شهد مطار عنتيبي بأوغندا يوم 4 يوليو/تموز 1976 معركة حامية الوطيس بين القوات الخاصة الإسرائيلية ومقاتلين فلسطينيين وألمان اختطفوا طائرة فرنسية وارتهنوا ركابها الإسرائيليين، وانتهت العملية بمقتل المختطفين و3 رهائن إلى جانب جنود أوغنديين وضابط إسرائيلي يدعى جوناثان، وبعد 44 عامًا شهدت عنتيبي لقاء بنيامين نتنياهو، الأخ الأصغر لذلك الضابط، برئيس المجلس السيادي السوداني الجنرال عبد الفتاح البرهان، في لقاء مليء بالرموز على شاطئ بحيرة فكتوريا!
حزب الأمة والتواصل الأول
اشتهرت الخرطوم أنها عاصمة اللاءات الثلاث نسبة لمؤتمر القمة الرابع لجامعة الدول العربية في 29 أغسطس/آب 1967 على خلفية هزيمة يونيو/حزيران 1967، وأصبحت تلك اللاءات “لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض” محددًا لطبيعة العلاقة مع “إسرائيل”، غير أن ذلك لا ينفي وجود اتصالات بين شخصيات سودانية، منهم رسميون ،وإسرائيليين سابقة بدأت حتى قبل استقلال السودان عام 1956.
ففي 17 يونيو/حزيران 1954 جمع العداء لمصر عبد الناصر وفدًا ضم سيد الصديق المهدي الابن الأكبر لزعيم حزب الأمة، أحد أكبر الأحزاب السودانية حينها، ومحمد أحمد عمر نائب الأمين العام للحزب بمسؤولين إسرائيليين في سفارة بلادهم في لندن، وأكد الأخير قلق السودان من محاولات مصر لزيادة نفوذها في السودان، و”أن مصالح السودانيين الذين يتمسكون باستقلال السودان تتماهى مع مصالح إسرائيل”.
يؤكد حزب الأمة أن اللقاء في السفارة الإسرائيلية في لندن كان بمبادرة ذاتية من عناصر حزبية دون تكليف من الحزب
امتدت هذه العلاقة إلى عام 1958 وشهدت زيارة مسؤول رسمي سوداني لتل أبيب سرًا في أغسطس/آب 1956، بحسب وثائق إسرائيلية أخفت اسمه، وتوافقًا على قرض إسرائيلي وخطط اقتصادبة لدعم حزب الأمة.
غير أن العلاقة بين الطرفين بلغت ذروتها باجتماع سري وسمي في باريس عام 1957 ضم كلًا من غولدا مائير ورئيس الوزراء السوداني وسكرتير حزب الأمة عبد الله خليل، قبل أن تنقطع العلاقة بانقلاب الجيش بقيادة الجنرال إبراهيم عبود على الحكومة مقتربًا من السياسة المصرية.
وللمفارقة فالحزب الذي ينفي هذه المعلومات ويؤكد أن اللقاء في السفارة الإسرائيلية في لندن كان بمبادرة ذاتية من عناصر حزبية دون تكليف من الحزب، هو الحزب الذي تنقل تقارير صحفية أن زعيمه الصادق المهدي صافح شمعون بيريز مرتين عامي 2005 و2007!
النميري والطريق إلى “موشيه”
شهدت العلاقات بين الطرفين محطة أخرى في عهد الرئيس محمد جعفر النميري الذي التقى بإسرائيليين بوساطة من رجل الأعمال وإمبراطور السلاح السعودي عدنان خاشقجي، في لقاء نظمه الأخير في الخرطوم جمع 5 إسرائيليين بالرئيس النميري أواخر 1979، تلاه لقاء في نيويورك بين النميري ويغال يدين نائب رئيس الحكومة الإسرائيلية، واجتماع في كينيا بين شارون وزير الدفاع الإسرائيلي والنميري ورئيس مخابراته عمر الطيب.
وكشفت مراجع إسرائيلية ومحاكمات ما بعد ثورة 1985 في السودان عن تورط النميري وبعض أركان نظامه في تهريب عشرات الآلاف من يهود إثيوبيا المعروفين بالفلاشا من موطنهم الأصلي إلى “إسرائيل”، في رحلات متتابعة تضمنت محطات داخل السودان انتهت بمنتجع سياحي على شاطئ البحر الأحمر، أو بمطار الخرطوم الدولي حيث نقلتهم السفن والطائرات إلى تل أبيب، فيما عرف بعملية “موشيه”.
صورة تجمع الرئيس السوداني جعفر النميري ووزير الدفاع الإسرائيلي حينها آرييل شارون وإمبراطور السلاح عدنان خاشقجي في كينيا 1982
الإنقاذ و”إسرائيل”..عدو ما من صداقته بدُّ
رغم ما أعلنه البشير في نوفمبر/تشرين الثاني 2012 بأن التطبيع مع “إسرائيل” خط أحمر، عقب ما نسب للأخيرة من مهاجمة مصنع أسلحة في قلب الخرطوم، فقد كشفت تسريبات ويكليكس عن لقاء جمع عام 2008 مصطفى عثمان إسماعيل، مستشار الرئيس السوداني حينذاك، وألبرتو فرنانديز، الممثل الأمريكي الأعلى في الخرطوم، وذلك وفقًا لبرقية دبلوماسية أمريكية كشفتها ويكيليكس في عام 2011.
وورد في البرقية أن إسماعيل قال “إذا سارت الأمور على ما يرام مع الولايات المتحدة ، فقد تتمكن من مساعدتنا مع “إسرائيل”، لأنها أقرب حلفائك في المنطقة”. لكنه أنكر صحة هذا لاحقًا قائلًا إن السودان يرفض كلية التعاون مع “الكيان الصهيوني”.
وفي أبريل/نيسان 2012 صرح والي ولاية القضارف السابق كرم الله عباس الشيخ أنّ هناك تيارًا داخل حزب المؤتمر الوطني الحاكم يوافق على التطبيع مع إسرائيل. وقد علّق حزب المؤتمر الحاكم على هذا التصريح بأنه مجرد رأي شخصي. كما سبق أن طالب والي النيل الأبيض ورئيس لجنة الاستثمار والصناعة بالبرلمان سابقًا، عبد الحميد موسى كاشا، بالتطبيع مع “إسرائيل”، قائلًا: “ما دمنا قد قبلنا بأميركا فلنقبل بإسرائيل؟”.
وفي منتصف يناير/كانون الثاني 2016 صرّح وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور أنّ السودان يمكن أن يدرس مسألة التطبيع مع “إسرائيل”. وقد جاء هذا الحديث إثر الأنباء التي أوردتها وكالة السودان للأنباء “سونا”، وهي الوكالة الحكومية الرسمية، أنّ مسألة التطبيع مع “إسرائيل” موضوعة ضمن جدول أعمال لجنة العلاقات الخارجية لمؤتمر الحوار الوطني السوداني، كما جاء في خبر “سونا” أنّ أغلبية أعضاء لجنة العلاقات الخارجية بمؤتمر الحوار الوطني يوافقون على إقامة علاقات “مشروطة” مع “إسرائيل”.
ورغم نفي مسؤولين سودانيين كبار لمناقشة التطبيع في اجتماعات الحزب فإن مراقبين يرون أن المقصود كان إدخال موضوع التطبيع ضمن النقاش العام في البلاد، وتهيئة الشارع الرافض في سواده الأعظم له لتطورات سيشهدها هذا الملف، في حين اعتبر البعض أن التصريحات المرحبة بالتطبيع ، ولو كان مشروطًا، رسائل مبطنة تغازل تل أبيب.
وشهد مساء 21/8/2018 إعلان وزير الاستثمار السوداني مبارك الفاضل المهدي، وهو على رأس وزارته، في لقاء على قناة سودانية 24، أنه يدعم تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، مدعيًا أن من شأن ذلك أن يحقق مصالح السودان.
وكان الداعية يوسف الكودة، رئيس حزب الوسط الإسلامي في السودان، سبق المهدي في تأكيد أن السودان “قد تضرر كثيرًا من مقاطعته لإسرائيل” وأنه لا مانع شرعي في رأيه من تطبيع العلاقات مع الأخيرة، وذلك في محاضرة ألقاها في الخرطوم تحت عنوان “العلاقات مع “إسرائيل” من المنظور الديني” في مارس/آذار 2017 ناقلًا النقاش حول التطبيع من الحيز السياسي إلى الحيز الديني.
تزامن كل هذا الضجيج حول التطبيع مع ما ذكره موقع “إسرائيل” ناشيونال نيوز في مادة منشورة في 2/11/2018 أن بروس كاشدان المبعوثً الخاصً لوزارة الخارجية الإسرائليلة التقى في إسطنبول بمسؤولين كبار في الحكومة السودانية في محاولة لتجديد الحوار بين الطرفين والذي كان شهد أولى جولاته العام الماضي. ووفق الموقع فإن الناطق باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية لم ينف حدوث ذلك ولكنه “رفض التعليق”.
والملاحظ أن نشر هذا الخبر تزامن مع زيارة زيارة الرئيس التشادي إدريس ديبي إلى تل أبيب في نوفمبر 2018 منهيًا قطيعة استمرت 42 عامًا، وسربت القناة الثانية الإسرائيلية على أعقابها تخطيط نتيناهو لتقوية العلاقات مع السودان جارة تشاد، ما فُهم منه وجود وساطة تشادية بين الخرطوم وتل أبيب. وتلا ذلك تلميحات متكررة عن وجود تطورات في هذا الملف.
تحولات سودانية ومصالح إسرائيلية
لطالما كانت العلاقات بين نظام الإنقاذ وتل أبيب عدائية حيث كانت الخرطوم حليفًا وثيق الصلة بإيران ومحورها، وتعرضت نتيجة ذلك لضربات جوية يعتقد أنها إسرائيلية متكررة بزعم تحولها إلى ممر لتهريب السلاح الإيراني حركة إلى حماس في غزة وحزب الله في لبنان.
غير أن عام 2015 شهد نقطة تحول في السياسة الخارجية السودانية بابتعادها عن محور طهران ودخولها الحلف السعودي في اليمن بشكل مباشر عبر قوات الدعم السريع السودانية التي تقاتل داخل الأراضي اليمنية، ثم قطع العلاقات نهائيًا في مطلع عام 2016، وقد كانت موعودة في المقابل برفعها من لائحة الإرهاب الأمريكية ورفع العقوبات الأمريكية التي أنهكت الاقتصاد السوداني، وهو وعد تحقق جزئيًا، في مسعى على ما يبدو لمواصلة الضغط الأمريكي على النظام في الخرطوم.
هذه الانعطافة لم تغب عن العين الإسرائيلية حيث تذكر هآرتز في سبتمبر/أيلول 2016 أن “إسرائيل” لجأت إلى الولايات المتحدة والعديد من دول الاتحاد الأوروبي وشجعتهم على تحسين علاقاتهم مع السودان واتخاذ خطوات تجاهه ، لا سيما في المجال الاقتصادي.
يقدم اللقاء فرصة لدعاية نتنياهو بإنجاز خارجي جديد، بعد إعلان صفقة القرن بأيام
وتذكر مواقع إسرائيلية أن اللقاءات السودانية الإسرائيلية شهدت تقدمًا في أواخر عهد الإنقاذ لكن نتنياهو كان مترددًا في السير إلى شوطها النهائي، غير أن بروز المجلس العسكري الحالي وتحالفاته ضمن ما ما يسمى “محور الاعتدال العربي” قد شجعته على اتخاذ هذه الخطوة.
ورغم أن مصالح “إسرائيل” من تطبيع العلاقات مع السودان تتضمن ملفات أمنية واقتصادية وسياسية، فهناك من يرى أن هذه الخطوة ترمي الآن لفتح الأجواء السودانية أمام الرحلات الجوية القادمة من أمريكا اللاتينية إلى “إسرائيل”، مما سيؤدي إلى تخفيض عدد ساعات طيرانها بمعدل 4 ساعات تقريبًا، وهو مشروع تدخل فيه دول أفريقية أخرى كذلك.
ووفق ما يرى البعض فإن هذه الخطوة ليست بعيدة عن الانتخابات الإسرائيلية التي ستنعقد في الشهر القادم، حيث يقدم اللقاء فرصة لدعاية نتنياهو بإنجاز خارجي جديد، بعد إعلان صفقة القرن بأيام، كما أن تطبيع العلاقات سيسمح لتل أبيب بإعادة آلاف اللاجئين السودانيين إلى “إسرائيل”، والذين يشكلون نحو خمس العمالة غير المسجلة فيها، وهي خطوة ستلقى الكثير من الترحاب بين مؤيدي نتنياهو. حيث كان يجادل هؤلاء اللاجئون أنهم سيواجهون عقوبات في حل العودة إلى السودان باعتبار “إسرائيل” دولة معادية يُمنع السفر إليها.
ويربط مراقبون الإعلان عن ترتيب إماراتي للقاء بانكشاف السودان أيضًا أمام الضغط الخارجي وأن دولًا نافذة فيما يسمى “محور الاعتدال” ضغطت على البرهان للقاء نتنياهو بزعم مساعدة ذلك على رفع السودان من قائمة الإرهاب، كما ضغطت على الخرطوم سابقًا حين أجرى عمر البشير أول زيارة لرئيس عربي إلى سوريا أواخر 2018، وما تلاها من فتح سفارة الإمارات والبحرين في دمشق، فهل يكون اللقاء مقدمة لتطبيع علني بين أبو ظبي والرياض و تل أبيب؟