ترجمة وتحرير: نون بوست
منذ بداية الثورة الصينية في أوائل القرن العشرين، كانت أهداف الصحة العامة جزءًا لا يتجزأ من أيديولوجية الحزب الشيوعي الصيني. لكن يشير الفقر المدقع في الصين المرتبط بسوء النظافة العامة وصحة السكان الصينيين، وخاصة أولئك الذين يعيشون في الريف، إلى تخلّف الصين عن العالم. بعبارة أخرى، تعدّ الصين “رجل آسيا المريض” بطرق عديدة. وقد اعتقد الثوريون والإصلاحيون الاجتماعيون، سواء الصينيين أو الغربيين، بما في ذلك المبشرين الطبّيين، أن تحسين الرعاية الصحية للشعب الصيني من شأنه تعزيز الحداثة.
منذ أن تولى الحزب الشيوعي الصيني مقاليد السلطة وأنشأ دولة شيوعية مركزية قوية – جمهورية الصين الشعبية – في سنة 1949، استمرت الصحة في الاضطلاع بدور مهم في السياسة الداخلية للدولة الشيوعية. وعلى نحو معقّد، حسب ما تشير إليه أبحاثي الخاصة، حان الوقت لتحديد مكانة جمهورية الصين الشعبية في مختلف أنحاء العالم.
يبدو أن تفشّي فيروس كورونا الجديد قد وضع هذه القضايا في محور الاهتمام مرة أخرى. ومع عزل مدينة ووهان، واستجداء الصين العاجل للمساعدة في الحصول على تجهيزات طبية وقائية، تعدّ الحاجة إلى السيطرة على انتشار الفيروس أمرًا حيويًا لاستقرار الصين وأمنها القومي – وضمان الشرعية السياسية للحزب الشيوعي الصيني.
على امتداد التاريخ الصيني، كان يُنظر إلى الوباء والحروب والكوارث الطبيعية، بما في ذلك المجاعة، على أنها مؤشر على سقوط العديد من السلالات – باعتبارها دليلا على خسارة التفويض السماوي. ومنذ بداية تمرد العمامات الصفراء في القرن الثاني ميلادي، انطوت جميع حالات التمرد الطائفية الرئيسية في التاريخ الصيني على بعض أشكال العلاج بالإيمان. كما ارتبطت هزيمة جيش أمير الحرب تساو تساو في معركة المنحدرات الحمراء في 208- 209 ميلادي بتفشّي داء غامض أيضا. ونتيجة لذلك، قُسّمت الصين إلى ثلاث دول متحاربة دخلت في حقبة الممالك الثلاث (220-280 ميلادي)، والمعروفة أيضًا باسم “فترة الانفصال”، والتي تعدّ واحدة من أكثر الفترات دمويةً في التاريخ الصيني.
أوقات الاختبار لنظام الرعاية الصحية في الصين
خلال عهد ماو تسي تونغ، أصبح العمل في مجال الصحة العامة أحد السبل المركزية للتأثير على الجماهير، حيث كانت حملات الصحة العامة نفسها حملات سياسية في آن واحد. في ذلك الوقت، أدركت قيادة الحزب الشيوعي الصيني بشكل تام أن وعود العلاج والصحة كانت شكلا من أشكال الدعاية الفعالة.
خلال العقود التي تلت سنة 1949، جعل ماو وقيادة الحزب الشيوعي الصيني من القضاء على الأمراض وتحسين صحة جميع السكان ركيزة أساسية لسياساتهم. وفي أعقاب “مجاعة الصين الكبرى”، التي أودت بحياة الملايين، أدت الأمراض المرتبطة بالمجاعة على غرار الوذمة، ومشاكل أمراض النساء، وسوء التغذية لدى الأطفال إلى تدمير البلد بأكمله. من أجل إثبات نجاح مشروعهم المثالي الاشتراكي، حاول ماو وقيادة الحزب الشيوعي الصيني مرة أخرى تحويل الجماهير إلى “مؤمنين” عن طريق وعود الصحة والعلاج. وبعد انهيار النظام الصحي للدولة في أعقاب المجاعة، تبنّى الطرفان مبادرة صحية شعبية وحوّلوها إلى علامة ثورية تمثّلت في برنامج الأطباء الحفاة.
خلال السبعينات، أصبح البرنامج، الذي أطلق عليه أيضًا اسم “النهج الصيني الصحي”، بمثابة الوجه الخارجي لجمهورية الصين الشعبية في علاقتها ببقية العالم. في ذلك الوقت، شعر قادة منظمة الصحة العالمية بأنه ينبغي تعزيز التجربة الصينية في معالجة المشاكل الصحية ذات الموارد المالية والتكنولوجية والبشرية المحدودة على المستوى العالمي. وبحلول سنة 1978، اعتُمد مبدأ “الصحة للجميع” كهدف عالمي للرعاية الصحية الأولية في إعلان ألما آتا التابع لمنظمة الصحة العالمية.
في هذه الأثناء، أدركت قيادة جمهورية الصين الشعبية أن المبادرات الصحية قد تشكّل تعهدات “غير مكلفة ولكنها مربحة” من شأنها أن تعزز جهودها الرامية لدعم نظام دولي جديد، يتمثّل في حركة ثورية شعبية ضد الاستعمار والإمبريالية. بين سنة 1963 و1989، أرسلت جمهورية الصين الشعبية فرقًا طبية إلى أكثر من 40 دولة في إفريقيا. وساعدت الأنشطة الإنسانية الطبية المتزايدة لجمهورية الصين الشعبية، وروابط الصداقة التي نشأت من خلال هذه التعهدات، في تعزيز مكانة الصين في الأمم المتحدة. وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1971، صوتت 26 دولة أفريقية لصالح استعادة جمهورية الصين الشعبية لمركزها في الأمم المتحدة.
معاناة تحت وطأة الضغط
شهدت الصين منذ أوائل التسعينات توسعا حضريا غير مسبوق وواسع النطاق نتيجة تدفق ملايين القرويين من الأرياف إلى المدن. وقد مثلت هذه المدن مصدرا لمخاطر صحية كبيرة، حيث أصبح تلوث الهواء والأوبئة على غرار المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة سارس في سنة 2003، وأنفلونزا الطيور في سنة 2013 وفي الوقت الراهن تفشي فيروس كورونا الجديد، بمثابة التهديد الأكبر لصحة الناس في المناطق الحضرية.
لعل أكثر ما زاد من انتشار هذا الوباء في الوقت الحالي هو حالة المنظومة الصحية الصينية، التي تعاني من الاكتظاظ والفوضى وعدم الفعالية ناهيك عن أن العلاج مكلف. ورغم بعض المحاولات لإصلاح النظام الصحي الصيني، إلا أن معظمها نُفذت بطريقة عشوائية. فعلى سبيل المثال، في أعقاب أزمة سارس، أعيد تشكيل العديد من وحدات الصحة العامة في المراكز المحلية لمكافحة الأمراض، ولكن لا يزال البرنامج الوقائي المنهجي للأمراض المعدية غائبًا.
سرعان ما تلاشت الأموال المخصصة للبحث والوقاية مع اضمحلال الأهمية السياسية لفيروس سارس. وفي هذه الأثناء، يظل النظام الصحي الصيني
تفاعليًّا وليس استباقيًّا. نتيجة لذلك، ما زالت الصين تفشل في اختبارات التحمل ولا يمكنها مواجهة تفشي الأمراض بشكل كبير. وقد ساهمت قلة الموارد بسبب هيكل الإبلاغ المشوش في الإدارات الصحية في زيادة العنف ضد الأطباء في السنوات الأخيرة، المعروف في الصين باسم “الاضطرابات الطبية”. ولا توجد أهداف طويلة المدى للصحة العامة لأن هذه القضية تخضع للمصالح السياسية للحزب الشيوعي الصيني.
في هذا السياق، أدى الافتقار إلى الرعاية الصحية إلى جعل العديد من النازحين الريفيين أكثر عرضة للإصابة بمثل هذه الأوبئة. منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، اختارت حكومة جمهورية الصين الشعبية نموذج السوق لتمويل الخدمات الصحية، مما جعل تكاليف العلاج مرتفعة بالنسبة للكثيرين وخاصة النازحين. ومع ذلك، غالبًا ما يعيش هؤلاء العمال الريفيون النازحون في ظروف قاسية ومزدحمة، إذ لا يحصل بعضهم على مياه نظيفة، وأضحت منازلهم وأماكن عملهم مرتعًا لعدد من الأمراض المعدية وسببا في انتشارها.
تجاوز الخطاب المنمّق
مع انتشار حالات فيروس كورونا الجديد في جميع أنحاء العالم، أعلنت منظمة الصحة العالمية عن حالة طوارئ عامة عالمية في 30 كانون الثاني/ يناير. ونتيجة الشعور بالقلق إزاء الصورة الدولية للصين كمصدر لوباء عالمي جديد، وبسبب التباطؤ الاقتصادي والحرب التجارية مع الولايات المتحدة التي تلوح في الأفق، تتزايد الأسئلة حول الشرعية السياسية للحزب الشيوعي الصيني. لقد تساءل بعض الأشخاص على منصة التواصل الاجتماعي “وي تشات” عما إذا كانت الحكومة غير قادرة على السيطرة على انتشار الفيروس، لكن حذفت هذه المنشورات. وفي الثاني من شباط/ فبراير، هددت السلطات بإغلاق حساب أي شخص ينشر “شائعات” حول فيروس كورونا على “وي تشات”.
إلى جانب عزل ووهان، حوّلت السلطات في بكين السيطرة على الفيروس إلى حملة سياسية. في 21 كانون الثاني/ يناير، أعلنت أعلى هيئة سياسية في جمهورية الصين الشعبية المسؤولة عن القانون والنظام – لجنة الشؤون السياسية والقانونية المركزية بشكل صريح عما يلي: “أي شخص يتعمد التأخير أو يخفي الإبلاغ عن (فيروس) الحالات من أجل مصلحته الشخصية سيبقى ذلك وصمة عار في حقه إلى الأبد”. وفي مقاطعة هوبي الريفية بالقرب من ووهان، ترجمت السلطات المحلية هذه الرسالة إلى لافتة حمراء كبيرة تذكرنا بالثورة الثقافية، كتب عليها: “كل من لم يبلغ عن إصابته بالحمى يعد العدو الطبقي للشعب”.
حثّت اللجنة الشعبية لمكافحة الفساد جميع السلطات المحلية على جعل “سلامة أرواح الناس وصحتهم البدنية أولوية قصوى”. ولكن في جمهورية الصين الشعبية، ظلت حماية أرواح الناس وصحتهم البدنية مجرد خطاب سياسي إلى حد كبير. فبعد سبعين عامًا من تأسيس جمهورية الصين الشعبية، ما زالت الصين بعيدة عن كونها “حديقة اشتراكية” خالية من الأمراض، على عكس ما تخيله الحزب الشيوعي الصيني في خططه الطوباوية. إذا كان تفشي فيروس سارس في سنة 2003 بمثابة دعوة للاستيقاظ، فيجب أن تكون أزمة فيروس كورونا الحالية بمثابة تحذير عاجل: يجب إعطاء حماية روح الإنسان أولوية على حساب نمو الناتج المحلي الإجمالي، قبل فوات الأوان.
المصدر: ذي كونفرسايشن