من ضجيج الحرب السورية الي زحام الغربة، صفاء سكرية أول لاجئة سورية تحترف مهنة السباكة في إربد بعد تدمير مدينتها على يد نظام بشار الأسد وحلفائه. انتقلت صفاء مع وزوجها الذي تراجعت صحته عام ٢٠١٤ إلى الأردن، كي تجد ضالتها صدفة لتوفير لقمة عيش عائلتها من خلال العمل في مهنة لا تناسب معايير ثقافة “العيب”، وتحديداً في مجتمع شرقي محافظ، وبعد أن لمع اسمها كمصممة معادن وأحجار كريمة في إحدى المحالات التجارية ببلدها.
توسيع وتدريب الطاقم النسائي
استطاعت هذه السيدة الأربعينية التي تحمل درجة البكالوريوس في الفنون الجميلة كسر الصورة النمطية، فقد اقتحمت مهنة تحتاج إلى قوة بدنية وحتى مواجهة اجتماعية، إذ قامت بتأسيس وترخيص شركة صيانة باسمها، “صفاء للسباكة”، وهو المركز الوحيد في منطقة الحرفيات بالأردن والذي يتكون كادره من السيدات فقط. تتركز أعمال المركز في كل ما يتعلق بالصيانة العامة، مثل تنظيف خزانات المياه وتركيب الفلاتر وتوزيع مياه الشرب ونظام أنابيب المياه وتركيب المواسير وصيانتها، إضافة إلى تركيب المغاسل وغيرها.
وعن بدايات البحث عن عمل، أوضحت “صفاء” في حوار خاص مع “نون بوست” أنها التحقت بدورة السباكة (موسرجية) في أحد مراكز التدريب المهني في صيانة التمديدات الصحية بغرض خدمة نفسها ومنزلها، لكن الفكرة تطورت لاحقاً لإنشاء أكاديمية نسائية بهدف خدمة السيدات اللواتي يسكن وحيدات، وأكثرهن سوريات فقدن أزواجهن في الحرب.
ثقة متبادلة ربات البيوت والعاملات
اعتبرت “صفاء” أن فكرتها تتوافق مع العادات الاجتماعية، ففي الوقت الذي يقضي فيه الرجل معظم وقته في العمل، يمكنه حل مشاكل منزله من خلال الاستعانة بطواقم نسائية متخصصة، لافتةً إلى أهمية بناء ثقة كبيرة بين طواقم العمل وربات المنازل، الأمر الذي عزز الفكرة وزاد الطلب على الطواقم النسائية المتخصصة.
تقول صفاء: “كانت البداية في عام 2016، حين خصصتُ مكان أجمع فيه المعدات والأدوات والمواد لمساعدة السيدات في صيانة منازلهن”، وعن آلية التواصل تضيف: “نحن نأخذ المعلومات من ربة المنزل ونطلب منها تصوير الشيء الذي تريد تصليحه وإرساله لنا عن طريق صفحتنا، ومن ثم نذهب إلى منزلها لعمل الصيانة المطلوبة، ويكون بحوزتنا المعدات والأدوات ونحرص على نظافة المكان بعد انتهاء التصليحات بعكس ما يقوم به الرجال. أما بالنسبة للمواد، فإذا أرادت أن تشتريها السيدة منا يكون حسابها مختلفًا عن أجرة التصليح”، منوهةً إلى دور قسم المتابعة في الإشراف والاطمئنان بشكل دوري على العمل المنجز وأخذ التغذية الراجعة من العميل.
لنا مكان منفصل لتقديم التدريب والتمكين يتم تقسيم الأدوار بين الفتيات.
كما وأعربت “صفاء” عن امتنانها لفريقها المتعاون والمكون من النساء فقط، مشيرةً إلى أنها تقدم خدماتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بها، وتقدم دروات التدريب والتمكين بشكل منفصل، حيث يتم تقسيم الأدوار بين الفتيات المتخصصات في السوشيال ميديا وأخريات للرد على الطلبات والمتابعة والتقييم، وذلك بحسب الااتفاق والترتيب الذي جرى بينهن.
صفاء التي أحبت مهنتها، تبحث اليوم عن ما هو جديد لتقديمه للنساء وضمان استفادتهن منه، ولذلك قررت مؤخرًا العمل في مجال صيانة الكهرباء على اعتبار أنه قسم تابع لأقسام أخرى مثل التكييف والتبريد والترميم، وبالتالي قد يحقق طموحها ويشبع رغبتها بالنجاح.
السباكة من أجل توفير المياه
نوهت صفاء إلى ضرورة التوعية بأهمية طرق إصلاح وصيانة المرافق الصحية داخل البيوت من أجل ترشيد استهلاك المياه، والاستخدام الأمثل لها من خلال قطع وتمديدات صحية داخل البيوت في ظل الشح المائي والتقلبات المناخية، خوفاً من انتهاء هذه الموارد، والاستخدام الآمن للصرف الصحي وخفض فاتورة المواطن، وكذلك التوعية بالتغذية السليمة وحماية البيئة من التلوث وترشيد الاستهلاك اليومي للمياه، والتي تتزامن مع تتفاقم أزمة المياه في الأردن بسبب التغير المناخي، فخلال العقود الماضية ازداد الطلب على المياه مع نمو سكاني كبير بسبب موجات اللاجئين من حروب المنطقة، حيث يعد الأردن واحداً من أكثر البلدان التي تعاني الفقر المائي، الأمر الذي انعكس سلبًا على مناحي الحياة في البلاد.
صعوبات وتحديات
من الطبيعي جداً في بداية أي مشروع أن تجد امرأة صعوبات خاصة أثناء مزاولتها مهنة السباكة، في هذا الصدد تقول صفاء: “في بداية مشروعي، كان ينظر إلي الناس باستغراب، لكونها مهنة غير مألوفة للنساء، لكني تمكنت من تجاوزها، وذلك عدت عن العديد من العملاء الذين كانوا يتأخروا في دفع أجرتي إلى حين تجربة ما تم تصليحه لمدة أسبوع، بسبب شكّهم في قدرتي على الصيانة، ومع ذلك كنت أثبت لهم مهارتي في هذا المجال، حتى أصبحت مطلوبة بكثرة من قبل السيدات في إربد”.
كما تجد “صفاء” صعوبة أخرى في عدم امتلاكها وسيلة مواصلات خاصة بمركزها لنقل للمعدات بل تتنقل بسيارات الأجرة مما يسبب لها عبء مادي ثقيل.
وفي ظل شح الدعم المادي والتعاون المؤسساتي، أضافت صفاء: “أواصل عملي بدعم مادي مباشر لـ”صفاء” للصيانة المنزلية والتدريب من أجل نشر الوعي المائي والبيئي ودعم السيدات، خاصةً اللواتي يعملن في مهن غير تقليدية وأحاول اطلاقهن إلى سوق العمل، وتمكينهن نفسياً واجتماعياً واقتصادياً، وبعد تلك الجهود المبذولة، أعتقد اليوم أن مهنة السباكة لم تعد مخجلة، إذ يوجد اليوم حرف متنوعة تتقنها فتيات الأردن”.
محدودية مشاركة المرأة في سوق العمل
لا يزال سوق العمل في الأردن يشهد تدهورًا من ناحية عدد أيدي النساء العاملة، وذلك يعود لسببين أولاً التحيز الذكوري، خاصة في شركات المقاولات المعروفة والتي تطرح مناقصات لأعمال السباكة والصيانة، وتحديدًا في المدن المتشددة اجتماعيًا مثل الزرقاء، وعدم تساوي أدوار الجنسين في تلك البيئات، والسبب الثاني هو معارضة بعض العائلات لعمل المرأة. في غضون ذلك حصل الأردن على تقدير 35 من 100 في مؤشر عالمي يقيس قدرة المرأة على ممارسة حقوقها دون تمييز، وفق تقرير حديث لعام ٢٠١٩ الصادر عن البنك الدولي.
أول لسمكرية في الأردن هي الخمسينية الأردنية “خولة الشيح” صاحبة أول جمعية السباكات الرائدات التعاونية النسائية
أظهر التقرير أن النساء في الأردن يواجهن أكبر تمييز عنصري عند الكشف عن رغبتهن في دخول سوق العمل، حيث وصلت نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل في الأردن إلى 14%، مقارنة مع 19% في العراق، و23% في لبنان، بحسب تقرير صادر من البنك الدولي. لكن الأردن تعهد خلال مؤتمر المشرق حول التمكين الاقتصادي للمرأة، الذي عقد في بيروت، بزيادة معدل مشاركة النساء في القوى العاملة إلى 24% بما يتطابق مع رؤية الأردن 2025.
جدير بالذكر أن صفاء ليست أول سمكرية في الأردن، وإنما ثاني سيدة من بعد السمكرية الخمسينية الأردنية “خولة الشيح” صاحبة أول جمعية السباكات الرائدات التعاونية النسائية، حيث بدأت حكاية “خولة” بزيارات تطوعية لربات المنازل لتوعيتهن بأهمية توفير المياه وكيفية ترشيدها، وكانت تطوف الأحياء بمختلف مستوياتها الاجتماعية بهدف تقديم خبراتها وتدريب النساء على السباكة. يلقبها الجمهور الأردني عبر صفحتها الفيسبوك بـ “أم التوفير” لما لها من دور فاعل في التعامل مع قضايا المياه.
صفاء وخولة، نموذجان ناجحان في الأردن، كلتاهما ساهمتا في تدريب وتأهيل النساء الأردنيات واللاجئات السوريات معاً في مجال السباكة، بحثًا عن حياة كريمة، وتحديًا للمفاهيم الاجتماعية المتزمتة والخاطئة.