كانت الأعمال تجري على قدم وساق في أعمال مشروع “سيل الشمال 2″ الذي تبلغ قيمته 10.5 مليار دولار، وهو امتداد لـ”سيل الشمال 1” المُستخدم لنقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا خلال أنبوب يمر عبر بحر البلطيق، ولا توجد أي مشاكل إلا أن كل شيء توقف ببساطة! السبب؟ قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب توقيع عقوبات على أي شركة لها صلة بالمشروع لأن الولايات المتحدة ترى أنه يعزز نفوذ روسيا في أوروبا، ونتيجة لذلك قررت مجموعة Allseas السويسرية المسؤولة عن التنفيذ التوقف بعد ساعات من توقيع الرئيس الأمريكي في الـ21 من ديسمبر الماضي.
أثار الحدث سؤالًا بديهيًا: كيف يمكن للعقوبات الأمريكية أن تعرقل مشروعًا بهذه الضخامة؟ اتفاق اقتصادي بين روسيا وعدة دول أوروبية على رأسهم ألمانيا يتوقف مباشرة بعد توقيع واحد في البيت الأبيض!
يُعيد السؤال نفسه مع حقيقة أن العقوبات على إيران أخرجت 10 شركات عن العمل هناك، مسببة خسائر بمليارات الدولارات لشركات: توتال وبيجو الفرنسيتين وسيمنز الألمانية ولوك أويل الروسية وميرسك الدنماركية، فمن أين جاءت هذه القوة؟ وكيف لها أن تحدث هذا التأثير الضخم سياسيًا واقتصاديًا؟
لا يمكن فهم العقوبات وآلية عملها دون فك شيفرتين رئيسيتين: أوفاك والدولار
لنبدأ بالدولار، الدولار الآن هو عملة التداول بين الدول، ربما لم يكن الحال كذلك في القرن التاسع عشر حين كان الذهب العملة العالمية بما يعني أن قيمة عملة كل دولة تعادل ما تملكه من الذهب، لكن حدث – بعد الحرب العالمية الأولى – أن الولايات المتحدة راكمت كميات ذهب تعادل ثلاثة أرباع المعروض في العالم، وهكذا أُعلن الدولار كعملة جديدة للتداول التجاري الدولي في اتفاقية بريتون وودزعام 1944 – التي أنتجت بدورها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي – باعتبار أن ما تملكه أي دولة من الدولار يعادل ما يقابله من الذهب في خزينة الولايات المتحدة، وظل الدولار كذلك حتى بعد إعلان الرئيس نيكسون إيقاف العمل بالمعاهدة وفك ارتباط الدولار بالذهب.
إذن، يستخدم العالم عملة الولايات المتحدة الأمريكية في عمليات البيع والشراء، لذلك تحتفظ البنوك المركزية بسندات الدولار في خزائنها، والحكومات تميل غالبًا للسندات المدعومة من الحكومة الأمريكية لأنها توفر إمكانية الحفاظ على ربط أسعار الصرف، والتأمين ضد تدفقات رأس المال إلى الخارج وتسهيل التجارة الدولية، وكمحصلة لما سبق، يقود استخدام الدولار في التعاملات التجارية إلى الاحتكاك المباشر مع مؤسسات الاقتصاد الحكومية الأمريكية، وهنا يأتي دور “أوفاك” أو مكتب مراقبة ألأصول الأجنبية: “OFAC: Office Of Foreign Assets Control”، وهي مؤسسة أنشأتها وزارة الخزانة الأمريكية عام 1950، عقب التدخل الصيني في الحرب الكورية حينما أعلن الرئيس هاري ترومان تجميد كل الأصول الصينية والكورية التي تقع تحت تصرف الولايات المتحدة.
كيف تعمل العقوبات إذن؟
من خلال أمرين: تجميد الأصول البنكية الموجودة في الولايات المتحدة وتجميد أصول أي شركة أو جهة تتعامل مع الدولة أو الشخصيات التي وُضعت في لائحة العقوبات ومنعها من ممارسة أي نشاط في الولايات المتحدة سواء مع الشركات أم الأفراد وكل ما سبق تقوم به “أوفاك”.
بهذا يتم إيقاع أقصى تأثير اقتصادي بعد فقدان من هم في اللائحة إمكانية استخدام أموالهم نفسها بسبب تجميدها، يُضاف له حرمان الدولة المعاقَبة من إبرام عقود مع أي طرف خارجي لأنه سيكون معرضًا للعقوبات بدوره كما هو حاصل مع إيران، حيث عانت طهران من تجميد أصول تقدر بـ160 مليار دولار، لم تستطع استردادها إلا بعد توقيع الاتفاق النووي عام 2015 حين رُفعت عنها العقوبات الأوروبية وعقوبات مجلس الأمن والعقوبات الأمريكية.
لكن ترامب عاد وقرر في خطوة أحادية استئناف العقوبات جزئيًا مستثنيًا تصدير النفط إلى 8 دول، ثم أُلغي هذا الاستثناء اعتبارًا من سبتمبر الماضي، لتصبح الكيانات والأفراد، بما في ذلك شركات الشحن ومالكي السفن والمدراء والمشغلين وشركات التأمين والمؤسسات المالية والمشاركين في معاملات شراء أو بيع أو نقل أو تسويق النفط أو المنتجات البترولية وحتى أولئك الذين يقدمون خدمات تموين السفن للبواخر التي تنقل البترول أو مشتقاتها من إيران، معرضون لخطر استهدافهم بالعقوبات من الولايات المتحدة، بغض النظر عن موقع أو جنسية من يمارسون هذه الأنشطة، ما انعكس بآثار مدمرة على الاقتصاد الإيراني، ظهر بعض منها مباشرة، بينما سيحدث بعضها الآخر على المدى البعيد:
- هبوط نسبة النمو الاقتصادي من 12% عام 2016 إلى – 6% عام 2019!
- انهيار الريال الإيراني وفقدان 60% من قيمته في السوق غير الرسمية (وصل إلى 142 ألف ريال للدولار الواحد).
- ارتفاع نسبة التضخم إلى 40%.
- ارتفاع سعر المشتقات النفطية داخل إيران إلى 50%.
- ارتفاع كلفة السكن والخدمات الصحية إلى 20%.
انخفاض معدل النمو الاقتصادي في إيران بعد العقوبات الأمريكية
بالطبع إيران مجرد مثال على العقوبات، هناك عقوبات أخرى تختلف من حيث شدتها وتأثيرها ونوع الجهات المُعاقَبة وسبب دخولها اللائحة، يدخل فيها أفراد ومنظمات ودول تمتد على رقعة جغرافية تشمل العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا والسودان والصومال والبلقان وأوكرانيا وروسيا وبيلاروسيا وزيمبابوي ومالي وبوروندي وفنزويلا ونيكاراغوا، والقائمة تمتد لتصل إلى واحد من كل عشر دول في العالم أوما يعادل ملياري نسمة وناتج اقتصادي يصل إلى 15 تريليون دولار!
الدول المستهدفة من العقوبات الأمريكية تشمل الأفراد والمنظمات من تلك الدول
بات واضحًا الآن سبب قبول كبرى الشركات والدول الرضوخ للعقوبات الأمريكية وخسارة مليارات الدولارات، فالرفض يعني اصطدامًا مباشرًا بالنظام الاقتصادي الأمريكي وعملته التي تسير الاقتصاد العالمي نفسه وفقدان القدرة على استخدام الدولار وأي مورد في السوق الأمريكية.
لماذا ينصاع الجميع؟
هنا يبرز سؤال جديد: لماذا يقبل الجميع الانصياع من الأساس؟ ما الذي يمنع إيجاد نظام بديل يتحرر من العملة الأمريكية، نظام مالي تتفق عليه قوى مثل الاتحاد الأوروبي ورورسيا والصين تلتحق بها قافلة الدول المتضررة مما يعتبره البعض عنجهية السيطرة الأمريكية؟
هذه الفكرة، تم التطرق لها عمليًا – ولو بصورة جزئية – بعد العقوبات الأمريكية على طهران، فالدول الأوروبية المتضررة بحثت نظامًا يتم خلاله استئناف العلاقات التجارية مع إيران بعيدًا عن الدولار، لكن الفكرة وُلدت ميتة بعدما رد الأمريكيون بسخرية قائلين إنهم سيضعون النظام نفسه وكل من يتعامل فيه ضمن لائحة “أوفاك” السوداء!
لكن للمفارقة، عمّق هذا التهديد الأمريكي فكرة ضرورة إيجاد نظام مالي آخر بعيد عن الدولار وبالتالي لا يخضع للسلطة الأمريكية وهناك دول بدأت بالفعل في ذلك، فروسيا حولت 101 مليار دولار من احتياطها النقدي إلى اليورو والين الياباني واليوان الصيني، كما ازدادت نسبة التعاملات التجارية بين روسيا والصين بعملاتهم المحلية من 17% عام 2017 إلى 24% عام 2018.
هذه الخطوة ورغم أنها قد لا تعدو إلا تمرد صغير في جزء من العالم، إلا أنها ومع تحركات أخرى تشكل مؤشرًا خطيرًا، يقول مدير البرنامج الاقتصادي في مركز سياسيات الطاقة التابع لجامعة كولمومبيا الأمريكية ريتشارد نيفيو: “رغم أن الدولار سيبقى مهيمنًا بصورة أكيدة خلال الـ5-10 سنوات القادمة، لكن النظام العالمي مقبل على مرحلة لن يكون فيها الدولار الأمريكي هو العنصر الوحيد، وسياسات الحكومة الأمريكية هي ما يسرع وتيرة التحول هذه”.
يؤكد ذلك ما يتداوله خبراء من أن التصرفات الأمريكية – خاصة في ولاية ترامب – تدفع الدول الأوروبية لإيجاد بديل يقلل من حجم النفوذ الأمريكي في السياسة الدولية، وهو ما حصل في مؤتمر الدول السبعة الكبرى عام 2018 في كندا بعد نشوب خلاف بشأن عودة روسيا إلى المجموعة، الأمر الذي رفضته الدول الأوروبية، ما دفع ترامب لمغادرة الاجتماع تاركًا الأوربيين معقودي الألسن ومصممين على العمل معًا لإنهاء هذا التحكم الأمريكي، أو كما عبر عن ذلك الأمين العام للمفوضية الأوروبية مارتن سليمر قائلًا: “مغادرة ترامب في مروحيته من الاجتماع، قدحت فكرة إعادة السيادة الأوروبية من جديد، ولم يكن من جواب على تلك المعضلة السياسية إلا تعزيز الدور العالمي لليورو”.
تصاعد الخلافات الأوروبية الأمريكية الروسية الصينية قد يحدث ثغرات كبيرة بما يكفي للنفاذ من العقوبات الأمريكية
مع ذلك، لا تبدو المهمة سهلة، فرغم التململ الواضح من السياسات الفردية الأمريكية التي تطال حتى حلفاء الناتو، لم تصل الإرادة الدولية بعد لنفس الدرجة التي وصلت إليها عقب الحرب العالمية الثانية حين أصبح الدولار عملة التداول العالمي.
الحديث هنا ليس عن الرغبة فقط، إنما عن القدرة على المواجهة أيضًا، حيث يختلط ما هو سياسي بما هو اقتصادي، فليست كل الدول في العالم تستطيع أو لها نفس المصلحة الأوروبية والروسية في تحدي الهيمنة الأمريكية ناهيك عن وجود كثير من المستفيدين منها أصلًا، دون الإشارة لتلك التي تعتمد على المساعدات الأمريكية المباشرة بمختلف بأنواعها – عسكرية، اقتصادية، سياسية، لوجسيتية، إلخ -، وهو ما لا يستطيع الاتحاد الأوروبي تأمينه، على الأقل مقارنة بالولايات المتحدة. أضف إلى ذلك، وباعتبار أن مكانة العملة الأمريكية تستمد مكانتها في جزء كبير من قوة الولايات المتحدة نفسها، أن الاتحاد الأوربي ليس قوة سياسية موحدة من الأساس كي تكون بديلًا عن الدور الأمريكي. نعم قد يكون الاتحاد الأوروبي موحدًا في ضرورة تعزيز مكانة اليورو، لكنه يعاني اختلافًا كبيرًا في المصالح والمواقف: “البريكست، أزمة اللاجئين، الملف السوري، الملف الليبي” مجرد أمثلة على ذلك.
بكل الأحوال، رغم صعوبة تغيير النظام المالي الحاليّ بسيطرة الدولارعلى 62% من المدخرات فيه مقارنة مع 20% منها باليورو، فإن تصاعد الخلافات الأوروبية الأمريكية الروسية الصينية بشقيها الاقتصادي والسياسي، قد يحدث ثغرات كبيرة بما يكفي للنفاذ من العقوبات الأمريكية أو ربما تسبب ثورة تعتمد على عملة رقمية ترتبط بها العملات المحلية كما يقترح محافظ البنك المركزي البريطاني مارك كارني، ومهما يكن من أمر، يبدو أن هناك إرادةً حقيقيةً في أن يكون مستقبل العقوبات الأمريكية مختلفًا عن ماضيها: دمار اقتصادي هائل بـ”جرة قلم” في البيت الأبيض!