“لبيتٌ تخفق الأرواح فيه أحبّ إليّ من قصر منيف”، هذا البيت الذي أنشدَته ميسون الكلبية من شرفة قصرها المطل على غوطة دمشق، والذي بناه لها زوجها معاوية بن أبي سفيان بعد أنْ نقلها من مضارب أهلها من بدو الشام إلى دمشق. ربما كانت لتغيّر رأيها فيه لو اضطرّت للعيش في إحدى خيم النازحين شمال سوريا اليوم، والتي لا تقتصر مصائب قاطنيها على “الرياح” التي تعصف بها، أو مياه الأمطار التي تُغرقها، أو حتى اشتداد البرد والحرارة مع تعاقب الفصول عليهم!
فبعض أعمار المخيمات التي تنتشر على طول الحدود الشمالية الغربية لسوريا مع تركيا اليوم تصل إلى ثمانية سنين، وُلِد فيهنّ جيل كامل لا يعرف معنى جدار يسند ظهره إليه، ولم يعتاد قط على الخصوصيّة والمساحة الشخصية، في منزل يفصله عن “الشارع” قماش خيمة لا تخفي صوتاً، ولا تحفظ ستراً.
إذاً ما الذي يُبقي الناس في المخيمات؟
يجيب “أبو عبدالله” من أهالي حيّ الصاخور في مدينة حلب، وأحد أقدم قاطني مخيمات الشمال في مخيم باب السلامة قرب مدينة إعزاز في ريف حلب الشمالي، والذي ترك مع عائلته منزله بعد حملة البراميل المتفجّرة التي قصف بها نظام الأسد المدينة بدايات عام 2013: “لمّا طلعنا من حلب ما كان معانا شي، إجينا عالمخيم عأساس فترة مؤقتة لبين ما نضبط وضعنا، حاولت لاقي شغل هون بس ما لقيت، وما عندي راس مال أفتح مصلحة، مشان هيك بقينا بالمخيم.. لأن إذا طلعت من هون وين بدي أسكن؟ ومن وين بدي ادفع الآجار؟”
هي قلّة ذات اليد إذاً ما يبقي “أبو عبدالله” وآلاف النازحين في تلك المخيّمات، خاصة وأنّ استئجار منزل في أيٍّ من مدن وبلدات الشمال الآمنة نسبيّاً يحتاج مبالغ كبيرة لا يملكها أكثر النازحين، مع غياب فرص العمل والتراجع الكبير في دور منظمات المجتمع المدني العاملة في المجال التنموي.
النازحون والمخيمات
تشير إحصاءات الأمم المتحدة إلى وجود 6.2 مليون نازح في سوريا، والنّازح في سوريا غالباً هو شخصٌ يغادر منطقته إلى أخرى هرباً من القصف أو الاشتباكات أو خشية الاعتقال، وفيما أشرفَت الأمم المتحدة على تمويل العديد من المخيمات في الداخل السوري بمبالغ طائلة منذ بدء أزمة النزوح، إلا أنها تدعم هذه المخيمات ضمن شروطها الخاصة، حيث تحصُر تمويلها ودعمها لإنشاء المخيّمات التي يكون فيها مأوى النازح “خيمة”، فيما ترفض دعم إنشاء أي نوع من المخيمات تُبنَى فيها غرف سكنية بالحجارة!.
فبحسب “هبة محمد” الموظفة السابقة في الأمم المتحدة، فإن الأمم المتحدة ليس لديها رفضٌ مبدئي لفكرة بناء أماكن إيواء بالحجارة، لكنّ سبب إحجامها عن ذلك في سوريا هو عدم وجود تمويل لديها لمثل هذا النوع من الأعمال، فالجهات المانحة للأمم المتحدة لا تدعم فكرة بناء مخيمات بمواد بناء حجرية وأكثر ثباتاً لعدة أسباب، أهمها عدم استقرار المنطقة في الشمال السوري، حيث يمكن أن تتعرض هذه المناطق بعد إنجاز الأبنية للقصف مما سيؤدي إلى تدميرها، إضافة إلى وضع الجهات المانحة لفكرة التغيير الديمغرافي بالحسبان، حيث سينتُج عن توطين النازحين في المناطق الجديدة دعم لفكرة تغيير بنية المجتمع السوري في المناطق التي ينزح منها الناس، والمناطق التي يتوجّهون إليها على حد سواء.
أطلق فريق ملهم التطوعي منذ أشهر مشروعهم الأول لبناء مخيّم بجدران حجرية، تم فيه بناء 320 غرفة استفاد منها نازحوا منطقة كفرنبل في مخيم “باريشا”.
ولهذا تركز الأمم المتحدة جهودها في التعامل مع أزمة النزوح من خلال دليلها للاستجابة الإنسانية، والذي يقسِّم عملها في الأزمات الشبيهة إلى ثلاث مراحل هي: (استجابة الطوارئ) التي تُعتبَر المرحلة الحالية في سوريا، والتي تركِّز فيها الأمم المتحدة جهودها على تأمين أساسيات العيش مثل الطعام والمياه والدواء والصرف الصحي….إلخ، ثم تأتي بعدها مرحلة (التعافي المبكّر) والتي لا يمكن أن تتم قبل توجّه الأمور لحالة من التهدئة في البلاد، حيث يتم فيها التحضير للمرحلة القادمة من خلال العمل على إعادة الناس إلى مناطقهم وتأمين فرص العمل، وبعد أن يُنجَز اتفاق سياسي في البلاد تتوقف فيه الأعمال العسكرية تنطلق المرحلة الثالثة باسم (التنمية)، وهي المرحلة التي يتم فيها العمل على البناء ضمن عملية إعادة الإعمار.
مَقسَم وغرفة بدل الخيمة
أطلق فريق ملهم التطوعي منذ أشهر مشروعهم الأول لبناء مخيّم بجدران حجرية وسقف من شادر قماشي، والذي تم فيه بناء 320 غرفة على أرض مستأجرة، حيث استفاد من المشروع نازحوا منطقة كفرنبل في مخيم “باريشا” في ريف إدلب، كما يقوم الفريق حالياً بتنفيذ المشروع الثاني في المنطقة نفسها، لكن بعد أن قاموا بشراء الأرض، وتقسيمها إلى مقاسِم مساحة كلّ منها 50م2، تبنى في كلّ منها غرفة بمساحة 16م2 لكل عائلة مع منتفعات مشتركة، إضافة إلى وجود حالات أخرى يتم فيها بناء الغرف بمساحات أكبر (24-32)م2 مع منتفعات خاصة، فضلاً عن استصلاح الأرض وبناء سوق تجاري ومدرسة ومسجد ونقطة طبية، ليصبح المشروع أشبه بقرية صغيرة.
والفكرة الجديدة هنا هي أنّ فريق ملهم يقوم في مشروعه الجديد، بتمليك كل عائلة مقسَماً مع بناء يؤويهم، بحيث يتمكّنون مستقبلاً من توسعتها أو تطويرها حسب قدرتهم وحاجتهم، ويتم اختيار المستفيدين من المشروع من العوائل الأكثر حاجة سواء من فاقدي المعيل أو الذين يضمّون بين أفرادهم حالات طبية حرجة.
يعتبر عاطف نعنوع، مدير فريق ملهم التطوعي أنّ سياسة تعامل الأمم المتحدة مع أزمة النزوح في سوريا “أمر مؤسفاً وغير منطقي”.
ويعتبر “عاطف نعنوع” مدير فريق ملهم التطوعي أنّ سياسة تعامل الأمم المتحدة مع أزمة النزوح في سوريا “أمر مؤسف وغير منطقي”، فالأمم المتحدة نفسها التي تتذرّع بحُجّة “التغيير الديمغرافي” هي نفسها من رعت اتفاقيات تهجير جماعي في كثير من المناطق السورية التي سيطر عليها النظام مع حلفائه الروس والإيرانيين!، ويضيف بأنّ هناك أشخاصاً في سوريا يعيشون في مخيمات منذ ما يقارب العقد من الزمن، وهذا عمر كامل وليس ظرفاً مؤقتاً، بل أنّ جيلاً كاملاً وُلِد ونشأ اليوم في هذه المخيمات.
وفي المحادثة التي حدّثَنا فيها عاطف عن مشروعهم بإسهاب، أخبرنا أنّ تحول الخيم إلى جدران مبنية بالطوب المُصنَّع هي عملية يقوم بها الناس في المخيمات بشكل فردي منذ أعوام، لكن لا يستطيع الجميع تحمل تكلفة هذا التغيير، إذ يأتي مشروعهم استجابةً لحاجات قاطني المخيمات أنفسهم، فضلاً عن فرص العمل التي يخلقها المشروع بالنسبة لمُصنِّعي الطوب من سكان المنطقة ولقاطني المخيمات الذين يعتمد المشروع عليهم بتأمين العمالة اللازمة للمشروع.
كلفة بناء الغرفة بمساحة 16م2 فهي 250$ جاهزة للسكن، لتصبح كلفة إيواء عائلة.
فيما كانت المفاجأة بأنّ تكلفة المقسَم الواحد هي 250$ تقريباً، أما كلفة بناء الغرفة بمساحة 16م2 فهي 250$ جاهزة للسكن، لتصبح كلفة إيواء عائلة في غرفة مبنية على أرض يتملكُّونها 500$، وذلك في الوقت الذي تصل فيه كلفة الخيمة عند الأمم المتحدة إلى ما يقارب 600$ شاملة لمستلزمات الخيمة الأساسية!
تُعلِّل “هبة محمد” سبب ارتفاع كلفة الخيمة مع مستلزماتها التي تحوي (طرد أساسيات النزوح – طرد المواد غير الغذائية – طرد الصحية – طرد المستلزمات النسائية – طرد المعونات الشتوية) بسبب عمليات الشراء الخارجي وكلفة النقل، حيث تشتري الأمم المتحدة المواد حصرياً من خلال منظمة الهجرة العالمية IOM، وذلك تجنّباً للفساد والمحسوبيّات، وابتعاداً عن الدخول بهوامش تجاوزٍ للقوانين النّاظمة لعملهم كالتعامل مع جهات تشملها عقوبات دولية مثل النظام السوري، أو شراء التجهيزات محلياًّ والتي يمكن أن يستفيد منها بعض التنظيمات المصنّفة إرهابية.
كما تُراعي الأمم المتحدة لائحة من المعايير والشروط يجب توافرها في المواد المشتراة، وهو ما يدفعها للتعامل مع عدد محدود من المورّدين.
مشاكل مستقبلية
ترى “سوسن أبو زين الدين” المهندسة المعمارية المتخصّصة بتخطيط التنمية العمرانية أنّ لا أحد من حقه أنْ يقول للعائلة النازحة أين يجب أن تقيم، فذلك حقها وحدها، خاصة مع كثرة الحالات التي تحولَت فيها مخيمات النزوح إلى مواطن إقامة دائمة مثل مخيم اليرموك الفلسطيني في سوريا وغيره كثير، لذلك الحديث عن “التهجير الديمغرافي” كحجة لعدم دعم إيواء النازحين بمنازل ليس مقبولاً.
لكنّ المشكلة الحقيقية التي تراها في مشروع كمشروع فريق ملهم هي تناقل الملكيات في سياق غياب الضابط والحقوق المعترف عليها، فالأرض التي كانت ملكيّتها سابقاً لشخص أو أكثر ستؤول ملكيّتُها إلى 300-400 شخص الآن، حيث تشكِّك أنّ طرق توثيق عمليات انتقال الملكية الحالية سواء عن طريق محكمة محلية أو شهود، يمكن أنْ تحفظ حقوق الجميع بعد الانتقال من الحالة المؤقتة الحالية إلى حالة مستقرّة مستقبلاً، فقد تصبح العقود المبرمة حالياً غير مقبولة حينذاك، ولا يمكن التعويل على أخلاقيات المجتمع لحفظ الحقوق، فمن يضمن أنّ صاحب الأرض لن يأتي مستقبلاً بادعاء أنه لم يقم ببيع الأرض؟ أو لن يقوم ببيعها مرة أخرى؟
إنّ لدى فريق ملهم دوافع كثيرة محقّة لإطلاقهم مبادرة جريئة كالتي ينفّذونها.
وتضيف “أبو زين الدين” بأنها تستطيع تفهم خوف المجتمع الدولي من القيام بعمليات شبيهة بما يقوم به فريق ملهم، فالبيروقراطية التي يواجهونها على صعيد “خيمة” ستكون مضاعفة عشرات المرات في حالة سكن وتمليك، خاصة مع الاعتماد في العمل الإغاثي على إيصال المساعدات دون أن ينتج عنها أموال تُضَخّ في السوق المحلي، بما يمكن أن يشكل فائدة لشبكات مرتبطة بجهات متطرفة أو موضوعة على قائمة العقوبات الدولية، وهو ما يصعُب ضبطه والتحقق منه في حالة المشاريع التنموية.
إلا أنها تجد أنّ كل ما سبق غير مبرِّرٍ للاكتفاء بطريقة عمل الأمم المتحدة الحالية، وأنه يمكن العمل على إيجاد حلول للمعضلات السابقة بما يخص ضمان الحقوق، والحد من تفاقم أزمة الملكيّات العقارية الموجودة أصلاً، مثل إيجاد منصة تحت إشراف دولي لتسجيل عمليات البيع والشراء ضماناً للحقوق مستقبلاً، أو بأي آلية أخرى لن يكون من المستحيل إيجادها، فالدور الذي يجب أن يلعبه المجتمع الدولي والأمم المتحدة هو تأمين شروط الحياة الكريمة للناس في أي مكان يقيمون فيه.
ربما تكون لدى الأمم المتحدة معاذيرها المحقة لتجنب العمل على حياة أفضل للنازحين، كما أنّ لدى فريق ملهم دوافع كثيرة محقّة لإطلاقهم مبادرة جريئة كالتي ينفّذونها، لكنّ الأمر الوحيد المؤكّد بشكل قطعي، هو الفرحة التي يمكن أن تلمسها لدى أيٍّ من قاطني المخيمات عند انتقالهم من خيمة إلى غرفة تسوِّرُها جدران تستُرهم.