ترجمة وتحرير: نون بوست
حدود جديدة في توظيف الاغتيال
عندما تنخرط الدول القومية في دوامة القتل الدموية، تصبح الحدود التي يمكن أن تستهدفها هذه البلدان والتي لا تستطيع أن تستهدفها، سهلة الاختراق. في الثالث من كانون الثاني/ يناير، شنت الولايات المتحدة غارة جوية باستخدام طائرة دون طيار وقتلت اللواء قاسم سليماني، رئيس وحدة القوات الخاصة والاستخبارات الإيرانية، فيلق القدس. وكان سليماني يعدّ أحد أقوى قادة إيران، حيث كان يسيطر على العمليات شبه العسكرية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، بما في ذلك شن سلسلة من التفجيرات على جانب الطريق وغيرها من الهجمات التي شنتها قوات الوكلاء، والتي أودت بحياة ما لا يقل عن 600 أمريكي خلال حرب العراق.
منذ اتفاقية لاهاي لسنة 1907، حُظر بموجب قانون النزاعات المسلحة قتل مسؤول حكومي أجنبي خارج أوقات الحرب. لكن عندما أعلنت إدارة ترامب لأول مرة عن مقتل سليماني، صرّح المسؤولون بأنه كان يشكل تهديدًا “وشيكًا” للأمريكيين. وبعد حملة التشكيك والانتقاد التي طالتها، غيرت الإدارة بيانها مشيرة إلى دور سليماني في “سلسلة من الهجمات” المستمرة. وفي نهاية الأمر، تخلى الرئيس ترامب عن محاولات التبرير، وغرّد قائلًا إن عملية القتل “لا تهم حقًا” بسبب “ماضي سليماني الرهيب”.
من خلال رفضه لمسألة الشرعية، ضرب ترامب بعرض الحائط إحدى الحقائق المروّعة التي تتمثل في أن القرار الذي اتخذته الدولة بالقتل لا يتوقف على أمور قانونية محددّة بقدر ما يتوقف على مجموعة من الاعتبارات السياسية والأخلاقية والمعمّقة، التي تتسم بالكثير من المرونة. وفي حالة سليماني، كان أمر ترامب بالقتل تتويجا لمغامرة استراتيجية كبرى لتغيير الشرق الأوسط، وفتح جبهة جديدة قد تكون مروعة في استخدام الاغتيال.
في الحقيقة، بدأ التخطيط لاغتيال سليماني بالفعل بعملية مميتة أخرى، قبل أكثر من عقد من الزمان في ليلة شتاء في شباط/ فبراير سنة 2008، في منطقة سكنية راقية في دمشق، سوريا. آنذاك، كان عماد مغنية المستهدف، وهو مهندس لبناني مُلتح وبدين في منتصف الأربعينات من عمره، كان من الممكن أن يصبح أستاذا جامعيا. ويُذكر أن مغنية كان مهندس الإستراتيجيات العسكرية لـ”حزب الله”، القوة المسلحة التي تسيطر على لبنان وتدعمها إيران بالأسلحة والمال.
أُلقي اللوم على مغنية في بعض من أكثر الهجمات الإرهابية إثارة في ربع القرن الماضي، بما في ذلك التفجيرات التي أودت بحياة حوالي 250 أمريكي في بيروت سنة 1983، إلى جانب هجوم انتحاري في السفارة الإسرائيلية في الأرجنتين في سنة 1992، الذي راح ضحيته 29 شخصا. في هذا الصدد، قال روبرت باير، وهو مسؤول سابق بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، بشأن مغنية: “نحن نحمله مسؤولية إلحاق المزيد من الأضرار بوكالة المخابرات المركزية أكثر من أي شخص في أي وقت مضى”.
في سنة 1985، علِمت وكالة المخابرات المركزية أن مغنية كان متّجها نحو باريس، ولكن عندما تسلل فريق شبه عسكري فرنسي أسفل جدار فندقه واقتحم النافذة، لم يجدوا سوى عائلة إسبانية تستمتع بتناول وجبة خفيفة بعد الظهر. من جهته، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، إيهود أولمرت، مؤخرا في مكتبه في تل أبيب: “لقد كان فنانا فيما يتعلق بإبقاء نفسه تحت المراقبة”.
استأجرت وكالة المخابرات المركزية شقة مطلة على مكان اجتماع مغنية، حيث جهّزها النشطاء الإسرائيليون بكاميرات صغيرة يمكن التحكم فيها عن بُعد
في سنة 2006، وفي أعقاب حرب شرسة وجيزة مع حزب الله، أطلقت “إسرائيل” مهمة لتعقب مغنية قبل أن يتمكن من إعادة تجميع صفوفه للمزيد من القتال. حينها، كلّف أولمرت، رئيس الموساد، مئير داغان، بقيادة المهمة. في الحقيقة، يحتقر داغان، وهو أحد المحاربين القدامى البالغ من العمر 61 سنة، الذي كان جسده مغطّى بشظايا من الجروح القديمة، الرومانسية الفظة التي كانت تحوم حول مهنته. وفي هذا الإطار، صرّح داغان لأحد المراسلين قائلا: “لست سعيدا بقتل الأرواح، حيث أن أي شخص يستمتع بالقتل، يعتبر مختلا عقليا”.
في المقابل، كان لداغان مصلحة شخصية من عملية اغتيال مغنية. ففي سنة 1982، كان رئيس الموساد يعمل في جنوب لبنان عندما حوّل مهاجم انتحاري، زُعم أنه جُنّد من قبل مغنية، موقع المخابرات العسكرية الإسرائيلية إلى ركام. آنذاك، أراد داغان أن يقول: “في أحد الأيام، سأمسك مغنية، وعندما أفعل، إن شاء الله، سأقتله”. (الجدير بالذكر أن داغان توفي سنة 2016).
في الواقع، كان مكان تنفيذ عملية الاغتيال من بين أكثر الأسئلة حساسية. وعموما، يمكن أن يؤدي الاغتيال على الأراضي غير المختارة إلى رد فعل سياسي أو اندلاع حرب أخرى، كما من الممكن أن يُجبر أي هجوم داخل لبنان حزب الله على الانتقام. في سنة 2007، حالف الموساد الحظ، حيث تمكن عميل من الموساد مُندَس بين قادة حزب الله من الوصول إلى هاتف مغنية الخلوي، مما سمح للمنظمة بتتبع تحركاته. كنتيجة لذلك، علم الموساد أن مغنية كان يتنقّل بين شقتين بالقرب من دمشق، أحدهما تنتمي إلى عشيقته، فيما استخدم الأخرى، الموجودة في حي كفرسوسة الراقي، لعقد اجتماعات حساسة. في هذا الإطار، اعتقد الموساد أن شقة كفرسوسة ستكون موقعًا مناسبًا للاغتيال، أو كما يطلقون عليها اسم “العمليات السلبية”.
في الوقت الذي تسلل فيه عملاء إسرائيليون إلى دمشق للتحضير للمهمة، استجدى داغان المساعدة من وكالة المخابرات المركزية. وعلى عكس “إسرائيل”، كان للولايات المتحدة سفارة في دمشق، تضم ضباطا سريين. وبناء على طلب داغان، استأجرت وكالة المخابرات المركزية شقة مطلة على مكان اجتماع مغنية، حيث جهّزها النشطاء الإسرائيليون بكاميرات صغيرة يمكن التحكم فيها عن بُعد، بإمكانها بث فيديو مباشر إلى مقر الموساد في منطقة تل أبيب.
من جهة أخرى، خطط الموساد لتفخيخ سيارة متوقفة، حيث صمم الفنيون التابعون لها ما يسمى بالعبوات الناسفة الخارقة ذات التأثير المدمّر على شكل شظايا في “منطقة التنفيذ” التي تبلغ مساحتها خمسة أمتار. ووفقًا لمسؤول إسرائيلي سابق، هرّبت وكالة المخابرات المركزية المتفجرات بين الشحنات العادية المرسلة إلى السفارة. بعد ذلك، سلّمت وكالة المخابرات المركزية في دمشق المتفجرات للموساد، الذين ثبّتوها في غلاف الإطار الاحتياطي لسيارة مغنية من طراز ميتسوبيشي باجيرو.
في اللحظة الأخيرة، دعا الرئيس جورج بوش الإبن إلى وقف العملية، بسبب التحذيرات الصادرة عن ضباط وكالة المخابرات المركزية التي تفيد بأن الانفجار قد يُسفر عن مقتل مدنيين، خاصة طلاب مدرسة الفتيات القريبة. وفي سنة 198، أُلقي باللوم على وكالة المخابرات المركزية في أعقاب انفجار سيارة مفخخة في بيروت أسفرت عن مقتل أكثر من 80 شخصا وإصابة 200 آخرين معظمهم من المدنيين. وكان محمد حسين فضل الله هو المستهدف في الانفجار، وهو مرجع ديني شهير مقرّب من مغنية، نجا دون أن يصاب بأذى. في هذا الصدد، صرّح باير قائلا: “لقد فشلنا في تنفيذ 85 محاولة اغتيال تستهدف فضل الله، مما زاد في اهتزاز سمعتنا”.
مع ذلك، كان أولمرت عازما على المضي قدما، حيث اصطحبه الموساد إلى قاعدة نائية في الصحراء حيث أجرى عملية تفجير بيضاء في مكان مطابق تماما لمنطقة التنفيذ، وذلك باستخدام شخصيات من الورق المقوى لتمثيل مغنية وتلاميذ المدارس المارين.
زار أولمرت بوش في البيت الأبيض للمطالبة باستئناف العملية، إذ رفض أولمرت التصريح بما دار بينهما من نقاش، موضحًا أنه لم يكن مرتاحا للكشف عن التفاصيل حتى لمساعدي بوش في المكتب البيضاوي. وفي هذا الصدد، أوضح أولمرت قائلا: “لقد اعتدنا دائمًا على الخروج إلى حديقة الورود والهمس لبعضنا البعض. لذلك، لن يتم تسجيل الإجابة عن سؤالك”. وبحسب مسؤول إسرائيلي سابق مشارك في العملية، وافق بوش وأولمرت على أن “يكون مغنية الضحية”. وفي الوقت الذي أعطى فيه بوش الضوء الأخضر لاستئناف العملية، أرسلت وكالة المخابرات المركزية رئيس محطتها في “إسرائيل” إلى مقر الموساد لمراقبة عملية الاغتيال على عين المكان.
كأداة من أدوات إدارة الدولة، كان للاغتيال سمعة متقلبة. فعلى النقيض من عمليات الاغتيال السياسية الواضحة، من قيصر إلى لينكون إلى تروتسكي، يستند اغتيال شخص باسم الدفاع الوطني إلى قضية أخلاقية واستراتيجية، حيث تعدّ بالنسبة للمدافعين عنها وسيلة فتاكة لنزع فتيل نزاع أكبر.
في هذا الإطار، أكد توماس مور، وهو عالم دين في القرن السادس عشر، جعلته الكنيسة الكاثوليكية في سنة 1935 قديسا، أن قتل “أمير عدو” يستحق “مكافآت عظيمة” في حال ساهم قتله في إنقاذ أرواح الأبرياء. من ناحية أخرى، اعتقد الفيلسوف الهولندي، هوغو غروتيوس، الذي يعدّ من الأوائل الذين حدّدوا مفاهيم السلوك الشرعي في الحرب، أنه “يجوز قتل عدو في أي مكان على الإطلاق”. لكن مع مرور الوقت، رفض الزعماء السياسيون شرعية قتل بعضهم البعض على نحو غير مشروع. وفي سنة 1789، وصف توماس جفرسون، في رسالة إلى جيمس ماديسون، “الاغتيال والسم وشهادة الزور” على أنها انتهاكات غير حضارية، “انتشرت بصورة مرعبة في القرن الثامن عشر”.
في الواقع، تبنّت الدول القومية عمليات اغتيال فتاكة. فخلال الحرب العالمية الثانية، درب الجواسيس البريطانيون عملاء من تشيكوسلوفاكيا لقتل الجنرال النازي، راينهارد هيدريش، كما تآمرت العديد من الحكومات السوفياتية والبريطانية والأمريكية لقتل أدولف هتلر. من جهة أخرى، أقنعت الهولوكوست بعض قادة “إسرائيل” في المستقبل بأن ملاحقة الأفراد كانت تُعتبر أداة لا مفر منها للدفاع عن دولة صغيرة مهددة من قِبَل أشخاص رفضوا حقها في الوجود.
مؤخرا، صرّح توم سيغف، مؤلف كتاب “دولة بأي ثمن”، الذي يروي سيرة حياة دافيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لـ”إسرائيل” قائلا: “كان بن غوريون مناهضا لاستهداف الأشخاص، وضد اغتيال الألمان، واعتقد أنه كان من المفيد تجنيد النازيين السابقين في الموساد. ومن المرجّح أنه كان متعاطفًا مع من أرادوا الانتقام، حتى وإن اعتبر أن الانتقام ليس بالأمر المفيد”.
في العقود التي تلت ذلك، أدى الإرهاب إلى تقويض التمييز بين زمن الحرب وزمن السلم. فبعد أن قتلت مجموعة أيلول الأسود، الجناح العسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية، 11 شخصا من أعضاء الفريق الأولمبي الإسرائيلي سنة 1972 في ميونخ، وافقت رئيسة الوزراء غولدا مائير على مهمة لتعقّب القتلة. من جانبه، نوّه سيغف بأن ذلك “كان شيئًا بين العقاب والانتقام والردع”.
لكل لعبة قواعدها، فحتى في ذروة الحرب الباردة تجنّب الجواسيس قتل بعضهم البعض
في سنة 1954، أثناء مهمة إزاحة رئيس جواتيمالا، أعدّت وكالة المخابرات المركزية “دراسة عن الاغتيال”، تعدّ بمثابة دليل إرشادي مصنف حول ما سمي “تقديرا متطرفًا”، حيث تضمن جملة من النصائح المفصلة. وأشارت الدراسة إلى أن “طول الحبل أو السلك أو الحزام سيؤدي إلى تنفيذ المهمة إذا ما كان القاتل قويًا ومرنًا. كما أن الأشخاص الذين سرعان ما يتأثرون بالجانب الأخلاقي، فلا ينبغي أن يحاولوا القيام بذلك”. بين سنة 1960 و1965، حاولت وكالة المخابرات المركزية قتل فيدل كاسترو ما لا يقل عن ثماني مرات، حتى أنها وضعت له علبة من السيجار المسموم.
في كتابه “لعبة الأمم”، دفاع كلاسيكي عن سياسات القوة، عرض مايلز كوبلاند، وهو رئيس سابق لمحطة وكالة المخابرات المركزية في الشرق الأوسط، الاغتيال كأداة “غير أخلاقية” في “فن القيام بما يلزم”. وفي سنة 1962، صرّح زكريا محي الدين، رئيس المخابرات في عهد الرئيس المصري جمال عبد الناصر، بأن “الهدف المشترك للاعبين في لعبة الأمم يقوم على مجرد مواصلة اللعبة، حيث تعدّ الحرب بديلا للعبة”.
في المقابل، لكل لعبة قواعدها، فحتى في ذروة الحرب الباردة تجنّب الجواسيس قتل بعضهم البعض. في هذا الإطار، كتب فريدريك هيتز، المفتش العام السابق في وكالة الاستخبارات المركزية في وقت لاحق، “إذا استهدفت جهاز الأمن المعارض، فسيستهدفونك ردا على ذلك. لذلك، لن يولّد القتل سوى مزيدا من القتل”.
في سنة 1975، بدأت هيئة الكونغرس المعروفة باسم مجلس الكنيسة بالتحقيق في مزاعم سوء المعاملة من قبل وكالات الاستخبارات، حيث كُشفت في السنة التالية المخططات الفاشلة ضد كاسترو وأشخاص آخرين. في سياق متصل، أصدر الرئيس جيرالد فورد أمرًا تنفيذيًا أعلن فيه أنه لا يجوز لأي موظف حكومي أمريكي “الانخراط في الاغتيالات السياسية أو التآمر عليها”. وفي سنة 1981، وسّع رونالد ريغان الأمر، وأسقط كلمة “سياسي” من الأمر التنفيذي، غير أن الحظر لم يكن صارما قط.
بعد خمس سنوات، ردا على مقتل القوات الأمريكية في تفجير ملهى في برلين الغربية، قصفت إدارة ريغان الثكنات التابعة للزعيم الليبي معمر القذافي. في المقابل، تمكّن القذافي من الهرب، نظرا لأنه كان مطّلعا على الخطة. على الرغم من ذلك، لم يتغير الموقف الرسمي للولايات المتحدة بشأن الاغتيال. ففي تموز/ يوليو سنة 2001، أدانت الولايات المتحدة “إسرائيل” بسبب ما أسماه مارتن إنديك، السفير الأمريكي في إسرائيل، “بالاغتيالات المستهدفة” للفلسطينيين. وصرّح إنديك في ذلك الوقت أنها “عمليات قتل خارج نطاق القضاء، ونحن لا ندعم ذلك”.
بعد مرور شهرين، فتحت هجمات 11 أيلول/ سبتمبر الإرهابية مرحلة جديدة في علاقة الولايات المتحدة بالأعمال القاتلة، حيث سمح الرئيس بوش باستخدام طائرات دون طيار وتنظيم غارات من قبل قوات الكوماندوز وضربات الصواريخ الجوالة خارج مناطق الحرب المعترف بها. وكتب جون يو، وهو محامي سابق في إدارة بوش، في وقت لاحق أن أي مقاومة “لهجمات دقيقة ضد الأشخاص” أصبحت عتيقة في حقبة “الحرب غير المحددة ذات ساحة معركة غير محدودة”.
في سنة 2007، وافق أولمرت وبوش على توسيع نطاق التعاون بين وكالة المخابرات المركزية والموساد، على الرغم من التردد الذي انتاب جواسيس البلدين. في هذا الإطار، أفاد أولمرت قائلا: “توجه لي بوش بالحديث قائلا؛ أنت تعلم كيف هو الحال مع هؤلاء الرجال، إنهم لا يرغبون في مشاركة كل شيء، فهذه هي طبيعتهم”. في هذا الصدد، أجبت: “اسمع، هذه هي طبيعة رجالنا. سأعطي رجالي أمرًا بالانفتاح تمامًا، وستعطي رجالك أمرًا بالانفتاح كذلك”. نتيجة لذلك، وافق الاثنان على إجراء عمليات مشتركة ضد إيران، التي كانت تسعى لتطوير برنامج نووي.
سهّل ظهور الأسلحة الدقيقة وانتشار الهواتف المحمولة زيادة هائلة في مهمات القتل. ووفقًا لكتاب “انهض واقتل أولًا: التاريخ السري للاغتيالات الإسرائيلية”، للمؤلّف رونين بيرغمان، نفذت البلاد حوالي 500 عملية قتل بين سنة 1948 و2000، ثم تسارعت وتيرة القتل. وفي أيلول/سبتمبر سنة 2000، بعد أن شنت حماس حملة تفجيرات انتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين، شرعت الحكومة في عملية لتعقّب صانعي القنابل واللوجستيّين وقادة كبار مثل الشيخ أحمد ياسين، أحد مؤسسي حركة حماس.
في سنة 2004، قُتل ياسين على كرسيه المتحرك بعد استهدافه بصاروخ من مروحية عسكرية إسرائيلية. في حقبة سابقة، كانت غارات الكوماندوز تتطلب أسابيع من التخطيط، ولكن يمكن في الوقت الراهن توجيه ضربة بواسطة طائرة دون طيار في غضون ساعات. وخلال الفترة الممتدة بين سنة 2000 و2018، أجرت “إسرائيل” ما لا يقل عن 800 عملية من هذا القبيل، وذلك وفقا لإحصاء أجراه بيرغمان.
تصف الولايات المتحدة العمليات الفتاكة بأنها “قتل مستهدف”، وهو مصطلح ليس له تاريخ طويل في القانون الدولي
من جهة أخرى، زادت العمليات الأمريكية الفتاكة بشكل حاد منذ سنة 2001. فوفقًا لمؤسّسة نيو أمريكا، التي تتعقب ضربات الطائرات دون طيار وغيرها من الأعمال الأمريكية في باكستان واليمن والصومال، أطلقت إدارة بوش ما لا يقل عن 50 عملية مميتة في تلك البلدان. في المقابل، دفع باراك أوباما بالأمور إلى أبعد من ذلك. خلال ثماني سنوات، ترأس إدارته، التي أطلقت 572 غارة، حروب الظل على تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة والميليشيات التي لا تُحصى ولا تعدّ.
في عام 2011، أمر أوباما بشنّ غارة الكوماندوز التي قتلت أسامة بن لادن في مجمع سكني في باكستان. وفي كثير من الأحيان، تحدث أوباما عن الحاجة إلى “حرب عادلة”، مثل تلك التي تصورها الفلاسفة المسيحيون، حتى عندما تبنى قوة حرب الطائرات دون طيار. من جهته، أكد مايكل والزر، مؤلف كتاب “حروب عادلة وغير عادلة”، على تنامي الهجمات بواسطة الطائرات دون طيار كجزء من نوع جديد من الحرب، وهي حرب دون خطوط أمامية أو حدود رسمية.
في هذا الإطار، قال والزر: “يتمثل القتل المستهدف في الرّد على قوة مثل طالبان، التي تضرب وتختبئ أحيانًا في دولة مجاورة عبر الحدود. وإذا كان الهدف عسكريًا وشرعيًا، وإذا وقع توظيف جميع الأساليب الممكنة للتأكد من ضرب الهدف عوضا عن قتل أشخاص أبرياء، فأعتقد أن ذلك مقبول، على الرغم من أنني أكره الاعتراف بذلك. وعموما، لست متأكدًا من نجاح ذلك. وفي حال كانت الأدلة المتراكمة تشير إلى عدم نجاحه، فلا يمكن تبريره، نظرا لأن احتمال النجاح يعدّ أحد شروط العمل العسكري العادل”.
قيّم أوباما الإضافات المحتملة للأسماء على قوائم الأهداف التي يحتفظ بها البنتاغون ووكالة المخابرات المركزية. وفي هذا الصدد، قال جون برينان، مستشار أوباما لمكافحة الإرهاب ثم مديره التنفيذي، “ينبغي أن يكون هناك أساس قانوني”. واستند قرار إضافة شخص ما إلى إحدى القوائم إلى مجموعة من العوامل على غرار موثوقية المعلومات، ووجود هجوم وشيك، واحتمال أن يقع القبض على الهدف وهو على قيد الحياة. وفي الواقع، قال برينان: “في تجربتي، لم يقع النظر في استهداف مسؤول في دولة ذات سيادة لاغتياله، خلال إدارتيْ بوش أو أوباما”.
تصف الولايات المتحدة مثل هذه العمليات الفتاكة بأنها “قتل مستهدف”، وهو مصطلح ليس له تاريخ طويل في القانون الدولي ويختلف عن الاغتيالات التي يحظرها الأمر التنفيذي لريغان واتفاقية لاهاي. في الممارسة العملية، جعلت الحروب باستخدام الطائرات دون طيار المصطلحين مترادفين إلى حد كبير، من خلال إنشاء “مفهوم ضعيف للغاية من الهجوم الوشيك”، وذلك وفقا لكين روث، المدير التنفيذي لهيومن رايتس ووتش.
في الواقع، قال روث: “امتد مفهوم الهجوم الوشيك حتى أصبح بلا معنى. ومن المفترض أن يكون كالآتي: لدي سلاح موجّه نحو الرهينة، والطريقة الوحيدة التي يمكنك بها إنقاذ الرهينة تكمن في إطلاق النار علي. في المقابل، حولت الولايات المتحدة ذلك إلى: يعدّ هذا الشخص إرهابيا، وربما يكون لديه، في مرحلة ما، خطة لتنفيذ هجوم إرهابي. لن نكون قادرين على إيقافه، لذلك دعونا نقتله. كنتيجة لذلك، اعتاد الناس على القتل. وبصراحة، يعدّ هذا الأمر استثنائيا للغاية، ويجب ألا يحدث إلا في أقصى الظروف. لقد أصبح القتل استجابة أمريكية عادية تقريبًا”.
بحلول نهاية فترة ولاية أوباما الثانية، أي بعد خمسة عشر سنة من هجمات الطائرات دون طيار، لم يعد الأمريكيون يهتمون بها كثيرًا. وفي استطلاعات الرأي، يقول أغلب الأمريكيين إنهم يدعمون عمليات القتل المستهدفة. في المقابل، ترفض الأغلبية في معظم البلدان الأخرى، هذا الأمر بشدة. ووفقًا لمؤسّسة نيو أمريكا، أي في السنوات الثلاثة الماضية، شن ترامب ما لا يقل عن 260 هجومًا، محققا زيادة بنسبة 20 بالمئة على أساس سنوي.
في مركز العمليات في مقر الموساد، كان لكل ضابط دور محدد في مهمة قتل عماد مغنية. في الواقع، تتبع أحدهم تحركات مغنية، بينما راقب شخص آخر شريط الفيديو من أجل تأكيد في أقل جزء من الثانية أن الرجل الموجود في منطقة القتل كان مغنية. في هذا الإطار، زار أولمرت مركز العمليات لتذكيرهم بأن العلاقة مع الولايات المتحدة، حليف “إسرائيل” الأكثر قيمة، كانت على المحك. وكان عليهم أن يتبعوا الاتفاق، أي قتل مغنية ولا أحد غيره.
توحّد الزعماء الثلاثة، من لبنان وسوريا وإيران، في نزاع مشترك مع “إسرائيل” والولايات المتحدة. وكان لكل منهم مجال خبرة مختلف
في مساء يوم 12 شباط/فبراير سنة 2008، بينما كان ضباط الموساد يتجسسون على هاتف مغنية، علموا أنه يتجه نحو الشقة في كفر سوسة. عندها، أرسلوا الأخبار إلى دمشق، حيث قام العملاء بركن سيارة رياضية متعددة الأغراض في المكان الذي سيمر منه مغنية للوصول إلى باب منزله الأمامي. وظهرت صور الشارع على شاشة تلفزيون كبيرة في مركز العمليات، حيث راقب الضباط سيارة مغنية وهي تقف في مكانها المعتاد. ودعت الخطة إلى تفجير القنبلة فور دخوله إلى منطقة القتل. لكن مغنية لم يكن وحيدا، بل كان برفقته رجلان آخران تعرّف عليهما الجواسيس، وهما العميد محمد سليمان، القائد العسكري السوري الذي قاد البلاد لبناء مفاعل نووي، وقاسم سليماني.
كان تجمعا هائلا بشكل غير عادي، إذ توحّد الزعماء الثلاثة، من لبنان وسوريا وإيران، في نزاع مشترك مع “إسرائيل” والولايات المتحدة. وكان لكل منهم مجال خبرة مختلف، فمغنية كان مختصا تقنيًا طور استخدام القنابل المتزامنة لتعظيم الخسائر، بينما قام سليمان، المستشار النووي، ببناء ترسانة سوريا من الأسلحة الكيميائية، بما في ذلك غاز السارين. أما سليماني، فكان رجل دولة طموح ومحاربًا، مرتاحًا بين السياسيين ويعمل على تحويل قوة القدس إلى فيلق أجنبي إيراني.
أفاد المسؤول الإسرائيلي السابق قائلا: “كان ينبغي علينا الضغط على زر وسوف يختفي ثلاثتهم. كانت تلك فرصة مُنحت لنا على طبق فضي”. كان أولمرت في رحلة جوية عائدا من زيارة من برلين. وعلى الرغم من أنه كان بإمكان عملاء الموساد الاتصال به عبر هاتف يعمل بالاقمار الصناعية للحصول على إذن بقتل الرجلين الآخرين، لم يكن لديهم الكثير من الوقت. فضلا عن ذلك، كانوا يعلمون أن وكالة المخابرات المركزية، الذي كان رئيسها في مركز العمليات، مكلّفا بالمساعدة في قتل مغنية. وفي لحظة، دخل الرجال الثلاثة إلى المبنى، وتموضع العملاء في انتظار أن يعود ثلاثتهم إلى الظهور. وقال المسؤول السابق: “لقد صلّوا لكي يعودوا بشكل منفصل”.
بعد حوالي ساعة، شاهد ضباط الموساد الذين يراقبون لقطات الفيديو سليماني وسليمان يغادران المبنى السكني ويقودان السيارة. بعد عشر دقائق، ظهر مغنية وحيدا، عندها فجر قائد العملية المتفجرات. على الشاشة، انفجر جسد مغنية في منتصف الطريق و”قُطّع إلى أشلاء”، وذلك وفقا لما قاله المسؤول الذي شاهد الفيديو. لقد أُلقيت جثته في الهواء، وقُتل على الفور. ولم يصب أي شخص آخر بأذى.
في الأثناء، وصلت الأخبار إلى طائرة رئيس الوزراء الإسرائيلي في منتصف الليل. وكانت المقصورة مكتظة بالصحفيين. لذلك، ربّت مساعد أولمرت العسكري، الجنرال مئير كليفي أمير، بهدوء على مقعد أولمرت وانحنى ثم همس قائلا: “فقد العالم في الوقت الراهن”. من جانبه، أجاب أولمرت: “بارك الله فيكم”. وعندما حطّت الطائرة، أخذ أولمرت ميكروفون الطائرة، وقال بطريقة مشفرة: “أريد أن أتمنى لكم جميعًا يومًا عظيمًا. إنه ليوم عظيم”.
عماد مغنية القيادة في تنظيم “حزب الله” اللبناني
بحلول صباح اليوم التالي، كانت وفاة مغنية تتصدر عناوين الصحف في الشرق الأوسط. في الساعة الثامنة، دخل داغان، رئيس الموساد، مكتب رئيس الوزراء مع قائد العملية، حاملاً قرصًا فيه تسجيل فيديو لعملية الاغتيال. وبعد مشاهدته، شغّل داغان أيضًا مقطعًا لسليماني وسليمان وهما يمشيان بعيدا. وشعر أولمرت بالحسرة وقال لداغان: “لو اتصلتم بي، لأمرتكم بقتلهم جميعًا”.
خلال الأيام التي تلت اغتيال مغنية، اتفقت الولايات المتحدة و”إسرائيل” على تجنب أي إعلان بالمسؤولية. وقال المسؤول الإسرائيلي السابق إن الصمت بعد القتل يمنع وقوع “المضاعفات غير الضرورية. ويمكنك دائمًا إرسال طائرة وقصف المكان. أنت تريد أن تفعل ذلك بطريقة تقلل من خيار الانتقام، أو اندلاع أعمال القتل على نطاق واسع”. بعد أيام قليلة من القصف، ظهر مايكل ماكونيل، مدير الاستخبارات الوطنية، على قناة فوكس نيوز. وعندما سأله المضيف، كريس والاس، عما إذا كانت الولايات المتحدة متورطة في مقتل مغنية، قال ماكونيل “لا. ربما كانت سوريا متورطة في ذلك. نحن لا نعلم شيئا حتى الآن، ونحاول تسوية الأمر”.
في مجال الاستخبارات، يمكن أن تقدم الجنازات معلومات وفيرة عن السياسة الداخلية للعدو. وعموما، يتتبّع المحللون الطرف الذي يرسل ترتيبات الزهور الأكثر إسرافًا، فضلا عن الشخصيات الصاعدة التي حظيت بالمقاعد الأمامية، وما يقوله كبار القادة عن الحاجة إلى التصعيد. في جنازة مغنية، في ضواحي بيروت، ألقى حسن نصر الله، قائد حزب الله، خطاب تأبين عبر الفيديو، مليء بالتهديدات المعتادة: ” إذا كنتم تريدون أيها الصهاينة هذا النوع من الحرب المفتوحة، فليستمع العالم بأسره: دع هذه الحرب تكون مفتوحة”. في المقابل، كانت تفاصيل الحدث مطمئنة.
من جهة أخرى، خرج الآلاف من المواطنين إلى الشوارع. في المقابل، توارى المسؤولون السوريون عن الأنظار. لقد اشتبهوا في أن “إسرائيل” كانت وراء عملية القتل، غير أن الرئيس بشار الأسد لم يكن يريد أن يواجه ضغوطًا سياسية للانتقام. في الاتصالات التي وقع التجسس عليها، كُشف أن القادة السوريون كانوا يغذّون الشائعات التي تقول إن مغنية توفي في نزاع داخلي.
في هذا السياق، قال المسؤول الإسرائيلي السابق: “عرف الأسد بالضبط من فعل ذلك، وبما أنه لا يريد التورط في أي مواجهة كبيرة، فإنه يتعين عليه أن يقدم عذرًا”. في المقابل، هُرّب العميل الذي منح الموساد الولوج إلى هاتف مغنية من لبنان وأُعيد توطينه في بلد آخر. من جهته، أخبر أولمرت ضباط الموساد أنه في محادثة متابعة مع بوش، تحسّر الرجلان حول الفرصة الضائعة. وقال بوش: “يا للأسف، أنا حزين للغاية نظرا لأنه لم يقع تصفيتهم في الوقت نفسه”.
في القصر الرئاسي في دمشق، كان لمحمد سليمان مكتب في الطابق نفسه الذي يوجد به الرئيس الأسد. وبعد أسابيع على وفاة مغنية، كانت عملية اغتيال سليمان جاهزة. في هذه الحالة، سينفذ القتلة الإسرائيليون العملية بمُفردهم. وتجدر الإشارة إلى أنه وقع تعيين المهمة إلى شايطيت 13، وهي وحدة القوات الخاصة التابعة للبحرية الإسرائيلية.
العميد محمد سليمان كان على عاتقه مهمة تأسيس المفاعل النووي السوري المزعوم
تمثلت الخطة في قتل سليمان أثناء تواجده منتجع العطلة الخاص به الذي يطل على شواطئ طرطوس على ساحل البحر المتوسط السوري. وخلال فصل الصيف، ركّز عملاء إسرائيليون كاميرات فيديو خفية التي بثت لقطات حية للمنزل إلى مركز قيادة في تل أبيب. وكان سليمان يحب قضاء أمسيات الصيف متمتعا على شرفة كبيرة مطلة على البحر.
في مساء الأول من آب/ أغسطس سنة 2008، علمت المخابرات الإسرائيلية أن سليمان كان متّجها نحو طرطوس. وفي تل أبيب، وضع القادة خطة الاغتيال حيّز التنفيذ. في الظلام الدامس، وعلى بعد عدة كيلومترات من الساحل، ظهرت غواصة إسرائيلية على سطح الماء ونزل ستة قناصة وقائد واستقلوا قاربًا على شكل نصف غواصة. عندما وصلوا إلى الشاطئ، انتشروا في المواقع المخططة لها مسبقًا، مختبئين على جانبي الشرفة.
كان سليمان، الذي يتميز بجبهة عريضة وشارب رمادي كثيف، جالسًا بجوار زوجته وسط مجموعة كبيرة من الضيوف. شاهد القادة في تل أبيب المشهد على شاشات التلفزيون، وأطلق القناصة النار باستعمال بنادق صامتة. في هذا الصدد، قال المسؤول الإسرائيلي السابق: “اخترقت ست رصاصات قلبه ورأسه، ثلاث من كل جانب. اندفع رأسه للأمام، إلى جانب واحد، ثم إلى الجانب الآخر. فجأة، كان هناك دم يتدفق من رأسه، من كلا الجانبين، على الطاولة وعلى الأرض”. ولم تتضرر زوجته، لكن الضيوف انتفضوا وصرخوا في رعب.
للسمعة السيئة تأثير ذو حدين، حيث لا توجد فائدة تذكر لاستهداف مسلحين لهم سلطة محدودة، لكن لمقتل معارضين بارزين تداعيات عميقة
تراجع القناصة والقائد إلى القارب، وعادوا إلى الغواصة ثم الى الميناء الإسرائيلي. في وقت لاحق من ذلك المساء، تنصتت المخابرات الإسرائيلية على محادثة جمعت بين مساعدي محمد سليمان الغاضبين والرئيس الأسد حول عملية القتل. في تعليقه عن تلك المحادثة، قال المسؤول الأمريكي الإسرائيلي السابق “كان رد فعل الأسد مثيرًا للاهتمام”. وأضاف: “أنت تتحدث عن أقرب شخص إليه في أكثر الأمور حساسية في البلاد. ويتلقى مكالمة هاتفية في منتصف الليل تخبره أنه قد اغتيل… وكان رد الأسد الفوري هو الآتي: “لا داعي للذعر”. ضعه في كيس بلاستيكي. اخرج من طرطوس وادفنه في قبر دون أن تترك أي علامات”. وتابع قائلاً:” لقد أعجبت ببرودة أعصابه. لم يكن هناك جنازة، ولا مراسم تشييع. لا شيء. ولم يعلنوا قط أنه قُتل. لقد اختفى فحسب”.
في كثير من المناسبات، لم تتوان “إسرائيل” عن تذكير الأسد بأنه ليس بعيد المنال. فقد حلقت طائرة من طراز أف-16 فوق قصره الصيفي في اللاذقية، وسلمت المخابرات الإسرائيلية رسائل إلكترونية مباشرة إليه، حسب ماورد على لسان المسؤول الإسرائيلي السابق. في الأيام التي أعقبت وفاة سليمان، لم تصرّح “إسرائيل” بشيئ، حيث أن الاغتيالات ولدت شعورًا بالعجز بين أولئك الذين قد تشملهم القائمة التالية. اختار مستشارو الأسد الأمنيون ملجئًا سريًا له، لكن في الاتصالات التي جرى التنصت عليها، سمع صوته وهو يستهين بالخطة بإذعان: “إذا أراد الإسرائيليون، فسوف يأتون إلى هذا المكان. لماذا نضيع المال، ولماذا نبذل الجهد؟”.
بشار الأسد تعامل ببرود مع مقتل العميد محمد سليمان وأمر بحمل جثته في كيسه ودفنه بعيدًا بدون ضوضاء
حيال قرار القتل، يمكن أن يكون للسمعة السيئة تأثير ذو حدين، حيث لا توجد فائدة تذكر لاستهداف مسلحين لهم سلطة محدودة، لكن من المحتمل أن يكون لمقتل معارضين بارزين تداعيات عميقة. ولد قاسم سليماني في سنة 1957 في مقاطعة كرمان، في جنوب شرق إيران، وكان نجل مزارع أمضى معظم وقته في قاعة الألعاب الرياضية وفي المسجد. كان يعمل في قسم المياه المحلي.
في فترة تسعينيات القرن الماضي، خلال الحرب بين إيران والعراق، كُلف بتوصيل المياه إلى الخطوط الأمامية. وقد أنجز واجباته بشجاعة ووقع ترقيته إلى مراتب عالية. ولكن بالنسبة للمحللين في وكالة المخابرات المركزية، الذين تابعوا كبار الضباط في فيلق الحرس الثوري، لم يكن سليماني من الأسماء البارزة. في سنة 1998 تقريبًا، أصبح رئيسًا للوحدة الاستطلاعية، فيلق القدس. في هذا الصدد، أفاد الرئيس السابق للموساد، داين ياتوم قائلا: “حينها بدأنا في جمع معلومات عنه”.
في إسرائيل، يقع تجميع قائمة أهداف الاغتيالات المحتملة من مصادر متعددة. قال المسؤول الإسرائيلي السابق إنه في بعض الأحيان يأخذ رئيس الوزراء في الاعتبار التغطية الإعلامية بشأن هدف معين ويسأل الموساد، “ماذا عنه؟ هل نحن قادرون على فعل شيء له؟
في كثير من الأحيان، يقترح رؤساء أجهزة الأمن في البلاد أسماءً، يجب أن يوافق عليها رئيس الوزراء. وتجدر الإشارة إلى أنه يقع تصنيف الأهداف حسب الأهمية، استنادًا إلى مدى إلحاح التهديد وصعوبة قتله والتكاليف والفوائد المحتملة. على الرغم من أن المخابرات الإسرائيلية تتمتع بسمعة هائلة، إلا أن مواردها محدودة ومرتبطة بالمعايير الأمريكية، ولا يمكنها “التجسس على كامل العالم” على حد تعبير أحد الموظفين السابقين في وكالة المركزية الذي أوضح: “إنهم يكونون على علم بالقرش الأقرب إلى القارب”.
في السنوات التي تلت مقتل مغنية، كان الموساد قلقًا بشأن البرنامج النووي الإيراني أكثر من اهتمامه بأنشطة سليماني شبه العسكرية. كان سليماني يمثل مصدر قلق للقوات الأمريكية بشكل خاص. كانت ميليشياته معروفة باستخدام المتفجرات المدمرة أساسا، المصممة لاختراق الجزء الخارجي من العربات المدرعة. خلال أشد فترة قتال في حرب العراق، التي بدأت سنة 2007، تجنب سليماني دخول العراق، يبدو أنه كان يعتقد أن الأمريكيين قد يستهدفونه.
في هذا السياق، قال ستيفن هادلي، مستشار بوش للأمن القومي، “لست على علم بأي نوايا للنيل من سليماني”. في بعض الأحيان، قام ضباط الموساد بتشبيه سليماني بنظرائه الأمريكيين، وفقًا لستيفن سليك، رئيس محطة المخابرات المركزية في تل أبيب: “إنهم كانوا قادرين على القيادة إلى هناك ومعرفة ما إذا كان سيعترضهم أحد”.
في سنة 2011، نظرت إدارة أوباما في إمكانية عقد اجتماع مع سليماني لتوجيه تحذير واضح له. وكان المبعوث نائب الأميرال روبرت هاروارد من عناصر إحدى القوات الخاصة الذي نشأ في طهران ويتحدث اللغة الفرنسية. من الناحية النظرية، ستكون مهمته “إقناع سليماني بالعواقب المنجرة عن سلوكياته إذا واصل التعرض لقواتنا” في العراق، حسب ضابط سابق بالجيش الأمريكي.
في هذا السياق، أشار الضابط إلى أنه في أحد اجتماعات البيت الأبيض، قال الجنرال جيمس ماتيس، رئيس القيادة المركزية، “إذا لم يعجب هاروارد ذلك، فسوف يكون لدينا مسدس في المرحاض” في إشارة إلى فيلم “العراب”. لم يكن واضحًا ما إذا كان الجميع في الغرفة قد تفطنوا إلى أنه يمزح، حيث رفض ماتيس التعليق. أما في البنتاغون، فأصبح الخيار يعرف باسم “رجلان يدخلان، ورجل واحد يغادر”.
حتى سنة 2013، ظل سليماني غير معروف نسبيا لعامة الناس. أخبرني مسؤول أمني إسرائيلي سابق أنه: “ّإذا كانت “إسرائيل” تريد قتله، فقد كان ذلك الوقت هو المناسب”. كان سليماني يحاول دعم الأسد في سوريا، وكانت الحرب الأهلية، التي بدأت سنة 2011، ستزود الموساد بمعلومات كافية، مع العلم أنه قُتل ما لا يقل عن عشرين من زملائه في الحرس الثوري في القتال هناك.
لكن بحلول سنة 2014، أصبح سليماني معروفًا على الصعيد الدولي، حيث كان يقود مقاتلين شيعة في الحرب ضد تنظيم الدولة في العراق. نتيجة لذلك، تحدثت عنه وسائل الإعلام الإخبارية بشكل متكرر، ناهيك عن مواقع التواصل الاجتماعي في المنطقة. في ساحة المعركة، كان عناصر الميليشيات الشيعية تطلب التقاط صور شخصية معه. تعليقا على ذلك، قال برينان إن “المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي “كان يعتبره مثل ابنه”. خلُص المسؤولون الإسرائيليون إلى أن سليماني أصبح مشهورًا جدًا دون أن يخاطر بخوض حرب إلى جانب إيران. وقال المسؤول الأمني الإسرائيلي السابق: “في اللحظة التي أصبح فيها من المشاهير، أضحى الأمر مختلفا تماما”.
رغم كل أشكال التعاون بين المخابرات الإسرائيلية والأمريكية، إلا أنه كان هناك بعض الخلافات حول الاغتيالات. عندما شرعت “إسرائيل” في قتل مرتكبي مذبحة ميونيخ سنة 1972، تضمنت قائمة الأهداف رئيس عمليات أيلول الأسود، علي حسن سلامة. لكن سلامة كان مخبرا في وكالة المخابرات المركزية، التي كانت تعتبره مثل “درة التاج” في شبكتها خلال الحرب في لبنان، وفقًا لما ذكره ضابط سابق في وكالة المخابرات الأمريكية في بيروت.
كانت الولايات المتحدة و”إسرائيل” تخفيان المعلومات الاستخباراتية عن بعضهما البعض، وفي الثمانينيات، لم تقدم “إسرائيل” سوى القليل مما عرفته عن مغنية
الجدير بالذكر أن الموساد ضغط على وكالة المخابرات المركزية للحصول على معلومات حول سلامة. في هذا الصدد، قال الضابط السابق في وكالة المخابرات المركزية: “لم نرغب في حرق المصدر، “أتذكر أني أخبرت المقر العام بأنه حسب رأيي، لا تفعلوا ذلك”. وكان الضابط يلتقي سلامة بانتظام وأتذكر أني أخبرته، “أنت تعلم أن الإسرائيليين يتعقبونك”. كان مثل شعلة ملتهبة. كان لديه الحرف الأكثر سوءا في العالم. وليس لديه مشكلة في التجول في المدينة في عربة تشيفي الخاصة به. حيال هذا الشأن قلت له:” أنت مجنون، الناس يعرفون أين تذهب”. قال: “لا، لن يتمكنوا مني”. فقلت: “حسنًا، أنت بالتأكيد تدعوهم إلى ذلك. لذلك هل تسدي لي معروفًا، عندما تأتي لرؤيتي، هل يمكنك إيقاف السيارة بعيدة بأربع أو خمس مبانٍ؟””. في سنة 1979، قتل الموساد سلامة بسيارة مفخخة، وهو ما أثار غضب ضباط وكالة المخابرات المركزية.
في الواقع، كانت الولايات المتحدة و”إسرائيل” تخفيان المعلومات الاستخباراتية عن بعضهما البعض. في الثمانينيات، لم تقدم “إسرائيل” سوى القليل مما عرفته عن مغنية. في هذا الإطار، قال باير “ربما لأنهم أرادوا قتله بأنفسهم”. وأضاف المصدر ذاته” آخر ما كانوا يحتاجونه هو تسريب بعض المعلومات إلى صحيفة واشنطن بوست”.
في حالات أخرى، حجب مسؤولون أمريكيون المعلومات لأنهم يختلفون مع اختيار “إسرائيل” للأهداف. خلال حرب 2006 في لبنان، اعتبرت الولايات المتحدة نصر الله، رئيس حزب الله، قائدا سياسيا، وبالتالي يُمنع الاقتراب منه، بيد أن “إسرائيل” كانت تُصنفه قائدا عسكريا. في شأن ذي صلة، أوضح جون نيغروبونتي، مدير الاستخبارات الوطنية في ذلك الوقت قائلا: “لقد كنا قلقين إزاء إمكانية استهداف “إسرائيل” لنصر الله”. أمر نيغروبونتي الوكالات الأمريكية بالاحتفاظ بتفاصيل محددة عن مكان نصر الله، والتي يمكن أن تستخدمها “إسرائيل” للعثور عليه وقتله، حيث قال: “كانت تلك الأوامر المفروضة”.
خلال السنة التالية، تحسنت العلاقة بين المخابرات الأمريكية والإسرائيلية. عندما اكتشف الموساد أن كوريا الشمالية كانت تساعد في بناء مفاعل نووي في سوريا، رفضت إدارة بوش، التي كانت بالفعل في حالة حرب في العراق وأفغانستان، طلب “إسرائيل” بتدمير المفاعل. في مكالمة هاتفية، أخبر أولمرت بوش بأن “إسرائيل” ستفعل ذلك بمفردها، حيث قال له “أنت لا تريد أن تعرف متى ولا تريد أن تعرف كيف”.
لمدة ثلاثة أشهر، دُربت الطائرات المقاتلة الإسرائيلية على المهمة باستخدام هدف مزيف في وسط البحر الأبيض المتوسط. في الواقع، كان ثلاثة فقط من أفراد الطاقم الستة عشر على علم بالهدف الحقيقي؛ بينما وقع إبلاغ البقية قبل ساعات من الهجوم. في الخامس من شهر أيلول/سبتمبر 2007، دمرت “إسرائيل” المفاعل، لكنها لم تعلن مسؤوليتها عن ذلك. وقد كانت أجهزة المخابرات التابعة لها متأكدة من أن الأسد سيُفضل التظاهر وكأن شيئًا لم يحدث بدلاً من المخاطرة بمواجهة سيكون ثمنها باهظا. وكما كان متوقعا، لم يبد أي ردة فعل.
في أواخر سنوات الألفين، قررت الموساد شن حملة اغتيال دون مساعدة شركائها الأمريكيين. وتمثلت الأهداف عددًا من العلماء النوويين الإيرانيين. بموجب القانون، كان على وكالات التجسس الأمريكية حجب المعلومات التي قد تساعد الموساد على قتل أي شخص لم يكن من المسموح للولايات المتحدة بقتله. علاوة على ذلك، كان الرئيس أوباما يتبع استراتيجية مختلفة للغاية.
خلال شهر يوليو/ تموز 2012، فتحت إدارته مفاوضات سرية مع الإيرانيين حول برنامجهم النووي. عندما علم الموساد بالمحادثات، توقف عن قتل العلماء وقلص من مهام التجسس الأخرى التي يمكن أن تهدد المبادرة الأمريكية وتضر بالعلاقات مع وكالة المخابرات المركزية. في هذا الإطار، قال ضابط المخابرات الإسرائيلي السابق: “كان علينا تغيير استراتيجيتنا”.
لكن ظل خلاف “إسرائيل” مع سليماني يتصاعد. في سنة 2013، بدأت “إسرائيل” في قصف شحنات الأسلحة الإيرانية في سوريا، قبل أن يقع نقلها إلى لبنان. في سنة 2015، وسعت “إسرائيل” قائمة أهدافها في سوريا لتشمل القواعد التي أنشأها سليماني لقواته بالوكالة. ووصف الجيش الإسرائيلي استراتيجيته “بالحملة بين الحروب”، وهي محاولة لهزيمة قوات سليماني بالغارات الجوية والغدر. كانت شحنات أسلحة سليماني والجنود المشاة أهدافا سهلة نسبيا. عندما حاول سليماني نشر قوات على الحدود السورية مع “إسرائيل” بالقرب من مرتفعات الجولان، ردت “إسرائيل” بقتل سبعة ضباط إيرانيين، وكذلك جهاد مغنية، ابن عماد مغنية، البالغ من العمر 23 سنة. وحول هذا الموضوع، صرح مسؤول إسرائيلي قائلا إنهم “تلقوا رسالة تنص على التوقف عن مضايقة حزب الله على الحدود السورية أو”سنهاجمكم”.
حافظت إدارة أوباما على مسافة حياد من حملة “إسرائيل” على فيلق القدس
نفذت “إسرائيل” تفجيرات متكررة، ولم تواجه أية مقاومة تذكر في سوريا. وقال المسؤول الإسرائيلي إن الأمة التي دمرتها الحرب أصبحت “أرض لا أحد، حيث يفعل الجميع ما يريد”. في هذا الصدد، قال نورمان رول، وهو متخصص في شؤون إيران تقاعد مؤخرا من وكالة المخابرات المركزية، “إن الحملة بين الحروب أظهرت أن “إسرائيل” قادرة على التحكم في التهديد الذي يشكله سليماني”.
منذ توقيعها على الاتفاق النووي مع إيران سنة 2015، حافظت إدارة أوباما على مسافة حياد من حملة “إسرائيل” على فيلق القدس، فلقد أوضحت أن القيام “باستخبارات عملية” يساعد “إسرائيل” على تسريع نسق هجماتها. ووفقا لدبلوماسي أمريكي سابق معني بالأمر، كان موقف الولايات المتحدث كما لو أنها تقول لاسرائيل “أحذري، تعرفي على الطرف الذي توجهين ضرباتك له، فكل شخص سيلومنا على كل ما سيحدث”.
مع حلول ربيع سنة 2017، وبالتزامن مع فرض الأسد السلطة في سوريا وخسارة تنظيم الدولة لنفوذه في العراق، بدأ سليماني في تحويل المزيد من الاهتمام إلى قتال “إسرائيل” وغيرها من حلفاء الولايات المتحدة. ومن جهتها، كانت إدارة ترامب منقسمة حول كيفية التعامل مع التهديد الذي يمثله، حيث سعى بعض مستشاري الرئيس الأمريكي الأكثر تشددًا إلى تقديم مقترحات عسكرية لمواجهته وقواته بالوكالة في سوريا.
في المقابل، التزم كل من وزير الدفاع السابق ماتيس ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال جوزيف دانفورد وآخرون الحذر إزاء تحويل الموارد من الحملة المخصصة للقضاء على تنظيم الدولة، ولم يرغبا في جذب القوات الأمريكية إلى معترك أكبر الصراعات المندلعة في المنطقة.
أما بالنسبة لترامب، فلقد أرسل إشارات مختلطة، ووصف مسؤول سابق في إدارة ترامب “لقد كان ذلك وقتا مليئا بالفوضى، كما استدعى الرئيس الأمريكي مسؤولي البيت الأبيض بشكل روتيني للنظر في مسائل وإعطاء أوامر غير عادية من قبيل فلنخرج من كوريا الجنوبية، ولنخرج من حلف الناتو ولنقصف هؤلاء الرجال”. وفي بعض الحالات، طلب ماتيس ودانفورد من مؤيديهم عدم الاستجابة لطلبات موظفي البيت الأبيض للحصول على خيارات عسكرية للضغط على إيران. ومن جهتهم، شعر المسؤولون في البنتاغون ووزارة الخارجية بالقلق من أن السياسيين الليبراليين في البيت الأبيض كانوا يتلاعبون بسجلات الاجتماعات الداخلية التي تعرف باسم “ملخص الاستنتاجات” لجعل الأمر يبدو كما لو كانت المقترحات المتشددة بشأن إيران تحظى بتأييد واسع.
على الرغم من تلقي الرئيس الأمريكي إحاطات إعلامية متكررة عن عمليات فيلق القدس، إلا أن اسم سليماني ظهر في مرات قليلة فقط، وذلك حسبما ذكر مسؤول كبير سابق في إدارة ترامب. وفي شباط/ فبراير 2018، اخترقت طائرة إيرانية دون طيار محملة بالمتفجرات المجال الجوي الإسرائيلي، وهو ما دفع مسؤولين أمريكيين للتساؤل حول ما إذا كان سليماني يحاول إثارة صراع كبير. وقال المسؤول السابق في إدارة ترامب:” إذا لم يكن ترامب قد اهتم بسليماني قبل ذلك، فإن ما حدث جعله يرد في أفكاره بكل تأكيد”.
في ربيع سنة 2018، فقد ماتيس حليفًا مهمًا في اجتماعات مجلس الوزراء عندما طرد وزير الخارجية ريكس تيلرسون وخلفه مايك بومبيو، كما أصبح جون بولتون مستشار الأمن القومي. وقال المسؤول الكبير السابق إن الوافدين الجدد اتخذوا موقفا أكثر تشددا تجاه إيران بشكل جعل نظرائهم في الإدارة قلقين من أنهم “لم يعطوا ترامب أي خيارات أخرى. فلقد كان ترامب يتعلم أثناء قيامه بوظائفه وكانوا يغرونه بطعم ما للقيام بأي أمر”.
مع حلول شهر أيار/ مايو 2018، انسحب ترامب من الاتفاقية النووية الإيرانية، ما دفع بعض المنشقين داخل الإدارة إلى توقع أن هذا القرار سيؤدي إلى زيادة عدوانية إيران ودفعها في مسار تحولها لقوة إقليمية وتسريع تطوير قدراتها النووية. حيال هذا الشأن، قال الدبلوماسي الأمريكي السابق: “لن يرحب الإيرانيون بهذا المقترح، فبالنظر إلى ما كنا على وشك القيام به من عقوبات اقتصادية هائلة وخنق تام، لقد كان توقعي أن إيران ستقاتل”.
الدبلوماسي الأمريكي السابق كان ماتيس: الإسرائيليون يمكن أن يشعلوا شيئًا يحرقنا
في الأشهر 18 التالية، اقترب سليماني وترامب من المواجهة في أكثر من مناسبة، حيث أخبرت وكالات الاستخبارات الإسرائيلية الأميركيين أن سليماني كان يحاول تثبيت صواريخ طويلة المدى وطائرات مقاتلة دون طيار في العراق سنة 2018. أما بالنسبة لبعض القادة في البنتاغون ووزارة الخارجية الأمريكية، كان ذلك الأمر مثيرا للريبة، وذلك خوفا من استعداد “إسرائيل” لاتخاذ خطوات من شأنها زيادة زعزعة استقرار العراق. ففي حال شنت “إسرائيل” غارة جوية لتدمير أسلحة تشتبه في امتلاك إيران لها، كان بإمكان وكلاء سليماني مهاجمة أفراد أمريكيين للمرة الأولى منذ سنة 2011. وفي حديثهم إلى نظرائهم الإسرائيليين، قال مسؤولون أمريكيون: “دعونا نتحقق من ذلك قبل أن نفعل أي شيء”، وهو ما دفع الإسرائيليين للانتظار.
أما في البيت الأبيض، كانت المقاومة المضادة لسياسة إيران الأكثر عدوانية بصدد التلاشي، وذلك باستقالة ماتيس في كانون الأول/ ديسمبر 2018. من جهته، أراد ترامب تقديم المزيد من الدعم لمساعدة “إسرائيل” والحلفاء السنة في مواجهة إيران. وفي نيسان/ أبريل، أضافت إدارة ترامب فيلق الحرس الثوري إلى قائمة المنظمات الإرهابية الخاصة بها، بما في ذلك فيلق القدس، وهو ما قال المسؤول الدبلوماسي السابق بشأنه أن: “بولتون وبومبيو عرفا بأن هذا التصنيف سيفتح علينا النار”.
في البنتاغون ووزارة الخارجية، قاوم بعض المسؤولين تلك الخطوة انطلاقا من إمكانية تشكيلها لسابقة خطيرة ستسمح للدول الأخرى معاملة القوات الأمريكية على أساس كونها قوات إرهابية. وفي الآن ذاته، بدأت الولايات المتحدة أيضًا في تقديم معلومات استخباراتية عملية إلى “إسرائيل” لمساعدتها في غاراتها الجوية على فيلق القدس. وكان ماتيس وحلفاؤه قد أرجأوا هذه الخطوة أيضًا، حتى قام المحامون بتقييم آثارها. وفي حال منحت الولايات المتحدة معلومات استخباراتية عملية في قرارات الاستهداف الإسرائيلية، فإنها ستتقاسم مسؤوليتها عن النتائج والعواقب المنجرة عنها، وكما قال الدبلوماسي الأمريكي السابق، كان ماتيس يشعر بالقلق من أن “الإسرائيليين يمكن أن يشعلوا شيئًا يحرقنا”.
لعدة أشهر، تردد الرئيس الأمريكي في استخدام القوة ضد إيران. وفي 13 حزيران/ يونيو، ألقى بومبيو باللوم على إيران نظير الهجوم على ناقلتين نفطيتين بالقرب من مضيق هرمز، إلا أن ترامب لم يأمر بشن ضربة جوية. وبعد أسبوع، أسقط الحرس الثوري الإيراني طائرة أمريكية دون طيار من نوع “هاوك” بصاروخ أرض ـ جو. وبناء على طلب بومبيو وبولتون، طلب ترامب توجيه ضربة انتقامية، إلا أنه دعا البنتاغون إلى تأخير عملية إطلاق صواريخ كروز قبل وقت قصير، وذلك لتقييم تهديد أمني في السفارة البريطانية في طهران. وبعد مضي ساعة على ذلك، استأنفوا العد النهائي قبل أن يغير ترامب رأيه ونشر تغريدة مفادها “لسنا في عجلة من أمرنا”.
في الوقت ذاته، كان صبر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على وشك النفاذ، وكان الإسرائيليون قلقين من أن تقاعس الرئيس الأمريكي سيشجع سليماني، كما ظنوا أنه سيسعى للتفاوض مع نظيره الإيراني تماما كما فعل مع نظيره الكوري الشمالي كيم جونغ أون. واعتبر مسؤولو الاستخبارات الإسرائيلية هذا السيناريو الذي أسموه “ارتباطاً مفتوحًا بلا نتائج” الأكثر خطورة على الإطلاق.
في بعض الأحيان، بدت “إسرائيل” كما لو أنها تبعث بإشارات لا يفهمها سوى سليماني ومساعدوه
وفي صيف سنة 2019، بعد مضي سنة على التحذير القائل بأن سليماني يشكل تهديداً متزايداً، أخذت “إسرائيل” الأمور على عاتقها ووسعت حملتها إلى العراق، في سيناريو مماثل لما حذر منه بعض القادة العسكريين والدبلوماسيين الأمريكيين. وفي 19 تموز/ يوليو، دمرت “إسرائيل” مستودع أسلحة شمال بغداد نظرا لاعتقادها بأن قوات الحشد الشعبي الشيعية الخاضعة لسيطرة سليماني قريبة من نشر نظام أسلحة قادر على الوصول إلى إسرائيل، إلا أنها لم تعلن مسؤوليتها عن هذا الهجوم.
علاوة على ذلك، حذر كبار القادة العسكريين الأمريكيين من أن هذه الهجمات قد تقود إلى هجمات مماثلة ضد الأمريكيين، لكن مساعدي ترامب أكدوا لـ”إسرائيل” أن البيت الأبيض ليس لديه اعتراضات. وأعقب ذلك تفجيرات مماثلة لم يكن مصدرها مؤكدا، وهدد زعماء الميليشيات الشيعية بالانتقام من القوات الأمريكية المتمركزة في قواعد في العراق. وفي أعقاب شهر آب/ أغسطس من السنة ذاتها، قال أحد قادة الحشد الشعبي أبو المهدي المهندس في حديثه عن الولايات المتحدة: “سنحاسبهم على كل ما يحدث من اليوم فصاعدًا.”
مع نهاية فصل الصيف، كان القادة الإسرائيليون يصدرون تحذيرات محددة لسليماني، ومثال ذلك تصريح وزير الخارجية الإسرائيلية لموقع واينيت الإخباري الشهير: “تسعى “إسرائيل” للقضاء على رأس الأفعى الإيرانية، وقاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحشد الثوري هو أنياب هذه الأفعى”. وفي بعض الأحيان، بدت “إسرائيل” كما لو أنها تبعث بإشارات لا يفهمها سوى سليماني ومساعدوه.
وفي شهر آب/ أغسطس، سُئل أولمرت عما إذا كانت “إسرائيل” قد حاولت قتل سليماني في برنامج شهير على محطة “اف ام 103” في تل أبيب، لكنه منح إجابات مقنعة فيما يبدو كإشارة على مقتل مغنية قبل عقد من الزمن. وقال أولمرت: “هناك شيء يعرفه، وهو يعرف أنني أعرفه. أنا أعلم أنه يعرف بشأنه، وكلانا يعرف ما هو هذا الشيء”. ثم أضاف قائلا: “ما هذا، تلك قصة أخرى”، في تصريحات هدفها بيان مدى قدرة “إسرائيل” على ضرب الأهداف بعيدة المدى لإخافة سليماني.
على الرغم من ذلك، أظهر ترامب علامات مفادها أنه لا يزال يرغب في التفاوض مع إيران، حيث طرد بولتون في أيلول/ سبتمبر، وهو أكثر الليبراليين وأكثرهم تشددا حيال الموقف الإيراني في البيت الأبيض. وعندما هاجمت الطائرات الإيرانية بدون طيار منشآت تكرير النفط في المملكة العربية السعودية، أدى ذلك إلى تقليل إمدادات النفط في العالم بمقدار 5 بالمائة، ما دفع المخابرات الأمريكية لإلقاء اللوم على إيران، وافترض نتنياهو وغيره من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة أن ترامب سينتقم، لكنه لم يفعل.
في 24 أيلول/ سبتمبر، حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ترتيب مكالمة هاتفية ثلاثية مع الرئيس روحاني وترامب في جمعية الأمم المتحدة، لكن روحاني رفض ذلك مقللا من أهمية دبلوماسية الصور المصطنعة. قال دبلوماسي إسرائيلي إن نتنياهو يعتقد أنه إذا دخل ترامب في محادثات مع إيران فسوف “يخسر ضغط العقوبات”.
في فصل الخريف، شنت ميليشيات سليماني في العراق بعضًا من أكثر الهجمات الصاروخية جرأة حتى الآن، حيث أطلقوا صواريخهم على قواعد عسكرية كانت تضم جنودا أمريكيين في العراق. وبالنسبة لإسرائيل، فقد أطلعت العالم على أنها ستتخذ منحى أكثر جدية وباتت أكثر استعدادا لتصبح أكثر عدوانية ضد فيلق القدس. وفي بيان رسمي، قال وزير الدفاع الإسرائيلي نفتالي بينيت إن “القواعد قد تغيرت، فرسالتنا إلى قادة إيران بسيطة: لم تعودوا محصنين، أينما تمد مخالبك، فإننا سنقتلعها”.
مع حلول شهر أيلول/ سبتمبر، كان الوكلاء المدعومون من إيران يطلقون صواريخ أكبر وأكثر قوة على القواعد. وفي الرابع من كانون الأول/ ديسمبر، التقى بومبيو نتنياهو في البرتغال وتلقى تأكيدات بأن الولايات المتحدة سترد على إيران إذا أصيب أي أميركي. وعلق بومبيو سراً قائلاً: “يريد الإسرائيليون إدخال رفاقهم الكبار في المعركة من أجلهم”.
في إسرائيل، لم يتوقع أحد في الدوائر العسكرية والمخابراتية أن يتنحى سليماني عن منصبه، وظهرت أزمة لا مفر منها. قال ضابط سابق في الموساد في تل أبيب: “لقد تم تأخيرهم، لكن الوقت ينفد. الحرب قادمة وسوف تحدث. والسؤال هو متى وعلى أي مقياس”. وفي 27 كانون الأول/ ديسمبر، بعد مضي بضعة أسابيع على هذه الهجمات، أصابت مجموعة من ثلاثين صاروخًا قاعدة في شمال العراق لتسفر عن إصابة العديد من الجنود وقتل المتعاقد الأمريكي نورس الحميد، والذي كان بأصول عراقية ويعمل كمترجم فوري للغة العربية. حيال هذا الشأن، قال مسؤول أمني: “كانوا يعتزمون إلحاق المزيد من الأذى”. وردا على هذا التصريح، أرسل الجنرال كينيث ماكنزي الذي يترأس القيادة المركزية مجموعة من الخيارات إلى الجنرال مارك ميلي رئيس هيئة الأركان المشتركة.
بالنظر إلى مجموعة الخيارات المتاحة لترامب، نجد ان أحدها كان يطمح لقتل عدد محدود من أعضاء ميليشيا تدعمها إيران تعرف باسم كتائب حزب الله، إلا أنه اختار خيارا أكثر تطرفا. وفي 29 كانون الأول/ ديسمبر، شنت الولايات المتحدة غارات جوية على خمسة مواقع للميليشيات في العراق وسوريا، ما أسفر عن مقتل 25 من أعضاء المجموعة وجرح أكثر من 50 منهم. واعتقد الجيش الأمريكي أن الغارات الجوية ستوقف دورة العنف، إلا أنها أثارت موجة من المشاعر المعادية لأمريكا في العراق.
وفي عشية رأس السنة الميلادية الجديدة عقب دفن ضحايا الغارات، قام أنصار حزب الله بمسيرة أمام مقر السفارة الأمريكية في بغداد، وأضرموا النار في منطقة الاستقبال وأجبروا أفراد الأمن على العودة إلى المجمع. وعلى الرغم من عدم ولوج السفارة بشكل كامل، إلا أن الصور القادمة من بغداد تذكرنا بصور اقتحام سفارة بنغازي أين كان الأمريكيون يعتقدون بأن المحتجين قدموا بغرض الاحتجاج فقط، لكن الأمور خرجت عن السيطرة.
في تغريدة نشرها ترامب حول الهجوم على السفارة في العراق، ألقى الرئيس الأمريكي اللوم على إيران قائلا إنها “ستدفع ثمنا غاليا، وأن هذا تهديد وليس تحذيرا”. وفي تصريحه في أحد برامج قناة فوكس نيوز، قال بومبيو إن أنصار حزب الله كانوا قد توجهوا إلى مقر السفارة بتعليمات من سليماني.
عندما انسحب المتظاهرون الذين كانوا يتجمعون قبالة سفارة بغداد، كان ترامب حينها في مار لاغو. عرض عليه كلّ من الجنرال مارك ألكسندر ميلي ومارك إسبير وزير الدفاع، جذاذات تصور ردودا ممكنة، حيث طُرحت إمكانية الهجوم بشنّ غارات جويّة على قواعد الميليشيات بالإضافة إلى أهداف أخرى. ثم اُستتبعت خيارات مرتجلة تتمثل في سلسلة من عمليات القتل المستهدفة وفي حقيقة الأمر، لم يتوقع القادة أن يأخذها ترامب على محمل الجدّ.
طُرحت على الطاولة ثلاث صور، اثنتان لقياديين على رأس ميليشيات غير معروفة وأخرى لسليماني. ورغم أن سليماني كان يحتل وقتها منصبا في الحكومة الإيرانية، إلا أن مسؤول الدفاع الأمريكي علّل أنه يُمكن إضفاء شرعية قانونية على اغتياله لأنه عنصر “تكنّ له أطراف عدة الكره” كما أنه يدير وسطاء في ربوع العراق ولبنان وسوريا واليمن، وهي البلدان التي تضم أطراف فاعلة غير خاضعة للدولة، وتعتبر بالتالي تعتبر أهدافا إرهابية مشروعة. هذا وقد كانت الولايات المتحدة تتعقب تحركات سليماني منذ فترة طويلة قبل التخطيط لاستهدافه وعملت على تجميع سجل يصطلح عليه عسكريا “بأسلوب الحياة”.
أعلم مسؤولون في المخابرات ترامب أن سليماني كان يخطط لهجمات تهدد أرواح مئات الأمريكيين في المنطقة، رغم أنه لا يمكن وجدد التفاصيل الدقيقة حول ذلك. كما أخبرته مديرة وكالة المخابرات المركزية، جينا هاسبل، أن ردّ إيران المحتمل للانتقام لاغتيال سليماني لن يمتد على نطاق واسع ثمّ أن خطر سقوط المزيد من الأرواح في صفوف الأميركيين المعرضين لهجمات يُزعم أن سليماني يخطط لها، وارد على أرض الواقع أكثر من الرد الإيراني المحتمل للانتقام وأكدت أن “عواقب عدم التحرك أخطر من قرار شنّ عملية”.
اختار ترامب لعب ورقة سليماني. تفاجئ الضباط في القيادة المركزية حيث طلبوا الاستظهار بأمر رسمي مكتوب، قبل أن يسارعوا إلى إعداد خطة، أطلق عليها اسم “مفهوم العمليات”. وبحلول المساء التالي، جمعوا معلومات استخبارية تثبت وجود سليماني في بيروت للقاء نصر الله، زعيم حزب الله، وأنه يعتزم المرور عبر دمشق في طريقه إلى العراق. عند اختيار موقع الاغتيال، اُستبعدت دمشق. فقد اُعتُرت مجالًا جويًا معاديًا تعتمده طائرات تابعة للعديد من البلدان. أمّا في العراق، وعلى خلاف ذلك، تمتلك الولايات المتحدة ترسانة من القوى العسكرية الأمريكية. وأوضح مسؤول الدفاع واصفا ظروف العملية، “كان أمامنا مهلة قصيرة لانتهاز هذه الفرصة.”
بعد أيام من إجراء مقابلة إعلاميّة، أعلنت الحكومة الإيرانية اعتقال ثلاثة من المشتبه بهم في تدبير مؤامرة كانت تُحاك لاغتيال سليماني
وفقا للمخابرات الأمريكية، كان من المقرر أن يصعد قاسم سليماني على متن طائرة تجارية في مطار دمشق الدولي خلال رحلة تستغرق 90 دقيقة باتجاه بغداد. توقع المخططون توجيه صاروخ يستهدف موكبه عند هبوطه في العراق. وبقيت الخطة طيّ الكتمان ولم يعلم بها حتى المسؤولون في وزارة الخارجية المكلفون بتأمين السفارة في بغداد، إلا أنّ الإدارة لم تستثن نتنياهو وأطلعته على الأمر.
قبل اغتيال سليماني بأشهر، رُوّجت صورته كعنصر مستهدف للعلن. ففي تشرين الأول/ أكتوبر، جمعته مقابلة مع الإعلام الإيراني الحكوميّ تعتبر نادرة ومميزة، استرجع خلالها أحداثا درات سنة 2006، عندما كان رفقة نصر الله في بيروت ولاحظا وجود طائرات إسرائيلية دون طيار تحلق في سماء المنطقة، تأهبا لشن غارة جوية. فاضطرا حينها للاحتماء تحت شجرة ثمّ الهروب بمساعدة عماد فايز مغنية، بتتبّع سلسلة من المخابئ تحت الأرض، ليتمكنا بذلك على حد تعبيره، من “خداع العدو وهزيمته”.
بعد أيام من إجراء هذه المقابلة الإعلاميّة، أعلنت الحكومة الإيرانية اعتقال ثلاثة من المشتبه بهم في تدبير مؤامرة كانت تُحاك لاغتيال سليماني، وذلك بحفر نفق يمتد إلى موقع نصب تذكاريّ يخلّد ذكرى والده الراحل حتى يسهل هذا النفق التنقل لتفجير قنبلة أثناء حفل الافتتاح. في حقيقة الأمر، أخفى سليماني تحركاته وعمل بسرية لسنوات عدّة، لكنّه في الآونة الأخيرة لم يعد يبذل جهودا لإخفاء مكان وجوده. أورد مسؤول الدفاع الأمريكي في هذا الصدد، “أعتقد أن سليماني لم يتوقّع أننا سنتخذ قرارا مماثلا.”
عندما استقل سليماني رحلته الأخيرة، استقرت في العاصمة العراقية طائرات أمريكية من طراز م.ك-9 ريبر. وعلى الساعة الثانية عشر صباحا و36 دقيقة، هبطت طائرته في مطار بغداد الدولي. اقتربت سيارتان بسرعة من قاعدة درج الطائرة، حيث استقبله أبو مهدي المهندس. أُعلم قادة الهجوم مسبقا بإبطال الهجوم في حال هدّد أرواح أي من كبار مسؤولي الحكومة العراقية، في حين اعتبر أبو مهدي المهندس ضحية مقبولة.
استقل كل منهما سيارة برفقة أشخاص ضمن الموكب، واتجه الجميع نحو شارع خال في المدينة. وعلى الساعة الثانية عشر صباحا و47 دقيقة، وبينما كان الركب يمر بسرعة بين صفوف النخيل، سقط أول صواريخ موجه للركب، واُضرمت النيران في جميع أجزائه، مما أدى إلى مقتل 10 ركاب. نشر صحفي عراقي تغريدة عن اندلاع انفجار غامض، عندها تبادل بعض ضباط الأمن ممن أُعلموا بالهجوم في وزارة الخارجية رسائل بريد إلكتروني بعجالة، مستفسرين عما إذا كانت السفارة في خطر.
أصدروا أمرا للعاملين في بغداد بالاحتماء. قبل وقت قصير من تأكيد البنتاغون الأخبار، نشر ترامب تغريد تحمل صورة العلم الأمريكي. في وقت لاحق، علمنا أن ترامب قد تابع العملية لحظة بلحظة خلال اجتماعه بمستثمرين في مار لاغو، عندها اتصل به أحد الضابط العسكريين ليعلمه بالحرف الواحد: “سيدي، إنها آخر دقيقة تفصلهم عن الحياة”. بدأ الضابط في عدّ تنازليّ لإحصاء الثواني المتبقية: ” ثلاثون..عشرة، تسعة، ثمانية.. ” ثم دوى حسّ الانفجار. عندها أضاف الضابط: “سيدي، لقد قُضي أمرهم”.
مسؤول بإدارة ترامب: “لقد دخلنا في صراع مع إيران منذ سنة 1979 لكن لا يدرك كثيرون ذلك”.
تختلف عملية مقتل سليماني بشكل جذري عن أنماط القتل المستهدف المعتمدة من الولايات المتحدة منذ سنة 2002، حيث لم يكن سليماني مجرد قائد لجماعة سرية عديمة الهوية بل كان ممثلًا رفيع المستوى لأحد أكثر الدول اكتظاظًا بالسكان في الشرق الأوسط. قد تكون إيران متورطة في الإرهاب لكنها ليست في حالة حرب تقليدية مع الولايات المتحدة.
من خلال تبني منهج عدائي يعتمد عادة زمن الحرب، تصرفت الإدارة وفقا للاعتقاد السائد بين عديد من المستشارين الرئاسيين ذوي النفوذ، بأن الولايات المتحدة كانت تخدع نفسها حول طبيعة علاقتها بطهران. في هذا الصدد، قال مسؤول بإدارة ترامب: “لقد دخلنا في صراع مع إيران منذ سنة 1979 لكن لا يدرك كثيرون ذلك”.
إثر عملية الاغتيال مباشرة، أطلقت إيران أكثر من 10 صواريخ على منشأتين أمريكيتين في العراق، حيث أفاد البنتاغون بأنه على الرغم من عدم مقتل أي شخص، إلا أنه وقع الإبلاغ عن أعراض إصابة 30 جنديًا أمريكيًا بصدمات نفسية حادة. (حسب بعض الشهادات، كان تجنب بعض الصواريخ شديد الصعوبة مما تسبب في المزيد من الإصابات).
علاوة على ذلك، أعلنت طهران عن تخليها عن القيود المفروضة على تخصيب اليورانيوم، على الرغم من أنها ستستمر بالسماح بعمليات التفتيش التي تنفذها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مما يحمل رسالة شاملة مفادها بأن إيران لا تسعى إلى المزيد من التصعيد.
بعد مضي 12 سنة على الاجتماع في دمشق في ليلة شتوية، توفي المشاركون الثلاثة في عمليات اغتيال مختلفة: قصف وفريق قناصين وهجوم باستخدام طائرة دون طيار لكن البلدان المسؤولة تجنبت عمدا إعلان مسؤوليتها عن هذه العمليات في الحالتين الأولى والثانية.
فيما يتعلق بمقتل سليماني، تخلى ترامب عن هذا النهج، حيث عقد مؤتمرا صحفيا احتفالا بهذا النصر محاطا بمساعدين وجنرالات يرفلون في الزي العسكري. في هذه الخصوص، قال إن إيران “ستترجع”، ثم أعلن عن جولة جديدة من ” العقوبات الاقتصادية” التي ستستمر “حتى تغير إيران منهجها”. في غضون أسبوع، انحرف التركيز في واشنطن نحو أزمات أخرى، أبرزها محاكمة عزل ترامب داخل مجلس الشيوخ.
مع ذلك، كان العديد من مسؤولي الأمن القومي الأمريكي مستعدين، حيث قال الدبلوماسي الأمريكي إن “تبرير إدارة ترامب اغتيال سليماني ذكّره بتفاؤل مستشاري بوش بشأن العواقب المحتملة لغزو العراق سنة 2003. وأضاف المسؤول قائلا: “ليست سوى البداية، حيث كان رد فعلي الأولي جيدًا حين سمعت عن مقتل سليماني. إثر ذلك كان رد فعلي الثاني هو التساؤل عما إذا تم التفكير جيدا في هذه العملية من قبل”. كما أضاف الدبلوماسي بأنه: “بالإضافة إلى الأعمال الانتقامية ضد شعبنا وشركائنا في المنطقة، قد نجبر الخروج من العراق، مما يعني أننا سنحتاج إلى مغادرة سوريا وهذا بالضبط ما يريده ترامب وما أراده سليماني أيضا. لهذا السبب، أجبرنا موت سليماني على الخروج من العراق، مما قد يمثل بالنسبة له موتا مثاليا”.
في سياق متصل، أفاد نائب المدير السابق بوكالة الاستخبارات الأمريكية، مايك موريل، ” لم يتم التعامل مع المشكلة الاستراتيجية القائمة. في صورة حدوث ذلك، فسيعزز ذلك العداء ضد الولايات المتحدة مما سيصعب خيار المفاوضات للخروج من هذه الفوضى”. علاوة على ذلك، أفاد المدير السابق لوكالة الاستخبارات، جون برينان، بأنه “يعتقد أن اغتيال سليماني غير قانوني، إذ أن مجرد تصريح من قبل محام أو مجموعة من المحامين بأن شيئًا ما يعتبر قانونيًا لا يجعله كذلك، بل يعني فقط أن هناك شخصا ما يدعي صحة هذا الأمر”.
في جلسات مغلقة عقدها الكونغرس الأمريكي، سأل المشرعون كل من إسبر وميلي عما إذا كانت الإدارة تنوي استخدام عملية سليماني كذريعة لمهاجمة كبار القادة الإيرانيين الآخرين، على غرار آية الله، إلا أنهم رفضوا الفكرة بشدة. لكن إيران ووكلائها في جميع أنحاء الشرق الأوسط يمكنهم اعتبار عملية مقتل سليماني ذريعة لتصرفاتهم.
في هذا الصدد، قالت برينان إن قرار ترامب خول “لأي شخص أن ينتقده”. وأضافت برينان: “ما زلت أعتقد أن الإيرانيين يشعرون بأنهم لم ينتقموا لمقتل سليمان بعد. كما أعتقد أن الهجوم على القاعدة الأمريكية في العراق الذي أسفر عن إصابة عدد قليل من الجنود الأمريكيين كان قد أخمد الغضب الإيراني من وجهة نظر السياسة المحلية. لكن هناك أشخاص يرغبون في الانتقام لموت سليماني في مرحلة ما، في مكان ما، بطريقة دامية”.
حيال هذا الشأن، قال توماس بوسرت، الذي شغل منصب مستشار شؤون مكافحة الإرهاب في إدارة ترامب خلال الفترة الممتدة بين سنة 2017 إلى 2018: “إن الأمر الذي كان يشكل هاجسا بالنسبة لإدارتي بوش وأوباما هو إمكانية قيام “إسرائيل” بتصرف تصعيدي ضد إيران من جانب واحد وإقحام الولايات المتحدة في النزاع. لم تكن “إسرائيل” حينها على علم بأن الولايات المتحدة ستنضم لمهاجمة إيران لمنع التقدم الذي تحرزه في المجال النووي”. وأضاف بوسرت قائلا: “ينبغي في الوقت الراهن أن يشعر الإسرائيليون بالقلق إزاء احتمالية تصعيد الولايات المتحدة للنزاع ضد إيران من جانب واحد”.
لا تشبه وفاة سليماني الجنازة المشحونة لمغنية بعد أن لقي حتفه خلال قصف دمشق، أو مراسم دفن رفات محمد سليمان التي مرت مرور الكرام
بشكل سري، كان نتنياهو مبتهجا من جميع النواحي. وفي هذا الصدد، قال الدبلوماسي الإسرائيلي: “لقد غيرت حادثة مقتل سليماني قواعد اللعبة”. ومن جهتهم، يعتقد مؤيدو نتنياهو أن هذه الحادثة عطلت احتمالية حدوث أي انفراج على الصعيد الدبلوماسي بين كل من ترامب وروحاني، كما كشفت عزما جديدا للولايات المتحدة على مواصلة الضغط على إيران.
لتعويض الفراغ الذي خلفه سليماني، روجت إيران لإسماعيل قاآني نائب وخليفة سليماني. في الحقيقة، من الصعب على المحللين الأجانب معرفة مدى قدرة قاآني على إثبات أنه عدو لدود. وحيال هذا الشأن، قال المسؤول الأمني الإسرائيلي السابق: “شخص قضى عشرين سنة في منصب نائب لا يمكن أن يكون نجما. كما أن دوره ثانوي في المشهد. وسيحتاج قاآني لبعض الوقت لبناء مكانة واكتساب مصداقية.
خلال السادس من شهر كانون الثاني/يناير، أقامت إيران مراسم تشييع لسليماني، حيث خرج ملايين المواطنين للشوارع في طهران، وشكلوا أكبر موكب دفن شهده البلد منذ وفاة روح الله الخميني سنة 1989. وسجلت هذه الحادثة ظهورا علنيا نادرا للمرشد الأعلى الذي بكى على النعش. وفي العديد من المدن، بما في ذلك بغداد حيث حضر رئيس الوزراء العراقي حفل تأبين أقيم على روح سليماني، هتفت حشود من المتظاهرين وتعهدت بالانتقام. أما في كرمان، مسقط رأس سليماني، أدى تدافع الحشود إلى مقتل ستة وخمسين شخصا.
عند مشاهدته مراسم دفن سليماني، انزعج ضابط المخابرات الإسرائيلي السابق. وفي هذا السياق، قال: “هناك أمر يزعجني، إذا كانوا يرغبون في حقن الدماء، كانوا سيقومون بدفنه بحضور ثلاث أو خمسمائة شخص أو حتى أعضاء من القيادة العليا. وكانوا سيجعلون هذه الحادثة تمر بهدوء”.
في الواقع، لا تشبه وفاة سليماني الجنازة المشحونة لمغنية بعد أن لقي حتفه خلال قصف دمشق، أو مراسم دفن رفات محمد سليمان التي مرت مرور الكرام. هذه المرة، استقر قادة إيران على رسالة مختلفة تماما. وأضاف الضابط: “امتلأت شوارع إيران بملايين الأشخاص على مدار ثلاثة أيام. إنهم يوجهون رسالة إلى الشعب الإيراني مفادها أنهم “لن يكونوا قادرين على التسامح مع ما حصل لسليماني”.
المصدر: نيويوركر