لطالما أثّر المكان في تكوين شخصية الإنسان في مختلف المجتمعات، وشكل لديه معاني الإلفة والود والحب وأخذ حيزًا من عواطفه وذاكرته، حتى بعد الرحيل عنه، والمكان هو الفضاء الذي يتحرك فيه الإنسان ويمارس فيه نشاطاته المختلفة الزراعية والاجتماعية والثقافية، محافظًا على عاداته وتقاليده المحلية، والعلاقة هنا تاريخية تعود لجذور الإنسان الأولى التي نشأ عليها، مع بعض التغيرات المجتمعية التي تحدث نتيجة التطور الزمني، وباعتبار الوطن هوية الشعوب فإنه مرتبط بما سبق، ولذلك فإن هوية الإنسان ترتبط بالمكان الذي ترعرع فيه، وهذا ما يتضمن العادات والتقاليد والعرف المحلي.
وباعتبار المكان رقعة جغرافية مثل القرية والمدينة والدولة، فإن أي تغييرات قسرية تحدث في المكان يمكن أن تؤثر في شخصية الإنسان، وكذلك أية غربة قسريةقد تحدث انكسارًا في كيان المرء قد تدفعه للدفاع عن مكانه بشتى الوسائل.
ولطالما سعى الإنسان إلى الاستقرار وتسخير كافة إمكاناته على مرّ سنوات طويلة لتأسيس سكنه ومأواه، حتى لكأنه يدخل في علاقة حميمية مع هذا المكان الذي يجد فيه الراحة التي يطمح إليها دون المنازل والأمكنة الأخرى التي أقام بها، وهذا ما يميز المنزل. وإذا فُقدت دعائم الاستقرار فإنها تشكل تهديد على حياة الإنسان مما يدفعه للرحيل بحثًا عن مكان أكثر آمنًا، لتنفيذ نشاطاته الإنسانية.
خلال الحملة العسكرية لقوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية والروسية الموالية له على المناطق السورية المحررة، حرم الألاف من الأشخاص والعائلات منازلهم وأماكنهم الخاصة التي ضحو بكل ما يملكون في سبيل بنائها، ناهيك عن الأراضي الزراعية والمراكز التجارية التي تؤمن لهم قوت يومهم، وهذا ليس انتقالًا بمعنى تغيير البيت، وإنما نزوح وتهجير قسري نحو المجهول، ولا مفر منه إلا إلى الموت والوقوع تحت سطوة نظام الأسد، الذي تمترس بآلته العسكرية على قارعة منازل المدنيين.
وبثت على وسائل التواصل الاجتماعي العديد من مقاطع الفيديو المصورة والتي تظهر رجال يودعون منازلهم الوداع الأخير بلوعة وبكاء لا يمكن شفائهما إلا بالعودة إليها دون نظام الأسد، وتظهر المقاطع مدى ارتباطهم وتعلقهم بالمكان الذي نمت جذورهم وعاشوا فيه لسنوات عديدة، وبينت القيمة الحسية والمعنوية والمادية للمكان الذي سيفترقون عنه قسريًا.
وتداول ناشطون تسجيلًا مؤثّرًا لأحد المهجرين من ريف إدلب، وهو يلقي نظرات الوداع على منزله قبل النزوح، وقال أثناء تقبيل جدران منزله: “سلمتك إلى الله.. آه يا دار دخيل الله.. ما عندي بهالدنيا غيرك.. حرموني إياك.. الله ينتقم منك يا بشار حرمتنا من دورنا”.
ولا يملك هذا الرجل سوى المنزل الذي يودعه في قريته قميناس الواقعة في ريف إدلب، وتظهر بحسب الفيديو القيمة الحسية لهذا المنزل الذي بذل فيها كل ما يملكه خلال سنوات طويلة، محاولًا إقناع نفسه أن الرحيل قد حان ولا سبيل سوى ذلك.
وظهر رجل آخر في تسجيل مصور من ريف معرة النعمان الشرقي يودع منزله وقريته بدموع كالسيل قائلًا: “بخاطرك يا دار.. بخاطرك يا دار.. أوف.. الأرض غالية والعرض غالي، بخاطرك يا شقا عمري، إن شاء الله منرجع.. بخاطرك يا حارة.. “.
تجسدت القيمة المكانية لهذا الرجل في أن كل شيء حاضر ما عدا الناس الذين نزحوا نحو الحدود السورية التركية بقي وحيدًا يودع الجدران والشوارع الخالية التي كانت تحتضنه منذ نعومة أظافره، فهناك ليالٍ قضيت بين الجيران والأقارب وباتت الآن من الذكريات.
وفي ذات السياق قال شاب يودع منزله في منقطة جبل الزاوية بريف إدلب الجنوبي: “وينكن يا أهلي. وينكن يا أمي. أخ يا هالدار مع السلامة. ما حدا عم يرد. وين الجيران وين العالم. ما في حدا بالضيعة يا الله. يا ضيعتي. يا رب. هي أغلى شي عندي الشجرة. شجرة الغار اللي عشت تحتها وأكل تحتها”.
وأثار المقطع ردود أفعال امتزج فيها الحزن مع الغضب، فقد كان الرجل في حالة نفسية سيئة بسبب تشتت العائلة ومغادرة المنزل والنزوح منه قسرًا. فيما أوضح معلقون أن الرجل اضطر سابقًا للنزوح بسبب شدّة القصف من قبل النظام السوري وروسيا على جبل الزاوية، لكنه أراد العودة لوداع منزله للمرة الأخيرة قبل رحلة نزوح ثانية نحو المجهول.
وفي وقت سابق ظهر رجل مسن من مدينة كفرنبل بريف إدلب الجنوبي الشرقي، يودع منزله نتيجة كثافة القصف الجوي الذي يستهدف المدينة من قبل قوات النظام، حيث بدأ بتقبيل جدران الدار، ثم قال لها: “بخاطرك يا هالدار”.
ورأى آخرون أن وداع الديار لا يكفي لأن ميليشيات النظام “ستعفش” محتويات المنازل خلال سيطرتها على بلداتهم وتنهب محتوياتها، فقد انتشر تسجيل مصور يظهر قيام أحد سكان مدينة سراقب شرق إدلب، بحرق منزله وهو يردد: “لبب.. لبب المستودع والدار.. والله يا أسد ما حدا يقعد فيها.. ولا شوف حدا قاعد فيها.. وبدي هدمها”.
وفي مقطع آخر، أحرق أحد عناصر فريق الدفاع المدني السوري “الخوذ البيضاء”، منزله في سراقب، كي يمنع جنود النظام السوري والميلشيات الحليفة له من نهبه والاستفادة من محتوياته. وقال ناشطون إن المقطع يمثل حالة من حالات عديدة مماثلة تم رصدها خلال الأيام الماضية.
فالمكان أصبح خاليًا والقصف متواصل والدمار شامل وانعدمت أسباب الحياة في ظل هذه الظروف، وأصبح من المستحيل العيش هنا، وتبدو المشاهد متشابهة إلا أنها تصور القيمة الوجدانية لمنازلهم لديهم، والتي يفتقدها السوريون وهم يستبدلونها بخيمة صغيرة لا تقيهم برد الشتاء القارس.
وعلى الرغم من أن المكان والمنزل الذي يودعه كثير من السوريون ريفي وبسيط جدًا، إلا أنه بني على شكل الخطوة تلو الأخرى، واستغرق عمرًا لبنائه وأكلت من لحمهم كما يقال، لذلك استحوذ على مشاعرهم وكيانهم. والبيت وإن كان ريفيًا بسيطًا لا يفقد قيمته المادية والمعنوية لأنه يتعلق بالذاكرة والوجدان، ولهذا يشكل الوقوف على أطلال المكان والمنزل أهمية لدى الأهالي يوثق لحظاتهم الأخيرة في الديار التي أجبروا على تركها.
– لماذا لا يبق الناس في منازلهم رغم دخول قوات الأسد إليها؟ لماذا لا يتشبثون بها؟ لماذا يحرقونها قبل أن يغادروا؟ لماذا يحرقون شقا عمرهم؟
– لأن بشار الأسد بنظرهم هو معادل الحرب، الحرب موجودة لأن بشار الأسد ونظامه موجودون، تنتهي الحرب ويمكن البقاء حتى ينتهي نظام الأسد الذي يقتلهم ويهجرهم ويقصف بيوتهم ومستشفياتهم ومدارس أطفالهم وأفران الخبز والمساجد والأسواق.