الدولية بدأ في تعزيز نفوذ روسيا الجيوسياسي حتى استطاع في وقت قصير استعادة أمجاد ما قبل العقود الثلاثة الأخيرة التالية لتفكك وانهيار الاتحاد السوفيتي.
وبعد 6 سنوات تقريبًا منذ الهجمة الغربية على روسيا باتت الأخيرة اليوم تنافس من أجل الحصول على نفوذ عالمي غير مسبوق، حيث تدخلت بشكل مباشر في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة لصالح دونالد ترامب وفق ما قالت الاستخبارات الأمريكية، فضلًا عما حققته من نجاحات على مستوى نفوذها في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وبعض دول أوروبا.
أما في الشرق الأوسط فكان الساحة الأبرز لاستعادة الروس مكانتهم، فبعد سنوات أربع من إطلاق موسكو لعمليتها العسكرية في سوريا دعما لنظام بشار الأسد، باتت اليوم تستحوذ على الدور القيادي الذي كانت تضطلع به واشنطن في المنطقة، ولم تقف عند هذا الحد، بل عززت من علاقتها بتركيا وباتت العلاقة بين بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان أكثر دفئًا.
الأمر ذاته مع القاهرة والرئيس عبد الفتاح السيسي، مرورًا بالسعودية وقطر والبحرين والإمارات وإيران، وصولًا إلى تعميق التفاهم مع الكيان المحتل، وتدشين علاقة قوية مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الذي التقاه بوتين أكثر من مرة، حيث تناقشا العديد من الملفات التي تعزز التعاون المشترك بين البلدين.
ورغم هذا النفوذ المتغلغل في معظم ملفات المنطقة إلا أن الحكومات العربية والشرق الأوسطية لا تجد غضاضة في ذلك، مقارنة مثلا بتحركات قوى أخرى مثل أمريكا وإيران وتركيا، مع العلم أن للأخيرة مصالح جيوسياسية في الشرق الأوسط على عكس موسكو، وهو ما يدفع للتساؤل حول هذا الموقف المستكين حيال المشروع الروسي.
الأرض مهيأة
تأتي التحركات الروسية في وقت تعاني فيه المنطقة العربية من أمراض متعددة، أنهكت الجسد الذي كان حتى وقت قريب متماسكا على أقل تقدير في مواجهة رياح التغيير، فبات بؤرة للفشل السياسي والاقتصادي والأمني، وحاضنة كبيرة للفساد على مستوى الأنظمة والشعوب.
وعادت الدول العربية برمتها إلى قبل نحو مائة عام تقريبًا، فريسة جاهزة وسهلة للعديد من القوى التي تتنافس علي ثرواتها، بينما هي لا تلمك من أمر نفسها إلا القليل، غير المؤهل لمواجهة تلك الحملات الاستعمارية التي تعددت ملامحها وشعاراتها فيما بقيت أهدافها واحدة.
وخلال السنوات الماضية برز على السطح حزمة من المشروعات الاستعمارية التوسعية، التي تستهدف تقويض المنطقة، وسلب مواردها، وإخضاع قرارها السياسي، فكان المشروع الأمريكي وأخر إسرائيلي وثالث إيراني ورابع أوروبي وهكذا، إلى أن جاء مؤخرًا مشروع جديد يحمل الهوية الروسية.
الرئيس الروسي استطاع أن يضع الأسس الكفيلة بتحقيق استقرار الإدارة، واستعادة قوة الدولة، والإنتقال من استراتيجية للدفاع إلى استراتيجية للهجوم
ورغم ما تموج به المنطقة من اضطرابات، تحت تأثير ضربات التدخل الأجنبي، ومظاهر فشل الدولة القومية، وصراعات القوى الشعبية الثورية ضد النظم التقليدية القائمة، وتوتر العلاقات بين معظم دول المنطقة، إلا أن أحدا لم يفكر في دراسة المشروع الروسي وأهدافه التوسعية في الشرق الأوسط، وكان ذلك مثار جدل لدى كثير من المفكرين والباحثين رغم ما يحمله هذا المخطط من خطورة لا تقل أبدًا عن نظيره من مشروعات القوى الأخرى.
المحلل المتخصص بالسياسات الخارجية والقريب من الكرملين، فيودور لوكيانوف، يرى أن الولايات المتحدة والقوى الأوروبية تنظر إلى الداخل أكثر مما كانت في السنوات الماضية، وتابع “الذي نراه الآن أن أعداء روسيا والذين حاولوا عزلها في حالة تخبط، وعلى العكس من ذلك، أبدت روسيا قدرا كبيرا من المرونة في مواجهة الضغوط الخارجية وحنكة في تعاملها مع الوضع في الشرق الأوسط”.
المشروع الروسي الجديد للشرق الاوسط
تشعر روسيا حيال المنطقة الممتدة من أفغانستان إلى الخليج ومنها إلى شرق البحر المتوسط بحنين لا ينقطع، فهي خاصرة الأرض الثرية بمواردها، وعلى شواطئها وأنهارها تعيش شعوب تركب بصماتها التاريخية على جسد الحضارات الإنسانية المتشعبة، فكانت قلب العالم النابض، من يسيطر عليه يحكم العالم.
غير أن الأزمات التي واجهتها الدولة الروسية عبر العقود الطويلة الماضية وانغماسها في غمار الحربين العالميتين الأولى والثانية وما تلاها من تطورات وصراعات، حالت من إشباع الروس لهذا الحنين المفقود، حتى تعرضت البلاد لزلزال انهيار الاتحاد السوفيتي، وسقوط الدولة ذات النفوذ الإمبراطوري الذي كان يمتد من الشرق الأقصى إلى شرق أوروبا، ثم يعبر المحيط ليطل من كوبا على الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة، ليدخل حلم التغول في منطقة الشرق الأوسط ثلاجة التجميد مؤقتًا.
ومن نافلة القول فإن الإدارة السياسية في موسكو بعد سقوط الإتحاد السوفييتي، بدأت تدرك حقائق العالم الجديد بعد نهاية الحرب الباردة، حيث شهدت العديد من التحولات السياسية السريعة، منها تخليها عن النظام الإشتراكي، واستقلالها عن النفوذ السوفيتي، ودخول بعضها في ترتيبات شراكة او تسهيلات دفاعية مع الولايات المتحدة وحلف الأطلنطي ( كازاخستان، قيرغستان، طاجيكستان، تركمانستان، واوزبكستان).
واليوم وبعد ما يزيد عن 3 عقود كاملة على انهيار الإمبراطورية السوفيتية، هاهي روسيا تجد نفسها في وضعية أفضل، استعادت معها جزءًا من بريقها المفقود، حيث نهضت من انكفاءتها وتجاوزت الكثير من العراقيل التي اعترضت مجراها حتى باتت مؤهلة لتحقيق حلم الأمس في تغلغل نفوذها في خاصرة العالم وقبلة قواه الاستعمارية.
وبعد نجاح موسكو في توفير سبل الأمان لجبهتها الدفاعية المكشوفة في الحزام المحيط به بضمها لشبه جزيرة القرم، بدأت في التحرك في العام التالي على التوالي منطقة الحنين التاريخي التي تشتاق إليها، متخلصة بذلك من عقدة أفغانستان، وكانت سوريا هي البوابة الأوسع لوضع الروس أقدامهم في الشرق الأوسط.
ومنذ هذه الوهلة فرضت روسيا نفسها كأحد اللاعبين الأبرز في الساحة الشرق أوسطية، بل في كثير من الملفات كانت اللاعب الأكثر حضورًا، صاحب التأثير القوي والأهداف المرجحة لكفة حلفاءها على حساب الحلفاء التقليديين المدعومين من الولايات المتحدة.
يعد مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية أحد أبرز المبادئ التي نجح بوتين في توظيفها بشكل دبلوماسي في مسار سياسة بلاده الخارجية
المصالح القومية.. المحرك الأبرز
الكاتب المصري إبراهيم نوار في مقال له تحت عنوان ” المشروع الروسي الجديد والحنين للشرق الأوسط” يعتبر أن بوتين هو مهندس السياسة الروسية ومرجعيتها الأخيرة منذ بداية القرن الواحد والعشرين، رغم صعوده وسط حالة من التفكك والاضطرابات الشديدة.
نوار أضاف أن الرئيس الروسي استطاع أن يضع الأسس الكفيلة بتحقيق استقرار الإدارة، واستعادة قوة الدولة، والإنتقال من استراتيجية للدفاع إلى استراتيجية للهجوم، ولم يعبأ كثيرا بردود الفعل الأوروبية والأمريكية ذات الطابع الإنتقامي، التي تضمنت عقوبات سياسية واقتصادية وعسكرية. وقد تصاعدت وتيرة هذه العقوبات وزادت حدتها بعد أن تدخلت روسيا مباشرة في الحرب الأوكرانية، وقررت ضم شبه جزيرة القرم، على الرغم من احتجاجات دول حلف الأطلنطي.
وألمح إلى استحداث موسكو العديد من الإستراتيجيات التي عزفت على وتر التأكيد على المصالح القومية والدفاع عنها بشراسة في أي مكان في العالم، مع استخدام كل مقومات القوة لتحقيق ذلك، من الحرب إلي دبلوماسية النفط والغاز والسلاح. وتعتبر منطقة الشرق الأوسط، أهم مناطق العالم التي مارست فيها روسيا سياستها الخارجية المستندة إلى قاعدة تغليب المصلحة القومية.
وعن استحسان النظم العربية في المنطقة لتوجهات بوتين الجديدة رغم ما تحمله من أطماع استعمارية وإن تغيرت شعاراتها، أشار الكاتب المصري أن بوتين نجح في تنحية المحرك الايديولوجي، وأصبح بإمكان موسكو أن تتعامل مع الرياض ومع دول الخليج وغيرها بدون تعقيدات، على أساس قاعدة المصالح والمنافع المتبادلة في سوقي النفط والسلاح.
وعليه وخلال سنوات الماضية نسجت روسيا شبكة علاقات قوية مع كافة الأطراف في المنطقة بصرف النظر عن العداوات او الخلافات بينها، كما هو الحال في علاقاتها مع مصر وتركيا وإيران من جانب، وقطر ودول الخليج من جانب آخر، وفوق هذا كله علاقتها القوية مع تل أبيب من جانب ثالث، منتهجة في ذلك المبدأ الميكافيللي في تحركاتها، فالمصالح هي قبلة التوجهات وترمومتر أي تحرك، بعيدًا عن الأيديولوجيات والقيم السياسية والحقوقية.
رغم حالة الإضطرابات التي تعاني منها المنطقة وسياسة التحزب التي أصابت خارطة المنطقة، إلا أن بوتين نجح حتى الأن في الحفاظ على شعرة معاوية بينه وبين معظم قيادات المنطقة
وعليه يعد مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية (المصالح فقط) أحد أبرز المبادئ التي نجح بوتين في توظيفها بشكل دبلوماسي في مسار سياسة بلاده الخارجية، لذا فإن حكومات دول المنطقة لا تشعر بالقلق من النفوذ الروسي المتنامي، هذا بجانب غض الطرف تمامًا عن معايير حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية، وهما العاملان الأبرز في توتير العلاقات بين الدول في الأونة الأخيرة،فنراه لا يبالي بجرائم ميليشيات الأسد في سوريا ولا الانتهاكات الحقوقية في مصر، ولا يتدخل في جرائم ولي العهد السعودي ولا حليفه محمد بن زايد.
ورغم حالة الإضطرابات التي تعاني منها المنطقة وسياسة التحزب التي أصابت خارطة المنطقة، إلا أن بوتين نجح حتى الآن في الحفاظ على شعرة معاوية بينه وبين معظم قيادات المنطقة، حتى تلك التي تحمل بداخلها عداوات كامنة، وهو ما جعله الحاضر على كافة موائد النقاش في مختلف الملفات الساخنة في المنطقة.
لكن يبقى السؤال حول مدى قدرة موسكو على الحفاظ على هذا الموقع الجديد على رأس سلسلة القيادة في الشرق الأوسط في ظل حالة الفوضى التي تحياها المنطقة والمستجدات اليومية التي تتطلب إعادة هيكلة بين الحين والآخر في مرتكزات السياسة الخارجية، وهو ما يمكن أن يكشف عنه النقاب خلال السنوات القادمة.