يحتفل الشعب الصيني في نهاية كل شهر يناير/ كانون الثاني ببداية عامهم القمري، وهو تقليد تتوارثه الأجيال منذ مئات السنين، لكن هذه السنة لم يدرك الصينيون ماذا يخبأ القدر لهم، فبدلًا من استقبال العام الجديد بالاحتفالات والأمنيات السعيدة، استقبلوه بفيروس فتاك حوّل مدناً بأكملها إلى مدن أشباح.
بدأ تفشي CoronaVirus في سوق المواد الغذائية في مدينة ووهان في الصين، ثم انتقل إلى مختلف المدن الصينية، وما لبث أن بدأ بالتوجه إلى مختلف أصقاع الأرض.
الخطوة الأولى في مكافحة الأمراض المعدية
تتمثل الخطوة الأولى في مكافحة الأمراض هي سرعة الإبلاغ عنه والتحذير منه، ولا يتمتع المسؤولون الصينيون بسجل جيد في تبادل المعلومات حول الأمراض أو تلوث الهواء أو الكوارث الطبيعية. لكن وكما يقال بعض الشرِّ أهون، كان تعامل الحكومة الصينية مع هذا الوباء الجديد أفضل بكثير من الأمراض السابقة التي هاجمت الصين ومدن العالم.
إذ يذكر أن في سنة 2002 و 2003 تكتمت الحكومة الصينية عن تفشي مرض السارس الذي أودى بحياة أكثر من 740 شخصًا حول العالم.
عمومًا، عند ظهور مرض غامض لأول مرة، قد يكون من الصعب على الحكومات ومسؤولي الصحة العامة جمع المعلومات بسرعة وتنسيق الاستجابة، لكن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي الجديدة يمكن أن تنقح تلقائيًا البيانات من خلال التقارير الإخبارية والمحتوى عبر الإنترنت من جميع أنحاء العالم، مما يساعد الخبراء في التعرف على الحالات الشاذة التي يمكن أن تؤدي إلى وباء محتمل أو ما هو أسوأ من ذلك.
دور التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في مكافحة الأوبئة
بفضل الابتكارات الحديثة في التقنيات المتقاربة مثل الحوسبة المحمولة والاتصالات المتنقلة والإنترنت عريض النطاق، أصبح من الممكن تجربة عدد من الأساليب المبتكرة للاستجابة الوبائية، إلا أن التكنولوجيا لا يمكنها وقف انتشار الوباء، لكن بإمكانها تثقيف وتحذير وتمكين أولئك الموجودين على أرض الواقع والذين يحتاجون إلى أن يكونوا على دراية بمعطيات الوضع الراهن للحد من تأثير الوباء.
في عصر الذكاء الاصطناعي، هناك فرصة هائلة للتكنولوجيا من أجل التدخل لمساعدتنا في مراقبة هذا النوع من الأوبئة والسيطرة عليها، وهنالك أدوار كبيرة قامت بها، وهي:
ابتكار لقاحات وأدوية جديدة
يساعد الذكاء الاصطناعي في البحث عن أدوية جديدة في حالة الأوبئة، وبالفعل أثبت نجاحه في اكتشاف أدوية لأمراض فتّاكة في الماضي مثل، علاجات لأنواع مختلفة من السرطانات كـ “سرطان الثدي”.
نظرًا لأن الفيروس يمكن أن يتحور، فإن فهم أصول هذه الطفرات يمكن أن يفتح مفتاح الفيروس
ليس فقط الأدوية للأمراض، ولكن اكتشاف المسبب لهذه الأمراض، فمثلاً تم استخدامه لتحديد الحشرات التي تنشر “داء شاغاس“، وهو مرض عضال ومميت يحتمل أن يصيب ما يقدر بنحو 8 ملايين شخص في المكسيك وأمريكا الوسطى والجنوبية .
حاليًا، ستمكّن منصات تشخيص “Sherlock” للعلوم البيولوجية التي تستخدم برنامج CRISPR الكشف السريع عن المرض. ففي الأيام القليلة الماضية فقط، قام الباحثون جميعًا بفحص جينوم الفيروس التاجي للبحث عن إجابات، نظرًا لأن الفيروس يمكن أن يتحور، فإن فهم أصول هذه الطفرات يمكن أن يفتح مفتاح الفيروس.
نمذجة الأمراض المعدية
مع تقدم العلوم الحاسوبية، أصبح من الممكن تطوير مناهج وأنظمة محاكاة للأوبئة، وعلى ذلك تتطلب النمذجة إدخال بيانات مفصلة لكل فرد من السكان المصابين لوصف الوباء بشكل كامل، إذ تساعد النمذجة الحاسوبية في فهم دور أنماط تطّور الأوبئة، وهي أداة مهمة في تقييم كل من الأوبئة السابقة والحالية وتصميم التدخلات المناسبة للأمراض في المستقبل.
تكنولوجيا الاستشعار عن بعد
يمكن أن يكون استخدام تقنية الاستشعار عن بعد لرصد التغيرات البيئية مفيدًا في التنبؤ بالأمراض، وذلك بواسطة استخدام التصوير بالأقمار الصناعية لجمع معلومات عن درجة حرارة البحر وارتفاع سطحه ومستويات الكلوروفيل، تمكن الباحثون من بناء نموذج بيئي يمكنه التنبؤ بدقة بمعدل الإصابة الفعلي لتفشي الكوليرا في بنغلاديش، والملاريا في أفريقيا.
يمكن أن يؤدي استخدام هذه البيانات في النمذجة الرياضية التنبؤية إلى توليد تحذيرات مبكرة لتدخلات الصحة العامة التي تهدف إلى التخفيف من الوباء.
تحليل منشورات وسائل التواصل الاجتماعي
يقدم تحليل البيانات التي تم جمعها من خلال تطبيقات الوسائط الاجتماعية فرصًا جديدة في مراقبة الأمراض المعدية الناشئة، فقد أطلقت إدارة الصحة العامة في شيكاغو “Foodborne Chicago” برنامجًا لمراقبة وسائل الإعلام الاجتماعية لمراقبة الأمراض التي تنقلها الأغذية، باستخدام خوارزمية لتحديد المدخلات في Twitter ذات الصلة بالتسمم الغذائي.
بيانات الهواتف المحمولة
يستخدم الباحثون الهاتف المحمول لمراقبة الأمراض المعدية، إذ طور الباحثون في سريلانكا نظام مراقبة يعتمد على الهواتف المحمولة لمراقبة صحة الحيوانات، حيث تسمح الهواتف المحمولة بمشاركة المعلومات في اتجاهين، إما بهدف استخدامها لجمع البيانات لأغراض المراقبة، أو لنشر معلومات عن الصحة العامة للجمهور.
التنبؤ بالأمراض
يطور عدد متزايد من العلماء طرقًا لاستخدام الذكاء الاصطناعي (AI) للتنبؤ بانتشار الأمراض المعدية قبل حدوثها. على الرغم من أن العملية معقدة للغاية، فإن التنفيذ الناجح للنمذجة التنبؤية يمكن أن يمثل قفزة كبيرة إلى الأمام في الكفاح لتخليص العالم من بعض الأمراض المعدية الأكثر فتكاً.
ولعلّ “Bluedot” هي واحدة من أكبر المحاولات الناجحة في التنبؤ والتي اكتشفت “فيروس كورونا” وتنبأت به قبل الجميع.
ما هي الـ Bluedot؟
شركة ناشئة في تورونتو، بكندا، أسسها كمران خان، وهو أخصائي الأمراض المعدية في المستشفيات في تورنتو، والذي كان يعمل خلال وباء السارس عام 2003.
كان لدى خان حلم بإيجاد طريقة أفضل لتتبع الأمراض، فطور هو ومجموعة من الأطباء والمبرمجين منصة تحمل اسم الشركة وتعمل بخوارزميات الذكاء الاصطناعي تعمل على تحليل مليارات نقاط البيانات.
بمجرد اكتمال عملية غربلة البيانات الآلية، سيتولى التحليل البشري زمام الأمور
بعد اختبار العديد من البرامج التنبؤية، أطلق خان BlueDot في عام 2014 وجمع 9.4 مليون دولار لتمويل المشروع.
لدى الشركة الآن 40 موظفًا – أطباء و مبرمجون ابتكروا برنامج تحليل مراقبة الأمراض، والذي يستخدم أساليب معالجة اللغة الطبيعية والتعلم الآلي للتفتيش على التقارير الإخبارية بـ 65 لغة في أكثر من 100000 مقال ينشر يومياً عن الأمراض، إلى جانب بيانات شركات الطيران وتقارير تفشي الأمراض الحيوانية.
كيف تعمل؟
يتحقق علماء الأوبئة من أن الاستنتاجات منطقية من وجهة نظر علمية، ثم يتم إرسال تقرير إلى عملاء الحكومة وقطاع الأعمال والصحة العامة. بعد ذلك، يتم إرسال تقارير BlueDot إلى مسؤولي الصحة العامة في أكثر من عشر دول (بما في ذلك الولايات المتحدة وكندا) وشركات الطيران ومستشفيات الخطوط الأمامية حيث قد ينتهي المطاف بالمرضى المصابين.
تنبأت BlueDot بنجاح في بداية انطلاقها بموقع تفشي فيروس Zika في جنوب فلوريدا. وفي الوباء الأخير، نبهت المنصة عملائها بتفشي فيروس كورونا في 31 ديسمبر، أي قبل الإخطارات المقدمة من منظمة الصحة العالمية والمراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها.
كما تنبأت بشكل صحيح بأن الفيروس سيقفز من ووهان إلى بانكوك وسيول وتايبيه وطوكيو في الأيام التالية من ظهور المرض.
شركة Metabiota
على غرار منصة خان، طورت شركة Metabiota لرصد الأوبئة أن تايلاند وكوريا الجنوبية واليابان وتايوان كانت لديها أعلى مخاطر لرؤية الفيروس، ونشرت المنصة تحذيرها قبل اسبوع من ظهور أولى الحالات.
يوضح Mark Gallivan، مدير علم البيانات في Metabiota، أن المنصات والمنتديات عبر الإنترنت يمكنها أيضًا أن تعطي مؤشراً على وجود خطر حدوث وباء.
ختامًا، على مدار العقود الأربعة الماضية، أعدنا بناء اقتصادنا للتركيز على المدن الكبرى والسفر الجماعي وسلاسل التوريد التي تنتشر في جميع أنحاء العالم. إذ يجعلنا هذا النظام أكثر ثراءً من أي جيل في تاريخ البشرية، لكنه يجعلنا أيضًا ضعفاء بشكل غير عادي.
ويمكن للأمراض الناشئة تخطي القارات قبل أن نعرف أنها موجودة، مما يتيح لنا القليل من الوقت للاستعداد أو التصدي، وعندما نواجه فيروسًا خارج عن السيطرة وربما قاتلًا في الحياة الواقعية، لا يسعنا إلا أن نتساءل عما إذا كانت حضارتنا التي تبدو صلبة ليست أكثر هشاشة مما تظهر عادة.