تعددت جرائم فرنسا الإستعمارية في القارة الإفريقية، لكن قبل الغوص أكثر في هذه الجرائم، من المهم أن نتعرف على أبرز رجال باريس الذين عملوا في القارة السمراء لسنوات عدة خدمة لأهدافها الاستعمارية، لذلك دعونا نرجع قليلًا للتعرف على أمين عام الإليزيه “جاك فوكار” الذي يعتبر رجل فرنسا الأول في إفريقيا، الذي أوكلت له مهمة هندسة أنظمة الحكم في دول القارة.
في هذا التقرير الجديد لنون بوست ضمن ملف جرائم فرنسا في إفريقيا، سنتعرف معًا على فوكار والأنشطة المشبوهة التي قام بها في إفريقيا والآليات التي اعتمدها لذلك، التي غالبًا ما تكون مخالفة للأعراف والقوانين المحلية والدولية.
رجل ديغول الوفي
خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، استقلت معظم الدول الإفريقية، لكن رئيس الجمهورية الخامسة شارل ديغول كان يخطط للبقاء أكثر في هذه القارة، لذلك استدعى صديقه جاك فوكار الذي تولى منصب كبير مستشاري الحكومة الفرنسية فيما يخص السياسة الإفريقية بين 1960 و1974، وكلفه بتلك المهمة، أي رسم الجزء الأهم من علاقات باريس بإفريقيا إلى اليوم.
من ذلك التاريخ أصبح رجل الأعمال والسياسي الفرنسي جاك فوكار، الأب المؤسس للعلاقة الاستعمارية الحديثة بين فرنسا ودول إفريقيا، علاقة حافظت عليها حكومات فرنسا المتتالية دون استثناء، فالدفاع عن “الفناء الخلفي” الإفريقي بقي أولوية تخطيطية أساسية لكل الحكومات.
قربه من الجنرال شارل ديغول، أعطاه حرية الحركة أكثر، فقد كان يشرف على خدمة التوثيق الخارجي ومكافحة التجسس
ولد جاك فوكار في 31 من أغسطس/آب 1913 في أمبريير (ماين)، وتوفي في 19 من مارس/آذار 1997 في باريس، قضى طفولته المبكرة في جزر الأنتيل، حيث سيعود لاحقًا، يعتبر فوكار أحد أبرز الرجال الموثوق بهم من الجنرال ديغول، وهو المسؤول عن المهام السياسية الأساسية الخارجية والحساسة لفرنسا.
تميزت حياته بشكل خاص بنفوذه في إفريقيا، في عهد الجنرال ديغول ثم جورج بومبيدو، وأخيرًا جاك شيراك. التقى فوكار، سنة 1945 بشارل ديغول، حيث طلب منه المشاركة في تأسيس حزب “تجمع الشعب الفرنسي”.
عمل فوكار خلال السنوات الفاصلة بين 1947 و1954، مسؤولًا عن الإعداد في حزب “تجمع الشعب الفرنسي” في جزر الأنتيل (مجموعة جزر تكون الجزء الأكبر من جزر الهند الغربية) وغويانا، حيث قام بالعديد من الرحلات وأنشأ صداقات قوية في الأوساط السياسية لهذه الإدارات الخارجية.
سنة 1952، تم اختيار جاك فوكار لينضم إلى مجموعة مجلس الشيوخ الديغولي للمشاركة في الاتحاد الفرنسي الذي من المفترض أن يدير علاقات فرنسا بمستعمراتها، بعد ذلك بسنة رافق فوكارت ديغول في رحلة إفريقية.
سنة 1958، عاد فوكار إلى العمل، فقد عينه ديغول لمنصب مستشار تقني في فندق ماتينيون (المقر الرسمي ومقر عمل رئيس الحكومة الفرنسية منذ عام 1935)، ثم في الإليزيه، قبل أن يصبح، في عام 1961، أمينًا عامًا لرئاسة الجمهورية للشؤون الإفريقية والملغاشية.
قربه من الجنرال شارل ديغول، أعطاه حرية الحركة أكثر، فقد كان يشرف على خدمة التوثيق الخارجي ومكافحة التجسس (SDECE)، وبشكل غير رسمي، على خدمة العمل المدني (SAC).
الأب الاستعمار الحديث
تفكير الجنرال ديغول باللجوء إلى مستعمرات بلاده السابقة في إفريقيا، بدأ مع توسع نشاطات البلاد الاقتصادية وعدم قدرتها على تحقيق اكتفائها، خاصة مع استقلال الجزائر عام 1962، حين فقدت فرنسا امتياز استغلال النفط الجزائري، فقد عرف يقينًا أن لا قوة لبلاده دون الاستقلال في مجال الطاقة.
أمام هذا الوضع الطارئ والحاجة الملحة لمصادر آمنة ودائمة للطاقة، قرر ديغول اللجوء إلى بلدان الإمبراطورية الفرنسية الاستعمارية السابقة في إفريقيا السوداء المليئة بالثروة المعدنية والنفطية، بهدف استغلال هذه الموارد.
استغل فوكار شبكاته المتعددة بين النخب الحاكمة الإفريقية للحفاظ على الوجود الفرنسي في القارة السوداء
استغل ديغول عجز تلك الدول ووجود إرادة سياسية قوية لدى دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لعرقلة أي تمدد شيوعي نحو القارة الإفريقية، حتى يفرض سياسته التوسعية في مستعمراته القديمة رغم خروج قوات بلاده من هناك.
وجد ديغول في فوكار – الذي كان يعمل حينها أمينًا عامًا للشؤون الإفريقية والملغاشية في رئاسة الجمهورية – ضالته، فعينه مسؤولًا عن إقامة عهد جديد من الاستعمار الفرنسي بعد أن جردت فرنسا من إمبراطوريتها الإفريقية.
سيد إفريقيا
عرف فوكار بعد ذلك بـ”سيد إفريقيا”، فكان المسؤول عن تعيين وإقالة رؤساء دول المربع الفرانكفوني في القارة السمراء لعدة عقود من الزمن خلال الجمهورية الخامسة، وعهد له ديغول مهمة هندسة أنظمة الحكم في دول إفريقيا وتثبيت الحكام أو الإطاحة بهم بما يتلاءم مع مصالح فرنسا.
دعم حُكم البعض وزعزعة استقرار الآخرين، بموارد بشرية ومالية كبيرة، فقد كان لديه القول الفصل واليد العليا في كل الأجهزة السرية والدبلوماسية الفرنسية في إفريقيا، وهدفت أساليبه إلى إبقاء رؤساء الدول في المستعمرات الفرنسية السابقة تحت تأثير باريس.
استغل شبكاته المتعددة بين النخب الحاكمة الإفريقية للحفاظ على الوجود الفرنسي في القارة السوداء، فقد طلب منه ديغول مصادرة الاستقلال الإفريقي وتنظيم الحفاظ على التبعية الإفريقية لباريس (سياسية، اقتصادية، مالية، عسكرية).
لتنفيذ هذه المخططات، مهد فوكار الطريق أمام الفرق الأمنية والاستخباراتية لبلاده للعمل بأريحية في الدول الإفريقية، من بين هذه الفرق: مصلحة الوثائق الخارجية ومكافحة التجسس (SDECE)، وأيضًا وكالة الاستخبارات الفرنسية (DGSE)، وثالث هذه المجموعات هي الإدارة العامة للأمن، وإدارة الاستخبارات العسكرية المعنية بالدعاية لصالح فرنسا وخصوصًا عند الأزمات في إفريقيا.
بداية ملتوية
أنشأ فوكار شبكة مركزية قوية حملت اسم “فرانس – أفريك”، بحيث يبقى المسيطر الوحيد على الوضع في القارة الإفريقية، فكان يستمد معلوماته عن طريق أجهزة الاستخبارات والأجهزة السرية والدبلوماسية، لكن أيضًا من رجال الأعمال والشخصيات البارزة التي تعمل محليًا “المراسلون”، جنبًا إلى جنب مع الأجهزة السرية وغالبًا ما يتم تعبئة المرتزقة.
نجح فوكار في خلق شبكة مصالح مهمتها إبقاء دول غرب ووسط إفريقيا تحت سيطرة فرنسا، حتى بعد خروجها عسكريًا منها، فقد كانت فرنسا تعول كثيرًا على الخيرات الإفريقية وليس من السهل أن تتخلى عنها مرة واحدة.
من خلال هذه الشبكة، ضمنت فرنسا الوصول إلى المواد الخام الإستراتيجية للقارة والسيطرة عليها (النفط واليورانيوم وغيرها)، كما ضمنت بقاء عدة قواعد عسكرية لها هناك، لحماية مصالحها العليا في القارة السمراء، فدون قوات عسكرية لا يمكنها الحفاظ على بقائها في القارة، كما حافظت من خلالها أيضًا على ولاء الدول الإفريقية لها على المستوى السياسي.
ظل فوكار لعقود عدة متحكمًا في المشهد السياسي والاقتصادي في إفريقيا، فقد كان بمثابة “رجل الظل”
أولى الضربات الملتوية في عهد فوكار كانت بمثابة جريمة الدولة، ففي 3 من نوفمبر/تشرين الثاني 1960، سمم عنصر في وكالة خدمة التوثيق الخارجي ومكافحة التجسس، المعارض الكاميروني فيليكس مومييه في مطعم بجنيف، وفي ذلك التاريخ كان فوكار يرأس الأمانة العامة للشؤون الإفريقية والملغاشية منذ أكثر من ستة أشهر.
في يناير 1963، عمدت المخابرات الفرنسية إلى الانقلاب على رئيس توغو سيلفانوز اليمبي، بعد سنة من إصدار عملة توغو الوطنية، بواسطة الجنرال غناسنغي أياديما الذي حكم البلاد من بعده 38 سنة، وتدفع توغو إلى الآن قرابة 80% من الدخل القومي لفرنسا كضريبة للاستعمار بعد أن كانت 40% فقط في عهد سيلفانوز اليمبي.
في 18 من فبراير/شباط 1964، أطاح الجيش الغابوني في انقلاب غير دموي بالرئيس ليون إمبا، لكن بعد يومين فقط، قامت القوات الفرنسية بعملية إنزال في ليبرفيل وأعادت حليفها إلى الحكم، وجوبه ليون بمعارضة كبيرة نتيجة سياساته الموالية لفرنسا، ما دفعه إلى فرض حالة الطوارئ، وتوفي عام 1967 متأثرًا بمرض السرطان وخلفة في الرئاسة نائبه عمر بونجو.
في أكتوبر/تشرين الأول 1958، استقلت غينيا وتولى أحمد سيكو توري الرئاسة، وأبدى معارضة كبيرة لفرنسا ورفض الاندماج الذي دعا إليه الجنرال ديغول، إلا أن باريس قررت معاقبته عبر اتخاذ العديد الإجراءات من التي أشرف عليها فوكار، فقد غادر آلاف الفرنسيين غينيا، حاملين معهم كل ما يستطيعون، كما طبعت الملايين من العملة الغينية المزورة وأدخلتها بين العملة الغينية الصحيحة لضرب اقتصاد غينيا الدولة الشابة، دولة سيكو توريه.
ظهر عمل جاك فوكار أيضًا، في بداية ستينيات القرن الماضي من خلال دعم المارشال موبوتو في انقلابه الأبيض على الرئيس يوسف كاسا فوبو أول رئيس لجمهورية الكونغو الديموقراطية بعد الاستقلال.
خلال السنوات التي امتدت من 1967 إلى 1970، عرفت نيجيريا حربًا أهلية عرفت باسم حرب بيافان، خاضتها حكومة نيجيريا ودولة بيافرا الانفصالية، كانت بريطانيا والاتحاد السوفيتي من الداعمين الرئيسيين للحكومة النيجيرية في لاغوس، بينما دعمت فرنسا بيافرا، وأشرف فوكار على المساعدات الكبيرة التي قدمتها فرنسا إلى الانفصاليين هناك (لم تكن نيجريا مستعمرة فرنسية بل بريطانية).
ظل فوكار لعقود عدة متحكمًا في المشهد السياسي والاقتصادي في إفريقيا، فقد كان بمثابة “رجل الظل” الذي يحرك الخيوط وفق ما تقتضيه مصلحة فرنسا العليا في إفريقيا السمراء، ما جعل العديد يعتبره “سلطة حقيقية داخل السلطة”.