بعد أشهر من الاحتجاجات المستمرة ومحاولات النخب اللبنانية التحرك سريعًا لتشكيل حكومة جديدة تنقذ النظام العام القديم وتهدئ في الوقت نفسه المجتمع الدولي الذي يرفض منح بلاد تقف على حافة الكارثة أي مساعدات، قبل الوصول إلى حلول ترضى الشارع المشتغل وتحارب الفساد والمحسوبية السياسية وتعزز الشفافية، تكرست الأزمة في البلاد بعدما دخلت أمريكا على الخط، التي تقف الآن على مساحة ضغط أقرب من المواطن لحكومته، وتلوح بإجراءات قاسية قد تقلب المعادلة في البلاد، وتنهي شرعية نظام اتفاق الطائف للأبد.. ولكن كيف ولماذا وبأي أداوت ستحارب إدارة ترامب؟
لماذا يطعن الغرب في حكومة لبنان الجديدة؟
قبل الوقوف على المعركة المنتظرة بين أمريكا والحكومة اللبنانية الجديدة برئاسة حسام دياب، يجب معرفة أولًا نقاط الضعف التي تجعل الحكومة مطعونًا فيها دوليًا، وخاصة من العالم الغربي ومؤسسات التمويل التابعة له، الذين يعول عليهم في الخروج من عنق الزجاجة وتخطي الأزمة الاقتصادية الطاحنة الناجمة عن نقص الدولار، ما انعكس في النهاية على قيمة العملة المحلية، وبالتبعية التضخم وصعوبة استيراد السلع الأساسية، ومنها مستلزمات خطيرة مثل الإمدادات الطبية.
يمكن القول إن الغرب يرهن دائمًا الدعم الدولي اللازم باستعادة الاستقرار السياسي والاقتصادي للدول التي تندلع فيها الثورات والاحتجاجات على الوضع الراهن، وهي صفة لم تتوافر حتى الآن في لبنان، رغم تعيين رئيس وزراء جديد يعتبر بحسابات السياسة وأوزانها هناك “غير معروف”، تلبية لأحد مطالب الشارع الذي أشار للساسة بضرورة الرحيل جميعًا عن المشهد السياسي وتركه للتكنوقراط، وبناء دولة قانون لا محاصصة طائفية.
لكن دياب – الذي يبلغ من العمر 60 عامًا، وشغل منصب وزير التعليم في حكومة نجيب ميقاتي خلال الفترة بين عامي 2011 و2014، وهو أستاذ جامعي غير معروف وليست له جماهيرية، وجاء به الرئيس عون رئيسًا للوزراء في ديسمبر الماضي، على أمل إرضاء تطلعات المحتجين، وعهد إليه أمام العالم بتلبية الرغبات الشعبية أولًا والعمل على استرداد الأموال المختلسة ومحاربة الفساد وعمليات التربح غير المشروعة – لم يف بأحلام الشارع ولا متطلباته.
شكلت الحكومة الجديدة، قوى سياسية مؤلفة من التيار الوطني الحر و”حزب الله” وحركة أمل، ما يتعارض ليس فقط مع ما ينادي به اللبنانيون المنتفضون، بل أيضًا مع ما تطلبه الدول المانحة في إطار مساعدة لبنان، ولهذا واجهت الحكومة على الفور اتهامات من المتظاهرين بأنها مجرد واجهة وديكور للنظام القديم، فهي شبه مملوكة للأحزاب والمؤسسات، لهذا استمروا في التظاهر للإطاحة بها، وأغلقوا الطرق بإطارات محترقة واشتبكوا مع قوات الأمن أمام مدخل البرلمان.
أوصل اللبنانيون رسالة إلى العالم تفيد بفقدان ثقتهم في الطبقة السياسية برمتها، وكل ما يخرج عنها والمؤسسات التابعة لها، بما في ذلك النظام المصرفي للبلاد وأصروا على مطالبهم بإزالة النظام السياسي والاقتصادي بأكمله، ولهذا استمرت التعبئة الشعبية للإبقاء على الضغوط كاملة حتى تحقق المطالب كاملة، وخاصة أن أحد وجوه الحكومة الجديدة ظهر من قبل وخلفه الأعلام السوداء لحزب الله، وهو يضرب في شرعية الحراك ويتهمه بالعمالة.
وزير الصحة الجديد حمد حسن عم يوصف الحراك بالحراك الاسود
مبروك مبروك للثوار pic.twitter.com/9WqWVsspcv
— علي كمال زكريا (@70_660ali) January 21, 2020
جاءت الرسالة الشعبية للولايات المتحدة على طبق من ذهب، لتدخل بقوة إلى الملعب اللبناني وتحكم قبضة الخناق على مؤسسات صنع القرار هناك، تزامنًا مع تصاعد توترات جيوسياسية بين محوري التأييد والمعارضة لإيران داخل البلاد، على خلفية أزمة استهداف الولايات المتحدة لقائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني، وكان الصوت الأعلى للوجوه المحسوبة على “حزب الله” بالحكومة اللبنانية الجديدة، خاصة بعدما توارى الائتلاف السياسي الأكثر انحيازًا لأمريكا والغرب بقيادة حزب تيار المستقبل، بزعامة سعد الحريري عن رئاسة الحكومة، وأصبح يجلس الآن على مقاعد المعارضة.
تسقط حكومة المحاصصة السياسية .. ثورة ١٧ تشرين ليست مشروع صدقة واحسان ولا تعطي الفرص للفشلة والتابعين لسلطة نهبت الشعب لمدة ٣٠ عاماً #لبنان_ينتفض pic.twitter.com/8XTg9p66Df
— Ziad (@dankarz) January 22, 2020
يمكن القول إن إقحام مؤسسات السلطة في لبنان وليس “حزب الله” فقط في الأزمة بين إيران وأمريكا، بعد تنديد الرئيس ميشال عون ووزير خارجيته جبران باسيل، بالغارة الأمريكية التي أسفرت عن مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس، يجعل الحكومة الجديدة، تواجه تحديات قد تقصم عظامها، فمواجهة أمريكا في الوقت الذي لم تحصل على ثقة إيران كاملة، يفقدها القبول الإقليمي والدولي، فمن ناحية ستستغل أمريكا وجود أعضاء موالين لـ”حزب الله” في الحكومة، لضرب المساعدات الدولية سواء كانت عسكرية للجيش أم مالية للحكومة.
ومن ناحية أخرى، ستضغط أكثر حتى لا يصبح لبنان ذراع جديد لإيران في المواجهة معها، وبالتالي لن يكون بمقدور الحكومة إلا البحث عن خيارات تبعدها عن المواجهة مع أمريكا، حتى لا يتحول الجنوب تلقائيًا إلى ساحة للانتقام وتصفية الحسابات، لا سيما أن “حزب الله” يستخدم كسلاح في كل حروب إيران بالوكالة بالمنطقة، مما يعني إدخال لبنان في دوامة الاغتيال والإرهاب وعدم الاستقرار من جديد.
ثمن حضور أمريكا في المشهد اللبناني
أحضر الساسة اللبنانيون، العفريت الأمريكي إلى المشهد اللبناني بعد التدخل في الأزمة مع إيران، احتجاجًا على مقتل سليماني في غارة أمريكية على مطار بغداد، وكانت أولى الضربات الأمريكية، حث الشريك الإسرائيلي لرفع منسوب التوتر على الحدود، بعد إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو تفويض وزارة الدفاع الإسرائيلية في اتخاذ قرارات واضحة فيما يستخدم في الميدان على الحدود مع لبنان، مما يعني اندلاع حرب في أي لحظة قد لا يتحمل تبعاتها لبنان سياسيًا واقتصاديًا.
مجرد الإحساس بتحسس أقدام أمريكا في لبنان، دفع القوى الموالية للغرب للضغط على مؤسسات السلطة التابعة لحزب الله، وتجريسه سياسيًا، وسارعت القوى الداخلية لإطلاق تصريحات نارية ضد السلطة بداية من الرئيس عون واتهامهم مباشرة بتعريض الأمن القومي للبلاد للخطر، بعدما أفقدوا لبنان حياده الذي كان يحميه من الصراعات الدولية في المنطقة.
البداية الحقيقية لظهور أمريكا في المشهد وتلويحها بالتدخل الصارم ضد الحكومة، يمكن استيعابه كاملًا من مقابلة مُساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر، مع قناة الحرة الأمريكية، وأكد فيها أن بلاده تتابع عن كثب إن كانت الحكومة اللبنانية الجديدة ملتزمة بمحاربة الفساد وإخراج لبنان من أزمته المالية أم لا.
ترك الرجل الباب مفتوحًا لكل الاحتمالات، لكنه بعث ببعض الإشارات التي تؤكد أن الولايات المتحدة في طريقتها لإمطار لبنان بعقوبات اقتصادية ومالية ونقدية، ما أشار للساسة هناك إلى أن أوراق اللعبة ما زالت في يد أمريكا، مما يعني ضرورة إيجاد طريقة للتعاون معها، لأن العكس سيعني مباشرة التدمير المرحلي للاقتصاد وتهديد الأمن وإعادة الجيش عشرات السنوات للخلف بوقف مساعداته، وبالتبعية تغيير قواعد اللعبة السياسية.
الحرب النفسية التي تشنها أمريكا، جاءت بنتائجها، بعدما أصبحت أخبار الملاحقات المتوقعة حديث مواقع التواصل
بالتزامن مع مقابلة شينكر، سربت المؤسسات الإعلامية المقربة للولايات المتحدة، العديد من المعلومات والشائعات التي تفيد باحتمالية استخدام قانون “ماغنيتسكي” الدولي وهو قانون يشرعن لأمريكا ملاحقة المسؤولين الذين ارتكبوا جرائم وتجاوزات حقوقية، ويفرض عقوبات مالية ضخمة على كل من يثبت تورطه في قتل أو تعذيب المواطنين، كما يحاصر الأذرع المالية لهم، بفرض غرامات كبرى على رجال الأعمال الذين يحتفظون بأي علاقات مباشرة أو غير مباشرة معهم.
وتملك أمريكا بالطبع العديد من الأوراق والمعطيات التي تبيح لها التدخل في لبنان وفق قانون ماغنيتسكي، في ظل فرض وزارة الخزانة حرب نفسية شرسة تتمثل في الرقابة اللصيقة على عدد من الشخصيات اللبنانية، لاتهامهم بالتورط في علاقات مشبوهة مع جهات حكومية عليها عقوبات مثل سوريا وإيران، وجهات أخرى غير حكومية ولكنها مصنفة أنها “إرهابية” على شاكلة حزب الله.
الحرب النفسية التي تشنها أمريكا، جاءت بنتائجها، بعدما أصبحت أخبار الملاحقات المتوقعة حديث مواقع التواصل ووسائل الإعلام المحلية التي تنبأت بالأسماء المطاردة والمتوقع ملاحقتها في أعلى مراتب صنع القرار، مما يعني أن استهدافها قد يحدث إرباكًا كبيرًا على المستوى السياسي، وإجبار البلاد تحت ضغط العقوبات الاقتصادية والمالية على حزب الله على إقصاء الحزب عن الجهاز المصرفي وحظر التعامل معه، من رجال أعمال وكيانات في لبنان وخارجها، وهو إجراء كفيل بحرق البلاد، فالحزب لن يترك مواقعه مهما كانت التحديات التي أدخل نفسه فيها وهو يعلم جيدًا من البداية كم تبلغ تكلفتها!