في عصر الاقتصاد المفتوح وسيولة رأس المال المتجاوز للحدود الجغرافية والزمنية بات الحديث عن الانكفاء على الذات دربًا من دروب الخيال، وضربًا بإفرازات التقدم التكنولوجي الهائل عرض الحائط، وسيرًا عكس التيار، في وقت إذ عطست فيه قوة في مشارق الأرض، أصيبت مغاربها بنزلة برد شديدة.
لم يفتأ الاقتصاد العالمي يلتقط أنفاسه من الحرب التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، ليلوح في الأفق شبح فيروس كورونا المستجد حاصدًا أرواح مئات الصينين خلال أيام، مهددًا الاقتصاد العالمي مجددًا بأزمة قد تسفر عن خسائر بنحو 160 مليار دولار.
لم تتوقف تداعيات تفشي فيروس كورونا الجديد، على الكوارث الصحية فحسب، وتعريض حياة الناس للخطر في ظل الارتفاع اليومي لضحايا هذا الفيروس، لكن محيط أثره يتوسع يومًا تلو الأخر، ليشمل الاقتصاد والصحة والبيئة وغيره من مجالات الحياة المعيشية، ليس للمواطن الصيني وفقط، بل لجميع سكان الأرض بلا استثناء.
وفي مصر ربما يكون الوضع مختلفًا إلى حد ما في ظل ما تمثله الصين من قيمة ومكانة كبيرة لدى الشارع الاقتصادي المصري، الذي يعتمد بشكل أساسي في خارطة بيعه وشراءه على المنتجات القادمة من التنين الأسيوي، والتي بلا شك تأثر بصورة كبيرة منذ تفشي الفيروس، وهو ما ألقى بظلاله القاتمة على المشهد الاقتصادي ومن ثم المستوى المعيشي للملايين من العاملين في التجارة والاستيراد والتصدير.
حالة من التخوف تخيم على أجواء شوارع مصر التجارية على مدار شهرين كاملين منذ بدء اتخاذ الإجراءات الوقائية حيال كورونا والتي كان على رأسها وقف باب الاستيراد من الصين، ورغم تزامن تفشي الفيروس مع الإجازة الصيفية للبلاد وهو ما قلل من حجم التأثير، لكن القادم بات الأكثر قلقًا للتجار والعاملين في هذا المجال على حد سواء.
“خراب بيوت”
” منذ أكثر من 15 يوما تقريبًا لم أكسب جنيهًا واحدًا.. الزبائن قلت والأسعار بتزيد والحال واقف.. لو استمر الوضع الحالي شهر كمان كلنا هنشحت ونقفل محلاتنا”.. بكلمات يعتصرها الألم كشف أحمد متولي، صاحب متجر لبيع الأجهزة الكهربائية بشارع عبدالعزيز بوسط القاهرة حجم المعاناة التي يتكبدها منذ تفشي كورونا.
التاجر الذي كان يحقق دخلًا في اليوم يتجاوز 7000 جنيها (450دولار) بات اليوم مهدد بالإفلاس، وفق شهادته لـ “نون بوست” التي أكد فيها أن ما يعانيه هذه الأيام لم يشهده منذ دخوله عالم التجارة قبل 20 عامًا، كاشفًا عن تراجع ملحوظ في عدد الزبائن، وتحول الشارع الذي كان مكتظًا بالمارة ليل نهار إلى جراج للتجار وأصحاب المحال وفقط.
وفي المتجر الملاصق كله، يقف أشرف واضعًا رأسه بين كفيه، تبدوا عليه علامات التعب، وبسؤاله قال “المستوردون يتلاعبون بنا دون رقابة أو محاسبة” وفي التفصيل أشار إلى أن كثير من مستوردي السلع الصينية استغلوا وقف عملية الاستيراد ورفعوا أسعار السلع بصورة جنونية وهو ما دفع التجار أصحاب المحال لرفعها بالتبعية، وهنا يصطدم التاجر بالزبون الذي أحجم بدوره على الشراء خاصة وأن المنتجات قادمة من الصين، وتابع: هناك حالة فوبيا من كل شيء صيني.
الفرصة سانحة أمام المنتج المحلي لفرض سيطرته على السوق بمنأى عن المنتجات الصينية
ويواصل أشرف حديثه لـ”نون بوست”: “كان عندي 6 عمال وكنت أفكر في استقدام آخرين في ظل ضط العمل اليومي، لكن خلال الـ 45 يومًا الأخيرة تراجعت عملية البيع والشراء بصورة ملفتة للنظر، ما دفعني إلى الاستغناء على نصف العمالة التي كانت لدي، ومع ذلك لا استطيع الإيفاء بالمستلزمات اليومية من رواتب ورسوم كهرباء ومياه وإيجارات وخلافه”.
وقد حمًل التجار، رجال الأعمال والمستوردين، مسؤولية الضربة الموجعة التي تلقتها خارطة التجارة في مصر، لافتين إلى أنهم من قاموا برفع الأسعار، مستفيدين من الوضعية الحالية وغلق باب الاستيراد خلال الأجازة الصيفية، مع ترجيح استمرار الغلق لفترات غير محددة.
40% زيادة في الأسعار
“شاشة تليفون جملة كانت بسعر 300 جنية دلوقتي سعرها وصل 550 جنية والريسيفر الصيني سعره كان 150 جنيه ودلوقتي أصحاب التوكيلات والشركات بينزلهولنا بسعر 170”.. بهذه الأرقام كشف عدد من التجار في المراكز التجارية المصرية عن موجة ارتفاع كبيرة في أسعار السلع الصينية بلغت قرابة 40%.
وأضافوا أن غلق باب الاستيراد دفع رجال الأعمال إلى “تعطيش” السوق ومن ثم ارتفعت الأسعار في ظل محدودية المعروض، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على حركة البيع والشراء برمتها، كاشفين أن المخزون الذي يغطي الشارع التجاري المصري قارب على الانتهاء، وفي ظل استمرار غلق كافة النوافذ الاستيرادية مع الصين لابد من البحث عن بديل أيا كان الثمن.
جمال، رجل أعمال مصري متخصص في استيراد الأجهزة الكهربائية من الصين يقول إنه قبل الأجازة السنوية للصين (15 يناير – 15 فبراير) ضاعف من حجم الكمية التي يقوم باستيرادها حتى تكفي الشهر الذي تتوقف فيه حركة الاستيراد، لكن بعد انتهاء تلك المدة، أي في غضون 7 أيام فقط، كيف يكون الحال؟ هكذا تساءل.
الإجازة الصيفية الصينية أسهمت فى تقليل خسائر الأسواق المصرية جراء تفشي الفيروس
وأجاب أن البحث عن بديل بات أمرًا غاية في الأهمية، وإلا سيرتفع سعر السلعة الواحدة أكثر من 300%، لكنه في الوقت نفسه أثار نقطة محورية تتعلق بمدى استفادة المنتج المصري من هذه الأزمة، غير أنه سرعان ما كشف أن هذا المنتج لن يستطيع الصمود في ظل ارتفاع سعره ورداءه مستواه، مقارنة بالسلع المستوردة، وهو ما يعني أن طرق نوافذ الاستيراد -حتى ولو من دولة أخرى غير الصين- سيكون الحل، إذا ما استمر الحال على ماهو عليه.
ويجد الخبير الاقتصادي، خالد الشافعي، أن الفرصة سانحة أمام المنتج المحلي لفرض سيطرته على السوق بمنأى عن المنتجات الصينية، مُشددًا على ضرورة تلبية احتياجات السوق المحلي من المواد الخام من أي دولة أخرى، قبل وصول السوق إلى مرحلة التعطيش الكامل، وتابع: “تلك هي مهمة وزارة التجارة والصناعة في الفترة المقبلة”.
ويعد قطاع الهواتف وقطع الغيار أبرز القطاعات المتأثرة بتفشي كورونا ووقف الاستيراد من الصين، حيث أشار مسؤول بأحد شركات الهواتف الصينية العاملة في مصر أن هناك ارتفاع طفيف في أسعار الهواتف الصينية من جانب التجار وليس الشركات نتيجة خوفهم من نقص الهواتف عقب وقف الشحنات الواردة من الصين.
ويذكر أن حصة الشركات الصينية في سوق الهواتف المحمولة في مصر يبلغ نحو 60% من حجم السوق الذي استقبل حوالي 20.4 مليون وحدة خلال العام الماضي 2019 وفقًا لاحصاءات شركة الأبحاث السوقية GFK.
قلق من القادم
في دراسة أعدها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية لحزب “مستقبل وطن” – الظهير السياسي للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي- حول التداعيات الاقتصادية على مصر جرًاء انتشار فيروس كورونا، كشفت أنه على الرغم من تأكيد الممثل الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية بمِصر اتخاذ مصر جميع الإجراءات الوقائية؛ لمنع تسرب أي أمراض وبائية للبلاد، إلا أن هذا لا ينفي استبعاد مصر في ظل الانفتاح العَالَمي في كافة المجالات من تداعيات الفيروس على مستوى الاقتصادي.
وأوضحت الدراسة عن تأثر عدد من القطاعات بسبب الفيروس واحتمالية مضاعفة هذا التأثير خلال الفترة المقبلة، وجاءت على رأس القطاعات الأكثر تأثيرًا، تراجع السياحة القادمة من شرق آسيا، وتباطؤ نمو الاستثمارات الصينية الوافدة على المدى القصير، وتراجع التبادل التجاري بين مِصر والصين.
وفي سياق آخر، قال عدد كبير من المستوردين بالغرف التجارية المصرية إن الإجازة الصيفية الصينية أسهمت فى تقليل خسائر الأسواق المصرية جراء تفشي الفيروس، لكنهم حذروا من التعاقدات الجديدة التى من المنتظر وصولها خلال الشهر الجاري، فربما تتفاقم حال غلق الموانئ الصينية، بما يؤثر سلبًا على الأسواق، في ظل أن 25% من واردات مصر تأتي من الصين، وأبرزها المواد الخام والسلع الوسطية لواردات الصناعات الهندسية والأجهزة المنزلية والكهربائية، ما يتطلب إيجاد مصدر بديل.
عن حجم واردات مصر من المنتجات الصينية، أكد عضو شعبة المستوردين بالغرفة، أحمد شيحة، أنها تصل إلى نحو 16 مليار دولار خلال 2019
وهناك أزمة كبيرة من المتوقع أن تواجه المستوردين المصريين من تكدس البضائع نتيجة غلق السفارة المصرية وتوقف توثيق وختم الأوراق لشحن البضائع الصينية لمصر يكبدنا خسائر طائلة، وذلك بحسب أسامة جعفر، رئيس شعبة الأدوات المكتبية ولعب الأطفال السابق بغرفة القاهرة.
أما رئيس شعبة الأدوات والأجهزة المنزلية بالغرفة، أشرف هلال، فأوضح أنه: “لا يزال هناك ترقب وحذر من إبرام أي تعاقدات جديدة للمستوردين المصريين من بكين، فهناك 7 أيام لتحديد الأمر وذلك عقب انتهاء إجازة الصينيين، وإذا تم غلق المصانع إلى أجل غير مسمى فإن ذلك سيكون كارثة”.
وواصل هلال تخوفه من تداعيات تفشي كورونا في الصين، ثانى أكبر قوة الدول الاقتصادية فى العالم، ما سيكون له مردود بصورة كبيرة على المدى البعيد، موضحًا أن مصر تستورد من الصين ما بين 25% من مستلزمات الإنتاج والأجهزة الكهربائية والموبايلات والسيارات وقطع غيار للعديد من المنتجات.
وعن حجم واردات مصر من المنتجات الصينية، أكد عضو شعبة المستوردين بالغرفة، أحمد شيحة، أنها تصل إلى نحو 16 مليار دولار خلال 2019، معظمها مواد خام ومنتجات وسيطة، لها تأثير مباشر وقوي على الصناعة والتجارة والزراعة في مصر، منوها أن أكثر السلع التي ستتأثر سلبًا بحركة الواردات من المنتجات الصينية، تضم: “الأحذية، والملابس، وكل أنواع الإلكترونيات، والموبيليا، والسيارات، والأجهزة المنزلية والكهربائية”، موضحًا أن مصر تعتمد بنسبة 100 في المائة على المواد الخام الصينية والوسيطة في تصنيع كافة احتياجاتها.
وفي المجمل تحمل المرحلة القادمة حزمة من التحديات التي تتزايد معها المخاوف من استمرار حالة الخلل التي أصابت الشارع التجاري المصري بسبب انتشار الفيروس، فيما يضع الملايين من العاملين في مجال التجارة في المحروسة أيديهم فوق صدرهم تحسبًا لما تكشف عنه الأيام المقبلة.