ترجمة وتحرير: نون بوست
كان وودي بليدسو جالسًا على كرسي متحرّك في مرأبه بصدد الانتظار. وبالنسبة لأي شخص قد رآه قبل بضعة أشهر، أو تعوّد على رؤيته في الكنيسة المحلية أيام الأحد، أو مشاهدته وهو يتجول في البلدة، فإن هذا العجوز البالغ من العمر 74 عامًا ليس من الوجوه المألوفة. لقد فقد حيويّة الشباب، وتمكن منه مرض التصلب الجانبي الضموري الذي أفقده القدرة على المشي والحديث، وبالكاد كان قادرًا على كتابة رسائل قصيرة على لوحة بيضاء صغيرة. لكن عقل وودي كان لا يزال يتمتع بالقوة، وعندما وصل ابنه لانس إلى منزلهم في بلدة أوستن من ولاية تكساس في ذلك الصباح من سنة 1995، بدأ وودي بإعطائه تعليمات كان يكتبها بالقلم.
طلب من ابنه لانس أن يبحث عن سلة مهملات من الباحة الخلفية من النوع المعدني القديم. وقد جلب لانس واحدة ووضعها على الأرض قرب والده، ثم أرسله وودي إلى داخل المنزل بحثا عن أعواد الثقاب وسائل قابل للاشتعال. وعندما عاد لانس، أشار وودي بيديه إلى اثنين من خزانات الملفات الضخمة داخل المرآب.
لقد كانت الخزانتان موجودتان منذ أن أصبح لانس قادرًا على التذكر، والآن هو في أواخر الثلاثينات من عمره، وهو متأكد من أن أبوابها لم تفتح منذ أن كان طفلًا. كان مدركًا أن هذه الملفات لم تكن من النوع العادي، بل من النوع الذي شاهده عندما عمل على تطوير أجهزة السونار للغواصات النووية الأمريكية، حيث أنها كانت خزانات ثقيلة جدًا ومضادة للرصاص، وكل درج فيها مقفل بأرقام سرية معقدة. بدأ والده يكتب له الأرقام ببطء على اللوحة الصغيرة، وتفاجأ لانس بأن سلسلة الأرقام كانت صحيحة، وهو يقول اليوم بعد مرور 25 عامًا: “عندما فتحت الدرج الأول شعرت كأنني بطل أفلام المغامرات إنديانا جونز”.
في بدايات مسيرته، انشغل وودي بمحاولاته منح الآلة مهارة بشرية محددة، قوية ولكن خطيرة، وهي القدرة على التعرف على الوجوه
وجد في داخل الخزانة كومة سميكة من الوثائق القديمة والمتعفنة. وبدأ لانس بإخراجها ووضعها بين يدي والده. نظر وودي فوق أكوام من الورق التي تجاوز سمك كل منها الإنشين، ثم طلب من ابنه أن يرميها في النار التي أشعلها داخل سلة المهملات. لاحظ لانس أن بعض تلك الملفات كان مكتوب عليها “سري” أو “للاطلاع الداخلي”. وتواصل اشتعال النار التي التهمت الأوراق إلى أن أفرغت الخزانتين تماما. وقد أصر وودي على الجلوس في المرأب إلى أن تحول كل شيء إلى رماد.
حاول لانس أن يخمّن ما هو الشيء الذي ساهم في تدميره رفقة والده. لحوالي ثلاثة عقود، كان والده يعمل أستاذًا في جامعة تكساس ويحاول المساهمة في تطوير أبحاث المنطق الآلي والذكاء الاصطناعي. ولطالما عرف لانس أن والده من محبي العلم والمتفائلين بتطويره، حيث كان يحلم منذ خمسينات القرن العشرين ببناء جهاز كمبيوتر يتمتع بكل القدرات البشرية، من حلّ المعادلات الحسابية المعقدة، والمشاركة في الحوارات، إلى ممارسة لعبة كرة الطاولة بشكل عادي.
في بدايات مسيرته، انشغل وودي بمحاولاته منح الآلة مهارة بشرية محددة، قوية ولكن خطيرة، وهي القدرة على التعرف على الوجوه. وكان لانس يعرف أن أعمال والده في هذا المجال، وهي من أولى الأبحاث التي أجريت حول تقنية التعرف على الوجوه، شدت انتباه الوكالات السرية للحكومة الأمريكية. ويبدو أن أهم ممولي وودي في الواقع كانوا الشركات المرتبطة بوكالة الاستخبارات المركزية. فهل يكون لانس قد ساهم للتو في إحراق الأدلة على أولى جهود واشنطن لتحديد وجوه الناس على نطاق واسع وبشكل آلي.
اليوم، أصبحت تقنية التعرف على الوجه ميزة مفضّلة لدى كثير من الناس لتأمين هواتفهم وأجهزة الحاسوب المحمول وجوازات السفر وتطبيقات الدفع الإلكتروني. وهي تعِد بإحداث ثورة في عالم الأعمال والدعايات الموجهة وسرعة تشخيص بعض الأمراض. ومن شأنها أن تجعل من تحديد وجوه الأصدقاء في موقع إنستغرام أمرا ممتعا. ولكن في نفس الوقت، يتزايد استخدامها كأداة للقمع والمراقبة الحكومية. وفي الصين، على سبيل المثال، تستخدم الحكومة تقنية التعرف على الوجه لتحديد وتعقب المنتمين لأقلية الأويغور، الذين اُعتقل مئات الآلاف منهم وحبسوا في “معسكرات إعادة تأهيل”.
وفي الولايات المتحدة أيضا كشفت صحيفة “واشنطن بوست” أن شرطة الهجرة والحدود ومكتب التحقيقات الفدرالي استخدما هذه التكنولوجيا كمصيدة رقمية للبحث عن المشتبه بهم من بين ملايين الوجوه في قاعدة بيانات رخص قيادة السيارات، وكان ذلك يتم أحيانًا دون طلب إذن قضائي. وفي السنة الماضية، كشف تحقيق استقصائي لصحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية أن الباحثين في شركة مايكروسوفت وجامعة ستانفورد جمعوا ونشروا كميات ضخمة من البيانات حول وجوه الناس، دون علم أو موافقة أصحاب هذه الوجوه. بعد ذلك، أزيلت هذه البيانات ولكن ليس قبل أن يتمكن الباحثون في الشركات الناشئة والأكاديميات العسكرية الصينية من الحصول على نسخة منها.
مهما كانت نوايا وودي في ذلك اليوم من سنة 1995، فإن أغلب أبحاثه ومراسلاته نجت من تلك المحرقة في مرأب بيته
خلال ستينات القرن الماضي، تمكنت أبحاث وودي حول تقنية التعرف على الوجه من استباق كل الإنجازات والتطورات التي نشهدها الآن، والتبعات الأخلاقية التي ظهرت معها. ولكن كل تلك الأعمال التأسيسية التي أجراها حول هذا الموضوع، ظلت مجهولة، وأغلبها لم ينشر.
لحسن الحظ، مهما كانت نوايا وودي في ذلك اليوم من سنة 1995، فإن أغلب أبحاثه ومراسلاته نجت من تلك المحرقة في مرأب بيته، والآلاف من صفحات أبحاثه، التي يبلغ حجمها مجتمعة 39 صندوقا، محفوظة في مركز بريسكو للتاريخ الأمريكي في جامعة تكساس. تحتوي هذه الصناديق، من بين أشياء أخرى، على العشرات من صور وجوه الناس، بعضها مدونة عليه علامات حسابية غريبة، كما لو أن مرضا هندسيا أصاب جلود أولئك الناس. ومن هذه الصور يمكن استخلاص القصة الأصلية للتكنولوجيا، التي شهدت بعد ذلك تطورًا سريعُا واكتسبت قوة كبيرة، وأصبحت حاضرة في كل الميادين في العقود اللاحقة.
صورة لوودرو بليدسو من دراسة أجريت عام 1965
أما وودرو ويلسون بليدسو، الذي كان جميع من يعرفونه يسمونه وودي، فقد كان طيلة حياته منشغلًا بالعمل. لقد ولد في سنة 1921 في بلدة مايسفيل في أوكلاهوما، وقضى أغلب طفولته في مساعدة والده الذي كان مزارعًا بسيطًا يسعى لإعالة عائلته. كان لدى عائلة بليدسو في ذلك الوقت 12 طفلا، عاشرهم وودي، وقد قضى أيامًا طويلة في إزالة الأعشاب الضارة من مزارع الذرة، وجمع الحطب، وتجميع القطن، وإطعام الدجاج. أما والدته المدرّسة السابقة، فقد كانت تدرك مدى ذكائه منذ نعومة أظافره. وفي مقال لم ينشر منذ سنة 1976، قال عنها وودي بأن حضورها كان دائما مشجعا جدا له.
عندما كان وودي في سن 12 عاما توفي والده، وتفاقمت معاناة العائلة من الفقر في وسط أزمة الثلاثينات. حصل وودي على عمل في مزرعة للدجاج بينما كان يعمل على إنهاء دراسته الجامعية. ثم انتقل للعيش في مدينة نورمان وبدأ في متابعة دروس في جامعة أوكلاهوما، لكنه غادرها بعد ثلاثة أشهر فقط ليلتحق بالجيش، في عشية الحرب العالمية الثانية.
بفضل ما أظهره من براعة في الرياضيات، كُلّف وودي بعمل إداري في إدارة المرتبات في مركز عسكري في ميزوري، أين يتدرّب الجنود الأمريكيون على القتال. وفي السابع من حزيران/ يونيو 1944، بعد عملية الإنزال الشهيرة في النورماندي، أرسِل وودي لأوروبا، أين حصل على وسام النجمة البرونزية لأنه ابتكر طريقة لتسيير السفن البحرية في نهر الراين.
بما أنه وصل إلى ساحة الأحداث في أوروبا بينما كانت قوات التحالف تتجه نحو حسم المعركة، فإن وودي أخذ انطباعا إيجابيا عن تجربة الحرب. وقد كتب عنها في مذكراته ما يلي: “لقد كانت هناك أوقات مثيرة وحماسية، وكل يوم كان بمثابة شهر في الحياة العادية. وأنا أتفهم الآن كيف أن بعض الرجال يصبحون متيمين بالحرب، فطالما أنك سليم وتحقق الفوز دون التعرض لخسائر، فإن كل شيء على ما يرام”. قضى وودي الصيف الموالي في باريس التي حُرّرت من قبضة الألمان، وقد مكنته هذه التجربة من توسيع تجربته وأفق عقله في أجواء النشوة والوطنية التي كانت سائدة، وهو يقول حيال ذلك: “لقد كانت الأخبار الأكثر إثارة التي سمعتها في يوم ما هي أننا قمنا بتفجير قنبلة نووية، لقد كنا سعداء لأن سلاحا من هذا النوع موجود بين أيدي الأمريكيين وليس الأعداء”.
لم يكن وودي يطيق الانتظار للعودة للجامعة مع نهاية الحرب. تخصص في الرياضيات في جامعة يوتا، وأنهى دراسته في عامين ونصف فقط، ثم ذهب إلى بيركلي للحصول على درجة الدكتوراه. وبعد التخرج، حصل على وظيفة في شركة سانديا للتكنولوجيا والهندسة في نيومكسيكو، وعمل على بحث مموّل من الحكومة حول الأسلحة النووية رفقة مجموعة من العباقرة من أمثال ستانيسلو أولام، وهو واحد من مخترعي القنبلة الهيدروجينية. وفي سنة 1956، سافر وودي إلى جزر مارشال لمشاهدة اختبارات الأسلحة، التي أجريت على أرخبيل “إنويتاك أتول” في المحيط الهادي، الذي لا يزال إلى اليوم يعاني من التلوث الإشعاعي بشكل يفوق تشيرنوبيل وفوكوشيما، وفي هذا الصدد قال: “لقد كان أمرا مريحا بالنسبة لي أن أساعد بلدي العزيز ليبقى هو الأقوى في العالم”.
كان حلم وودي الأول بناء الآلة التي أطلق عليها “شخص الكمبيوتر”
قدمت شركة سانديا لوودي أولى خطواته في عالم الحوسبة، وهو الأمر الذي سيشغله لبقية مسيرته المهنية. وفي البداية، ارتبطت محاولاته لكتابة الرموز التشفيرية بالحسابات السوداوية لأبحاث الأسلحة النووية. ثم تزايد ارتباطه بالحوسبة وأصبح وودي مهتما بالتعرف الآلي على الأنماط، وخاصة القراءة الآلية، وعملية تعليم جهاز الكمبيوتر كيف يتعرف على صور لا تحمل أي اسم، وتظهر فيها رموز مكتوبة. وقد شكل فريقا مع صديقه وزميله إبان براونينغ، وهو أحد عباقرة الرياضيات ومهندس في علوم الطيران، وعالم فيزياء حيوية، وتمكن كل هؤلاء مجتمعين من إنشاء ما أصبح لاحقا طريقة التعديد الحسابي “أن توبل”. وقد بدؤوا بإسقاط شكل مرسوم على ورقة، مثل الحرف Q على سبيل المثال، فوق شبكة من المربعات مستطيلة الشكل، تشبه ورقة التصوير الغرافي. ثم منح عدد ثنائي لكل مربع، بحسب ما إذا كان يحتوي على جزء من ذلك الحرف أو لا، فالمربعات الفارغة حصلت على الرقم صفر، والممتلئة حصلت على الرقم واحد. ثم تم تجميع هذه المربعات بشكل عشوائي في ثنائيات مرتبة.
من خلال بعض العمليات الرياضية الأكثر عمقا وتعقيدا، تمكن الحاسوب من تحديد الرقم المميز عند رسم ذلك الشكل على الشبكة. وعندما يقابل الحاسوب شكلا جديدا، يقوم بكل بساطة بمقارنته بتلك الشبكة التي تم تعليمه إياها، والمعلومات الموجودة في قاعدة البيانات، إلى أن يكتشف أقرب شيء إلى ذلك الشكل الذي يجب التعرف عليه.
تكمن جمالية هذه الطريقة في تعديد الحساب في أنها قادرة على التعرف على العديد من المتغيرات لنفس الشكل، إذ أن أغلب الطرق التي كتب بها الحرف Q كانت متشابهة، والحاسوب تمكن من التعرف عليها كلها. كما أن هذه الطريقة لم تنجح فقط مع الكتابة بل مع كل أنواع المعلومات. وحسب مقال شارك في كتابته عالم الرياضيات روبرت بوير، الذي كان لوقت طويل صديقا لوودي، فإن طريقة “أن توبل” للتعديد الحسابي ساعدت على اكتشاف مجال التعرف على الأنماط، وكانت تلك من أولى الجهود التي بذلت لطرح السؤال: “كيف يمكننا جعل الآلة تفعل شيئا يقوم به البشر؟”.
في الوقت الذي كان يبتكر فيه طريقة “أن توبل” للتعديد الحسابي، كان حلم وودي الأول بناء الآلة التي أطلق عليها “شخص الكمبيوتر”. بعد سنوات، كان يتذكر “الحماس الجامح” الذي شعر به وهو يستحضر قائمة مهارات الوعي الصناعي. في هذا السياق، قال وودي: “أردت أن تقرأ الأحرف المطبوعة على إحدى الصفحات والنص المكتوب بخط اليد أيضًا. كان بإمكاني رؤيتها، أو جزء منها، في كاميرا صغيرة تناسب نظارتي، مع سدادة أذن متصلة تهمس في أذني أسماء أصدقائي ومعارفي والذين قابلتهم في الشارع … وكما ترى، كان لدى كمبيوتر صديقي القدرة على التعرف على الوجوه”.
في سنة 1960، اتفق وودي مع براوننغ وزميل ثالث من سانديا على تأسيس شركة خاصة بهم. في البداية، أسسوا شركة بانوراميك ريسيرتش أنكوربورايتيد، التي كان مقرها في مكتب صغير في بالو ألتو، كاليفورنيا، فيما لم يُعرف بعد باسم وادي السيليكون. في ذلك الوقت، كانت معظم أجهزة الكمبيوتر في العالم بمثابة آلات ضخمة تخزّن البيانات على بطاقات مثقوبة أو شريط مغناطيسي، التي تكون موجودة في مكاتب الشركات الكبيرة والمختبرات الحكومية. ولم يكن بإمكان شركة بانوراميك توفير واحدة خاصة بها، لذا استأجرت وقتًا من الحوسبة من جيرانها، وغالبًا ما يكون ذلك في متأخر من المساء لأن تكلفة ذلك تكون أرخص.
كان عمل شركة بانوراميك، كما وصفه وودي لاحقًا لزميل له، يعد “تجربة الأفكار” التي كان يأمل أن “تغير العالم”. وفقًا لنيلز وينكليس، الكاتب والمستشار الذي تعاون في العديد من مشروعات بانوراميك وأصبح لاحقًا محررًا مؤسسًا لمجلة “بيرسونال كومبيوتر”، “كانت وظيفتها تتمحور حول القيام بما يجده الآخرون سخيفا للغاية”.
جذبت الشركة مزيجًا غريبًا وانتقائيًا من الباحثين، كثير منهم، مثل وودي، الذي نشأ فقيرا خلال فترة الكساد العظيم ويريد في الوقت الراهن استكشاف كل شيء. في الواقع، تراوحت ميولاتهم الفكرية بين العبقرية والوحشية. كان براوننغ، الذي ينتمي إلى عائلة من المزارعين الفقراء وأمضى عامين من شبابه لا يأكل شيئًا تقريبًا سوى الملفوف، يصلح الآلات ويعمل على صيانتها.
طوال فترة وجودها، كان لدى بانوراميك راعي واحد على الأقل موثوق به ساعد في بقائها صامدة وهو وكالة الاستخبارات المركزية
خلال مرحلة معينة من عمره، عمل مع باحث من شركة بانوراميك آخر، وهو لاري بيلينغر، لتطوير مفهوم شاحنة تعمل بالكلاب أطلقا عليها مصطلح “دوغ موبايل”. كما قاما ببناء شيء يسمى “اسمع -الضوء”، وهو جهاز على شكل قلم صمم للمكفوفين يحول مستويات الضوء إلى صوت.
ساعد بيلينغر، الذي كان يعمل مظليا في سن المراهقة (أخفى ممارسته لهذه الهواية سرا عن والدته من خلال الادعاء بأن الإصابات التي كان يتعرض لها جراء الهبوط المظلي السيء كانت بسبب إصابات بالدراجة)، في تصميم طائرة بيل إكس-1، وهي طائرة صاروخية أسرع من الصوت، اشتُهرت عندما تطرق لها توم وولف في كتابه “ذي رايت ستاف”. في وقت لاحق، أنشأ موبوت، وهي جزازة العشب ذاتية الدفع التي تعمل على قطع العشب بطريقة عشوائية تمامًا ودون مراقبة” (مع العلم أن جوني كارسون عرض الجهاز في برنامج تونايت شو).
علاوة على ذلك، عملت إلى جانبهم هيلين تشان وولف، التي تعد رائدة في مجال برامج الروبوت التي بدأت العمل في شركة بانوراميك بعد بضع سنوات من مغادرة الجامعة. وكان من المحتمل أن تستمر في مساعدة برنامج شايكي ذي روبوت، الذي وصفه معهد مهندسي الكهرباء والإلكترونيات بأنه “أول روبوت في العالم يجسد الذكاء الاصطناعي”. ووقع استدعاؤها من قبل زميلة سابقة، وهي آدا لوفلايس التي تعمل في مجال الروبوتات.
في أوائل الستينيات من القرن الماضي، عندما تضمنت جهود وولف للترميز استخدام أكوام من البطاقات المثقوبة بارتفاع قدم ونصف، شعرت بالذهول من مجموعة الأفكار التي ضرب بها زملاؤها في بانوراميك عرض الحائط. وأوضحت وولف، أنه في فترة معينة، قرر وودي أنه “يريد الكشف عن الحمض النووي باستخدام هذه الآلة، وتوصل إلى أن الأمر سيستغرق 30 أو 37 عامًا للقيام بذلك على أجهزة الكمبيوتر التي كانت لدينا في ذلك الوقت. لذلك قلت: “حسنًا، أعتقد أننا لن نفعل ذلك”.
ربما ليس من المستغرب أن تكافح شركة بانوراميك لإيجاد تمويل تجاري كاف. بذل وودي قصارى جهده لعرض تقنية التعرف على الوجه على عملائه من الشركات، بما في ذلك جمعية ضمان الحياة المنصفة ومجلة ماك كول. لكنه لم ينجح في إبرام عقد مع إحدى الشركات على الإطلاق. بحلول سنة 1963، كان وودي على يقين من أن الشركة سوف تنهار.
طوال فترة وجودها، كان لدى بانوراميك راعي واحد على الأقل موثوق به ساعد في بقائها صامدة وهو وكالة الاستخبارات المركزية. إذا كان هناك أي إشارات مباشرة إلى وكالة الاستخبارات المركزية في الأوراق البحثية الخاصة بوودي، فمن المحتمل أن ينتهي الأمر بها إلى مجرد رماد؛ لكن بقايا الأدلة التي نجت في محفوظات وودي تشير بقوة إلى أنه، لسنوات، كانت شركة بانوراميك تتعامل مع شركات واجهة تابعة لوكالة المخابرات المركزية.
ووفقا لوينكليس، الذي كان صديقًا لكامل موظفي بانوراميك، وكان صديقًا دائمًا لبراوننغ، من المحتمل أن الشركة تأسست، على الأقل جزئيًا، بتمويل من الوكالة. وأضاف وينكليس: “لم يخبرن أحد على الإطلاق بمعلومات عن ذلك، لكن هكذا كان الحال”. وحسب السجلات التي حصل عليها موقع “بلاك فولت” المتخصص في طلبات قانون حرية المعلومات السرية، كانت شركة بانوراميك من بين 80 منظمة عملت في مشروع إم كي ألترا، وهو برنامج “السيطرة على العقل” سيء السمعة التابع لوكالة الاستخبارات المركزية، والذي يشتهر بعمليات التعذيب النفسي التي يتعرض لها الأشخاص الذين لا يرغبون في أن يكونوا موضع تجربة في كثير من الأحيان.
من خلال واجهة تسمى مؤسسة أبحاث العلوم الطبية، يبدو أن شركة بانوراميك كُلفت بالمشروعين الفرعيين 93 و94، بشأن دراسة السموم البكتيرية والفطرية و”التحكم عن بعد في اتجاه أنشطة أنواع مختارة من الحيوانات”. أظهرت الأبحاث التي أجراها ديفيد إتش برايس، عالم الأنثروبولوجيا في جامعة سانت مارتن، أن وودي وزملاءه تلقوا أموالًا من جمعية التحقيق في البيئة البشرية، التي تعد شركة واجهة تابعة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية قدمت منحًا للعلماء الذين يساعدون على تحسين أساليب الاستجواب التي تتبعها الوكالة أو التمويه لهذا العمل. (في الواقع، لم تؤكد وكالة المخابرات المركزية أي معرفة أو علاقة بوودي أو شركة بانوراميك، ولم تنكر ذلك في الوقت ذاته).
في المقابل، كانت شركة واجهة أخرى، تدعى كينغ هيرلي ريسيرتش غروب، تموّل أبحاث وودي الأكثر شهرة التي أجراها في صلب شركة بانوراميك. ووفقًا لسلسلة من الدعاوى القضائية المرفوعة في سبعينيات القرن الماضي، كانت شركة كينغ هيرلي شركة وهمية استخدمتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في شراء طائرات ومروحيات لسلاح الجو السري التابع للوكالة، الذي يعرف باسم “إير أميركا”.
لفترة من الوقت، قدّمت كينغ هيرلي تمويلًا لأبحاث تتعلق بعلم النفس الدوائي في جامعة ستانفورد. ولكن في أوائل سنة 1963، اقترح وودي بليدسو عليها إجراء “دراسة لتحديد جدوى وجود جهاز مبسط للتعرف على الوجه. بناءً على عمله مع براوننغ باستخدام طريقة التعديد الحسابي “أن توبل”، كان وودي ينوي تعليم الكمبيوتر التعرف على عشرة وجوه. أي أنه أراد إعطاء الكمبيوتر قاعدة بيانات تحتوي على عشر صور لأشخاص مختلفين ومعرفة ما إذا كان يمكنه التعرف على صور جديدة لكل منهم. في هذا الإطار، كتب وودي: “نأمل قريبا في توسيع عدد الأشخاص إلى الآلاف”. في غضون شهر، سمحت له شركة كينغ هيرلي بالمضي قدما في هذه الأبحاث.
في أحد الأساليب، علّم وودي بليدسو جهاز الكمبيوتر الخاص به تقسيم الوجه إلى أشكال، ثم مقارنة المسافات بينها.
ربما تبدو الوجوه العشرة الآن هدفًا رائعًا للغاية، ولكن في سنة 1963 كان هذا البحث طموحًا بشكل مذهل، حيث حقق وودي قفزة عملاقة من التعرف على الأحرف المكتوبة إلى التعرف على الوجوه. في البداية، لم تكن هناك طريقة قياسية لرقمنة الصور ولا توجد قاعدة بيانات حالية للصور الرقمية يمكن الاستفادة منها. وفي حين يمكن للباحثين في الوقت الحالي تدريب خوارزمياتهم على الملايين من صور سيلفي المتوفرة مجانًا، كان يتعين على شركة بانوراميك إنشاء قاعدة بياناتها من نقطة الصفر في ذلك الوقت.
من جانب آخر، كانت هناك مشكلة أكبر: الوجوه ثلاثية الأبعاد للكائنات الحية البشرية التي على عكس الحروف ثنائية الأبعاد في الصفحة ليست ثابتة. يمكن لصور الشخص نفسه أن تختلف عندما يدير رأسه، وحسب كثافة الإضاءة، والزاوية التي يقف فيها، فضلا عن تغير سنه وتسريحة شعره. في المقابل، قد يظهر الشخص سعيدا في إحدى الصور وقلقًا في الصورة التالية.
على غرار العثور على القاسم المشترك في مجموعة معقّدة من الأجزاء، سيحتاج الفريق إلى تصحيح كل هذه الاختلافات وتطبيع الصور التي كانوا يقارنونها بطريقة ما. لم يكن رهانًا مؤكدا أن أجهزة الكمبيوتر التي يستخدمونها ستنجح في إنجاز هذه المهمة. كان أحد أجهزتهم الرئيسية هو سي دي سي 1604، الذي تبلغ ذاكرة الوصول العشوائي الخاصة به 192 كيلوبايت، وهي ذاكرة أقل بحوالي 21 ألف مرة من الهواتف الذكية الحديثة.
إدراكًا لهذه التحديات من البداية، تبنى وودي مقاربة للتغلب على الفجوة وقهرها، حيث قسّم البحث إلى أجزاء وكلف باحثين مختلفين في شركة بانوراميك بها. حاول أحد الباحثين الشباب إيجاد حل لمشكلة الرقمنة: لقد التقط صورًا بالأبيض والأسود للموضوعات البشرية للمشروع على فيلم عادي بحجم 16 مم. ثم استخدم جهاز مسح ضوئي طوّره براوننغ لتحويل كل صورة إلى عشرات الآلاف من نقاط البيانات، كل واحدة تمثل قيمة شدة الضوء، التي تتراوح بين 0 (مظلمة تمامًا) إلى 3 (فاتحة تمامًا)، في موقع محدد في الصورة.
كان على الكمبيوتر التعامل مع عدد كبير جدًا من نقاط البيانات في آنٍ واحد. لذلك، اخترع الباحث الشاب برنامجًا يسمى نوبلوب، قام بتقطيع الصورة إلى عينات ذات حجم عشوائي وحساب درجة التعديد لكل منها. في الآن ذاته، بدأ وودي، وهيلين تشان، وولف، بالإضافة إلى طالب آخر، بدراسة كيفية حساب إمالة الرأس. في البداية، رسموا سلسلة من الصلبان الصغيرة المرقمة على الجانب الأيسر من وجه الشخص، انطلاقا من جبينه وصولا إلى ذقنه. ومن ثم التقطوا صورتين، إحداهما كان فيها الشخص ينظر للأمام، أما الصورة الأخرى فكان الشخص منحنيا بزاوية 45 درجة. من خلال تحليل مكان وجود جميع الصلبان الصغيرة في هاتين الصورتين، تمكنوا من استقراء الشكل الذي سيكون عليه الوجه ذاته عند تدويره بمقدار 15 أو 30 درجة. في النهاية، نجحوا في بث صورة بالأبيض والأسود لوجه بارز في الكمبيوتر، حيث ظهرت في الخارج صورة تدور تلقائيًا كانت منمّلة ومنقطة ودقيقة للغاية.
كانت هذه الحلول عبقرية ولكنها غير كافية. وبعد 13 شهرا من بدء العمل، لم يعلّم فريق شركة بانوراميك جهاز الكمبيوتر كيفية التعرف على وجه بشري واحد فقط، بل 10 منهم. كتب وودي في تقرير التقدم الذي وقع إحرازه في آذار/ مارس 1964 إلى كينغ-هيرلي أن التهديد الثلاثي لنمو الشعر وتعبيرات الوجه والشيخوخة يمثل “مصدرًا هائلاً للتنوع”. وقال وودي إن المهمة “تجاوزت أحدث تقنيات التعرف على الأنماط الحالية وتكنولوجيا الكمبيوتر في هذا الوقت”. ولكنه أوصى بتمويل المزيد من الدراسات لمحاولة التوصل إلى “مقاربة جديدة تمامًا” تجاه معالجة التعرف على الوجه.
على مدار العام التالي، بات وودي يعتقد أن أكثر الطرق الواعدة للتعرف على الوجه بطريقة آلية هو اختصار الوجه إلى مجموعة من العلاقات بين معالمها الرئيسية: العينين والأذنين والأنف والحواجب والشفاه. كان النظام الذي كان يتخيله شبيها بالنظام الذي ابتكره الفرنسي المختص في علم الإجرام، ألفونس بيرتيلون، الذي اخترع التصوير الجنائي التعريفي الحديث، وكان رائدا في سنة 1879. وصف بيرتيلون الأشخاص باستخدام 11 مقياسا جسديا، بما في ذلك طول القدم اليسرى والطول انطلاقا من المرفق إلى حدود نهاية الأصبع الأوسط. وتتمثل الفكرة في أنه إذا أجريت قياسات كافية، فسيكون كل شخص فريدًا. وعلى الرغم من أن النظام كان صناعة ثقيلة، بيد أنه نجح في ذلك. ففي سنة 1897، أي قبل سنوات من انتشار البصمات، استخدم رجال الشرطة الفرنسيين هذا النظام لتحديد القاتل المتسلسل جوزيف فاشير.
على مدار سنة 1965، حاولت شركة بانوراميك إنشاء نظام بيرتيلون آليا بشكل كامل للوجه. حاول الفريق ابتكار برنامج يمكنه تحديد مكان الأنف والشفتين وما شابه ذلك من خلال تحليل أنماط الإضاءة والظلام في الصورة، لكن كانت هذه الجهود في الغالب فاشلة. لذلك، بدأ كل من وودي وولف في استكشاف ما أطلقوا عليه مقاربة “الإنسان -الآلة” في التعرف على الوجه، وهي طريقة من شأنها أن تدمج القليل من المساعدة الإنسانية في المعادلة. (ومؤخرا، أشار تاريخ مكتب البحوث والتنمية التابع لوكالة المخابرات المركزية إلى مثل هذا المشروع في سنة 1965. وخلال السنة ذاتها، أرسل وودي خطابا حول التعرف على الوجه إلى رئيس قسم التحليلات جون دبليو كويبرس).
كلّفت شركة بانوراميك ابن وودي المراهق غريغوري وأحد أصدقائه بتصفّح مجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية يبلغ عددها 122 لحوالي 50 شخصًا، وأخذ الفريق 22 قياسًا لكل وجه، بما في ذلك طول الأذن من أعلى إلى أسفل وعرض الفم من الزاوية إلى الزاوية. ثم كتبت وولف برنامجًا لمعالجة الأرقام. في نهاية التجربة، تمكن الكمبيوتر من مطابقة كل مجموعة من القياسات مع الصورة الصحيحة. كانت النتائج متواضعة ولكن نجاحها لا يمكن إنكاره، حيث أثبتت وولف ووودي أن نظام بيرتيلون كان عمليًا من الناحية النظرية.
تتمثل الخطوة التالية لفريق بانوراميك بحلول نهاية سنة 1965 في إطلاق نسخة أوسع نطاقًا من التجربة ذاتها تقريبًا، ولكن هذه المرة باستخدام تكنولوجيا وقع اختراعها مؤخرًا لجعل “الإنسان” في نظام “الإنسان -الآلة” أكثر كفاءة. باستخدام أموال كينغ-هيرلي، استخدم الفريق جهازًا يُعرف باسم حاسوب راند اللوحي، وهو جهاز قيمته 18 ألف دولار بدا وكأنه ماسح ضوئي للصور المسطحة ولكنه عمل بشكل يشبه عمل جهاز الأي باد. باستخدام لغة ستايلس، يمكن للباحث الاعتماد على الكمبيوتر اللوحي وإنتاج صورة عالية الدقة يمكن قراءتها نسبيا بالكمبيوتر.
طلب وودي وزملاؤه من بعض الطلبة الجامعيين تصفح مجموعة جديدة من الصور، ووضع كل واحد منها على حاسوب راند اللوحي لتحديد الميزات الرئيسية باستخدام لغة ستايلس. كانت العملية، رغم كونها شاقة، أسرع بكثير من ذي قبل. وقد تمكّن جميع الطلبة من إدخال بيانات لحوالي 2000 صورة، بما في ذلك صورتين على الأقل لكل وجه، بمعدل حوالي 40 صورة في الساعة.
مع ذلك، حتى في ظل وجود حجم عينة أكبر، كان فريق وودي يكافح للتغلب على جميع العقبات المعتادة. فعلى سبيل المثال، مازال الكمبيوتر يواجه مشكلة مع الابتسامات التي “تشوه الوجه وتساهم في تغيير المقاييس الداخلية للوجه بشكل جذري”. فضلا عن ذلك، ظلت الشيخوخة محل إشكال، وهو ما أثبته وجه وودي نفسه. عندما طُلب مطابقة صورة لوودي التقُطت في سنة 1945 مع صورة من سنة 1965، فشل الكمبيوتر في ذلك. لم يكن هناك تشابه كبير بين الرجل حين كان شابا، مع ابتسامته العريضة خط شعر داكن، وصورته وهو أكبر سنا، مع تعبيره القاتم وشعره الرقيق. كان الأمر كما لو أن عقودا من الزمن قد خلقت شخصًا مختلفًا.
بطريقة ما، كان هناك بعض التشابه. في هذه المرحلة، كان وودي قد سئم من الضغط للحصول على عقود جديدة لشركة بانوراميك ووجد نفسه “في موقف مثير للسخرية، إما أن يكون عدد الوظائف أكبر مما ينبغي أو أنه غير كاف”. كان يطرح باستمرار أفكارًا جديدة على مموليه، بعضها تعتبر متطرفة، وهي الآن محل شك من الناحية الأخلاقية.
في آذار/ مارس 1965، أي قبل حوالي 50 سنة من استخدام الصين تقنية مطابقة أنماط الوجه لتحديد هوية الأويغور الذين يعيشون في إقليم سنجان، اقترح وودي على وكالة مشاريع البحوث المتطورة الدفاعية، والمعروفة آنذاك باسم “أربا”، أن تدعم بانوراميك لدراسة استخدام خصائص الوجه لتحديد الخلفية العرقية للشخص. وحيال هذا الشأن، كتب وودي: “هناك عدد كبير جدا من المقاييس الأنثروبولوجية التي أجريت على الأشخاص في جميع أنحاء العالم الذين ينتمون إلى مجموعة متنوعة من الخلفيات العرقية والبيئية”. وأضاف: “لم يقع استغلال مخزن البيانات الواسع والقيم، الذي جرى جمعه على مر السنين على حساب وجهد كبيرين، بشكل صحيح”. ومن غير الواضح ما إذا كانت وكالة “أربا” قد وافقت على تمويل المشروع.
من المؤكد أن وودي كان يستثمر آلاف الدولارات من أمواله الخاصة في بانوراميك دون وجود أي ضمان لاستعادتها. في هذه الأثناء، كان أصدقاؤه في جامعة تكساس في أوستن يحثونه على القدوم إلى العمل هناك واعدين إياه بالحصول على راتب ثابت. غادر وودي بانوراميك في كانون الثاني/ يناير 1966. ويبدو أن الشركة قد أغلقت أبوابها بعد فترة وجيزة.
تشير وثيقة صدرت سنة 1967 رفعت الـFBI السرية عنها في سنة 2005 إلى “عقد خارجي” لنظام التعرف على الوجه من شأنه أن يقلل من وقت البحث بمئة ضعف
ظلّ وودي متمسكًا بحلمه في بناء جهاز الكمبيوتر خاص به، الأمر الذي جعله ينتقل مع عائلته إلى أوستن لتكريس نفسه لدراسة وتعليم التفكير الآلي. لكن عمله في التعرف على الوجه لم ينته. وكان قاب قوسين أو أدنى من تتويج جهوده. في سنة 1967، بعد مرور أكثر من سنة من انتقاله إلى أوستن، تولى وودي مهمة أخيرة تضمنت التعرف على الأنماط في الوجه البشري. كان الهدف من هذه التجربة هو مساعدة وكالات تطبيق القانون في تفحص قواعد البيانات الخاصة بالتصوير الجنائي التعريفي والصور والبحث عن التطابقات بشكل سريع.
كما كان الحال من قبل، يبدو أن الحكومة الأمريكية هي من ساهمت في تمويل هذا المشروع. تشير وثيقة صدرت سنة 1967 والتي رفعت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية السرية عنها في سنة 2005 إلى “عقد خارجي” لنظام التعرف على الوجه من شأنه أن يقلل من وقت البحث بمئة ضعف. هذه المرة، تشير السجلات إلى أن مصدر هذه الأموال شخص يعمل وسيطا. في رسالة بريد إلكتروني، رفض هذا الوسيط التعليق على الأمر.
كان بيتر هارت، وهو باحث رئيسي في مختبر الفيزياء التطبيقية في معهد ستانفورد للأبحاث، من أهم المتعاونين مع وودي في المشروع. (يُعرف الآن باسم معهد ستانفورد للأبحاث)، انفصل المعهد عن جامعة ستانفورد في سنة 1970 نظرا لأن اعتماده الشديد على التمويل العسكري أصبح أمرا مثيرا للجدل داخل الحرم الجامعي). بدأ وودي وهارت بقاعدة بيانات تضم نحو 800 صورة، صورتان بجودة ورق الصحف لكل من “حوالي 400 ذكر بالغ من العرق القوقازي”، وتتفاوت أعمارهم ودرجة دوران الرأس. (لم أر صورًا لنساء أو أشخاص من ذوي البشرة الملونة أو إحالات إليهم، في أي من دراسات التعرف على الوجه الخاصة بوودي)
باستخدام حاسوب راند اللوحي، سجلوا 46 نظير لكل صورة، بما في ذلك خمسة لكل أذن، وسبعة للأنف وأربعة للحاجب. بناءً على خبرة وودي السابقة في تطبيع الاختلافات في الصور، استخدموا معادلة رياضية لدوران الرأس في وضع أمامي. بعد ذلك، لتفسير الاختلافات في الحجم، عملوا على توسيع كل صورة أو تصغيرها إلى حجم قياسي، بحيث تكون المسافة بين بؤبؤ العينين بمثابة مقياس ارتكاز.
تتمثل مهمة الكمبيوتر في حفظ نسخة واحدة عن كل وجه واستخدامها لاحقا لتحديد مدى تماثله أو اختلافه مع وجه آخر. أدخل كلّ من وودي وهارت منهجيْ عمل أمكن للجهاز اتباعهما. يُصطلح على المنهج الأوّل بـ “رصد نقاط المطابقة مع المجموعة”، حيث يقوم الكمبيوتر بتقسيم الوجه إلى جملة من العناصر، فيفصل على سبيل المثال الحاجب الأيسر والأذن اليمنى وباقي المكونات ثم يقارن المسافات النسبية الفاصلة بينها. أما المنهج الثاني، فاعتمد على ما يعرف باسم نظرية الإحصاء البايزي، حيث يستخدم الكمبيوتر 22 قياسا ليقدم احتمالا مدروسا تأليفيّا عن جميع العناصر.
لكن تبين أن كلا المنهجين تعامل مع العملية على نحو مختلف. وتكمن الأهمية خاصة في الانتصار على القدرات البشريّة التمييزية التي تعدّ منافسة. فعندما طلب وودي وهارت من ثلاثة أشخاص استخراج نقاط التماثل بين مجموعات فرعية تتألف من مئة وجه، استغرق الشخص الأسرع من بين الثلاثة زهاء ست ساعات للانتهاء من العملية. في المقابل، أتمّ الكمبيوتر سي دي سي 3800 المهمة على أكمل وجه وضَبط نقاط التماثل في حوالي ثلاث دقائق، ليتمكن من اختصار أشواط طويلة وربح أضعاف مضاعفة من الوقت. في الحقيقة، اعترف وودي وهارت بأن البشر كانوا أبرع في رصد الوجه رغم اختلاف جهات التقاط الصور وكذلك في التعامل مع الصور الفوتوغرافية غير الواضحة، و”تفوّق” الكمبيوتر في رصد الاختلافات الناجمة عن تغير ملامح الشخص الواحد بالتقدم في السن. لكن عموما، خلصوا إلى أن الجهاز “انتصر” أو ” انتصر تقريبا” على البشر.
اعتبر هذا النجاح الساحق الذي حققه وودي الأعظم على الإطلاق نظرا للتقدم الذي أحرزه بحثه في التعرف على خصائص الوجه. وهو آخر ما كتبه حول هذا الموضوع. يؤكد هارت أن المقال لم ينشر على الإطلاق لأسباب “سياسية”، وهو ما أثار أسف الباحثيْن. بعد توقف التعامل مع هارت سنة 1970 أي بعد سنتين، أثار أخصائي روبوت يدعى مايكل كاسلر انتباه وودي لينبهه إلى وجود دراسة للتعرف على الوجه يخطط ليون هارمون لإجرائها في مختبرات “بل”.
حيال هذا الشأن، أجاب وودي: “ما يثير غضبي حقيقة نشرُ دراسة تقل أهمية عمّا سبق لتبرز للعيان على أنها أفضل ما وجد على الإطلاق في مجال نظام الآلة البشرية. أعتقد أن ليون، هذا بالطبع إن بذل جهد كبيرا حقا، سيكون على الرغم من ذلك متأخرا بعشر سنوات تقريبًا بحلول سنة 1975 مقارنة بما أحرزناه من نتائج”. الأكيد أن وودي أصيب بإحباط شديد عندما تصدر بحث ليون هارمون العناوين الأولى لمجلة ساينتيفيك أميريكن ولعدة سنوات، بينما بقي عمله الخاص الذي يفوق بحث هارمون بأشواط طيّ الكتمان.
في العقود التالية، أحرز وودي جوائز نظرا لمساهمته الفعالة في تطوير التفكير الآلي، وشغل لمدة سنة منصب رئيس جمعية النهوض بالذكاء الاصطناعي. لكن عمله في التعرف على الوجه لم يُعترف به ونُسي تمامًا، بينما سرق آخرون الأضواء. في سنة 1973، حقّق عالم كمبيوتر ياباني يدعى تاكيو كانادي قفزة نوعية في مجال تقنية التعرف على الوجه. ومن خلال استخدام ما كان آنذاك يعتبر نادر الاستعمال – وهي قاعدة بيانات تحتوي على 850 صورة رقمية اُلتقطت في الغالب أثناء المعرض العالمي الذي نُظّم سنة 1970 في سويتا في اليابان- طور كانادي برنامجًا يمكنه استخراج ملامح الوجه مثل الأنف والفم والعينين دون مدخلات بشرية. تمكن بذلك أخيرًا من تحقيق حلم “وودي” في إزالة التدخل البشري من نظام الإنسان الآلة. على مر السنين، طوّر وودي اختباراته في مجال التعرف على الوجه في مناسبة واحدة أو مناسبتين.
تقنية التعرف على الوجه في السنوات العشر الماضية باتت قادرة على التعامل مع الخلل الذي يشوب العالم الحقيقي.
في سنة 1982، عُيّن وودي كشاهد خبير في قضية جنائية في ولاية كاليفورنيا، حيث اتُهم عضو مزعوم في المافيا المكسيكية بارتكاب سلسلة من عمليات السطو في مقاطعة كونترا كوستا. كان لدى المدعي العام عدة أدلة، بما في ذلك لقطات مراقبة لرجل ملتح يرتدي نظارة شمسية وقبعة شتوية وله شعر طويل مجعد. لكن المتهم غير ملتح وذي شعر قصير. اعتمد وودي بحثه البانورامي للتعرف على معالم وجه سارق البنك ومقارنته بصور المتهمين، فاكتشف أن الوجوه كانت لشخصين مختلفين نظرا لاختلاف الأنوف من حيث قياس العرض. وهو ما أسعد محامي الدفاع خاصة عندما أكد أن “ليس هناك تماثلا”. تمت تبرئة المتهم من التهم الأربع بفضل شهادة وودي.
حسب أنيل ك. جين، وهو عالم كمبيوتر في جامعة ولاية ميشيغان ومحرر شارك في تأليف كتيب التعرف على الوجه، فإن تقنية التعرف على الوجه في السنوات العشر الماضية باتت قادرة على التعامل مع الخلل الذي يشوب العالم الحقيقي. تبددت جل العقبات التي واجهها وودي تقريبا بفضل عامل واحد حيث يوجد الآن عدد لا ينضب من الصور الرقمية. وعلى حد تعبير أنيل ك. جين: “يمكنك اللجوء إلى مواقع التواصل الاجتماعي وجمع أكبر عدد ممكن من صور الوجوه”. وبفضل التقدم الذي أحرزه التعلم الآلي وسعة التخزين وتطور القدرة على معالجة المعلومات، أصبحت أجهزة الكمبيوتر فعّالة في مجال التعلم الذاتي. بالنظر إلى بعض القواعد البدائية، يمكن تحليل البيانات على نحو غير متناه لمعرفة كيفية مطابقة أي شيء سواء تعلق الأمر بوجه بشري أو حتى كيس من رقائق البطاطس. لا حاجة لإجراء قياسات بالرجوع إلى براند تابليت أو نظريات ألفونس برتيون.
حتى لو أخذنا بعين الاعتبار التطور الذي أحرزته تقنية التعرف على الوجه منذ منتصف الستينيات، حدد وودي العديد من المشاكل التي مازالت مطروحة. فعملية معالجة تغير موضع الوجه، على سبيل المثال، تمثل عينة من المشاكل المطروحة. وليصبح التعرف على الوجه أكثر دقة، على حدّ تعبير جين، غالبا ما تعيد الشبكات المعقدة اليوم ضبط الوجه لوضعية أمامية كمرجع، لاستنباط موضع جديد. وعلى الرغم من أن النظم القائمة على تقنية أكثر تعمقا للتعرف على الوجه اليوم لا تعتمد على مبرمج بشري لتحديد الأنف والحواجب بشكل صريح، إلا أن دور وودي في هذا الاتجاه في سنة 1965 حدد مسار هذا المجال لعقود من الزمن.
حسب كانادي، وهو الآن أستاذ بمعهد كارنيجي ميلون للروبوتات: “لقد هيمن المنهج القائم على ميزات الوجه على السنوات الأربعين الأولى”. أما الآن، وعلى نحو ما، عاد الحقل البحثي إلى مراحل تشبه محاولات وودي الأولى لإزالة معيار الوجه الإنساني، عندما استخدم عناصر مجردة لإيجاد أنماط تشابه في حقل عملاق يتألف من نقاط من البيانات. يقول جين إنه على الرغم من تعقيد أنظمة التعرف على الوجه، فإنها تعمل فقط على إنشاء نقاط تشابه لزوج من الصور ورؤية كيفية مقارنتها.
ربما تكمن أهمية عمل وودي في وضع صبغة أخلاقية للبحث في التعرف على الوجه الذي لطالما طرح مشاكل عدة. وخلافا للتقنيات الأخرى المتغيرة المنتشرة في العالم والتي برزت قدراتها بعد سنوات من قبيل مواقع التواصل الاجتماعي، يوتيوب، والطائرات دون طيار، توضحت معالم الانتهاكات المحتملة لتكنولوجيا التعرف على الوجه منذ نشأتها في بانوراميك. تستمر العديد من التحفظات التي قد نعتبرها مترسبة منذ زمن وودي مثل توجيه هذه التقنية لخدمة مصالح العرق الأبيض؛ ومنح الثقة ظاهريا لسلطة الحكومة؛ بالإضافة إلى إغراء استخدام تقنية التعرف على الوجه للتمييز السلبي بين الأعراق. جميعها تحفظات لا تساهم في وضع قوانين للسيطرة على التكنولوجيا اليوم.
استمر وودي في تعميق بحثه حول التفكير الآلي إلى أن لم يعد قادرا على حمل القلم.
خلال السنة الماضية، أخطأ اختبار لبرنامج أمازون ريكوغنيشن في التعرف على 28 لاعبًا من اتحاد كرة القدم الأميركي وصنفهم كمجرمين. بعد أيام، رفع الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية دعوى قضائية ضد وزارة العدل الأمريكية ومكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة مكافحة المخدرات للحصول على معلومات حول استخدامهم لتقنية التعرف على الوجه التي تنتجها أمازون ومايكروسوفت وشركات أخرى. وقد أثبت تقرير صدر سنة 2019 عن المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا، والذي اختبر كودات صدرت عن أكثر من خمسين مطورا لبرامج التعرف على الوجه، أن الأخطاء في صفوف تطابق تقنية التعرف على الوجه لدى الذكور البيض واردة على نحو أقل تواترا مقارنة بمجموعات الأخرى. وفي سنة 2018، وجه بعض الأكاديميين نقدا لاذعا مناهضا لهذه التقنية: “نعتقد أن تقنية التعرف على الوجه هي أكثر آليات المراقبة خطورة التي اخترعت على الإطلاق”.
في ربيع سنة 1993، أصيب وودي بمرض عصبي حركي يعرف بالتصلب الجانبي الضموري تسبب في تعطيل قدرته على الكلام. نشرت حوله مقالة مطولة بعد وفاته، أشارت إلى أنه استمر في التدريس في جامعة تكساس في أوستن إلى أن أصبح كلامه غير مفهوم، واستمر في تعميق بحثه حول التفكير الآلي إلى أن لم يعد قادرا على حمل القلم. وكتب المؤلفون بشأنه: “أصر على أن يكون عالما دائما”، حيث “قام وودي بتسجيل شرائط لخطابه حتى يتمكن من تسجيل تطور المرض”. وقد وافته المنية في الرابع من تشرين الأول/ أكتوبر 1995. ولم يُذكر في مقال نعيه في “أوستن أميركين ستايتس مان” أعماله في مجال التعرف على الوجه. نُشرت صورة إلى جانب المقال يظهر فيها وودي بشعره الأبيض ناظرا إلى الكاميرا مباشرة راسما ابتسامة عريضة على محياه.
المصدر: وايرد