ارتكبت فرنسا، طيلة فترة احتلالها لتونس -التي امتدّت لـ 75 سنة- وحتى في السنوات التي تلت استقلال البلاد، جرائم كبرى في حقّ التونسيين، جرائم سياسية واقتصادية وأخرى ضدّ الإنسانية، مازالت مخلفاتها إلى الآن، فهي لم تترك مجالا إلا وانتهكته.
في هذا التقرير الجديد لنون بوست، ضمن ملف “جرائم فرنسا في إفريقيا“، سنتطرّق سويا إلى جرائم هذا البلد الاستعماري في تونس، وكيفية فرض إرادته على هذا البلد العربي طيلة عقود عدّة من الزمن دون أن يعتذر أو حتى يعرف.
طمس الهوية
جرائم فرنسا في تونس بدأت بمحاولات طمس هوية البلاد، حيث عمل المحتلّ الفرنسي منذ البداية على إزالة كل ما يربط التونسيين بهويتهم من خلال عمليات تجنيس ممنهجة، وفرض للغة الفرنسية وإقصاء للعربية، وفرض الديانة النصرانية مقابل التضييق على المسلمين.
ويعود تاريخ أول قانون يسمح للتونسيين بالحصول على الجنسية الفرنسية إلى يوم 29 يوليو/ تمّوز سنة 1887، أي بعد ست سنوات من بداية الاحتلال، ويسهّل هذا القانون على التونسيين الحصول على الجنسية الفرنسية بشروط ميسرة.
جرائم فرنسا في حقّ التونسيين لم تنته مع استقلال تونس، فقد تواصلت إلى ما بعد تاريخ 20 مارس 1956
في 20 ديسمبر/ كانون الأول 1923، أصدرت فرنسا قانونًا جديدًا يخفّف إجراءات الحصول على الجنسية الفرنسية، وقد عارض النقابي الطاهر الحداد هذا القانون، حيث يرى أن فتح أبواب التجنيس يعني على أقل تقدير، أن فرنسا تريد أن يصبح التونسيون فرنسيين ذات يوم.”
أقدمت فرنسا على هذه الخطوات، بهدف طمس هوية التونسيين العربية الإسلامية وإضعاف الحركة الوطنية في مرحلة أولى والسيطرة عليها في مرحلة ثانية، من خلال اجتذاب أفضل العناصر تعليما فيها، وضمها إلى صفوفها لخدمة أهدافها في تونس.
أحداث 9 ابريل 1938
خرج التونسيون يوم 8 ابريل/ نيسان 1938 في مسيرة كبرى، انطلقت من ساحة الحلفاوين بالعاصمة بقيادة أحد أبرز زعماء الحركة الوطنية التونسية المناضل علي البلهوان. في تلك المسيرة قال البلهوان “يا أيها الذين آمنوا بالقضية التونسية، يا أيها الذين آمنوا بالبرلمان التونسي، إن البرلمان التونسي لا ينبني إلا على جماجم العباد، ولا يقام إلا على سواعد الشباب”، إلا أن السلطات الفرنسية قد سارعت إلى اعتقال البلهوان وجلبه للمحكمة للمثول لدى حاكم التحقيق، بهدف الضغط على الحركة الوطنية وإخماد الحراك الشعبي.
قابل التونسيون هذا الفعل بالرفض، وفي اليوم التالي، خرجوا بأعداد غفيرة في شوارع العاصمة للاحتجاج، والمطالبة بالإفراج عن البلهوان وباقي المعتقلين والقيام بإصلاحات سياسية بما في ذلك إنشاء برلمان وطني حر مستقل.
هذه المسيرات، استقبلها المستعمر الفرنسي بموجة قمع شديدة حيث أعلنت حالة الحصار واعتقلت عديد المناضلين، وبلغ عدد الاعتقالات حينها ما بين 2-3 آلاف، وتمّت إحالة المعتقلين على المحاكم العسكرية.
لم يكتف المستعمر الفرنسي بهذا، حيث أطلقت قواته الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين، مما أدى إلى سقوط العشرات من الضحايا بين شهيد وجريح، كما حضرت نشاط الحركة الوطنية ونكّلت بقادة المحتجين.
اغتيالات ممنهجة
عمدت فرنسا أيضًا إلى اغتيال عديد القيادات الوطنية في تونس، أبرزهم فرحات حشاد، مؤسس الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يعتير أحد أبرز زعماء الحركة الوطنية، حيث قاد الحراك النقابي الوطني ضد المستعمر، وعرّف بالقضية التونسية في المنابر الدولية. قامت فرنسا بتصفيته يوم 5 ديسمبر/ كانون الأول عبر منظمة اليد الحمراء.
اغتالت فرنسا أيضا يوم 13 سبتمبر/أيلول 1953، الزعيم الهادي شاكر الذي كان يشغل منصب أمين مال الحزب الحرّ الدستوري، وكان شاكر قد ترأس قبيل اغتياله المؤتمر السري للحزب في يناير/ كانون الثاني 1952 الذي انبثقت منه المقاومة المسلّحة.
إلى جانب ذلك، اغتالت فرنسا الحكيم عبد الرحمان مامي، يوم 13 يوليو/ تموز 1954، و يعتبر “مامي” أحد زعماء الحركة الوطنية، وقد كان أحد أعضاء اللجنة التي كونها الباي في صيف 1952 لدراسة الإصلاحات الفرنسية، والتي رفضتها هذه اللجنة في النهاية لخلوّها من مطالب الاستقلالية والسيادة الوطنية.
أحداث ساقية سيدي يوسف
جرائم فرنسا في حقّ التونسيين لم تنته مع استقلال تونس، فقد تواصلت إلى ما بعد تاريخ 20 مارس/ آذار 1956، ففي يوم 8 فبراير/ شباط 1958 قصف الطيران الفرنسي قرية ساقية سيدي يوسف التونسية الحدودية مع الجزائر، تاركًا أكثر من 70 قتيلًا و100 جريح.
كان يوم سبت، كانت القرية مكتظة فهو اليوم المخصّص للسوق الأسبوعية لها، الجميع محتشد حول المحلات وأصوات الأهالي والباعة مرتفعة، فجأة يسمع صوت رهيب يصمّ الأذان، فيسمع بعده صراخ وعويل، إنه صوت قنابل وقاذفات مصدرها سرب طائرات فرنسية.
استهدف القصف دار المندوبية (المعتمدية) والمدرسة الابتدائية وإدارة البريد وغيرها من المباني الحكومية ومئات المنازل فيما كانت المطاردات تلاحق المدنيين. وقد تواصل القصف باستمرار نحو ساعة من الزمن مما حول القرية إلى خراب.
قصف فرنسي، راح ضحيته عشرات القتلى والجرحى التونسيين والجزائريين، فالقرية كانت تأوي مجموعة من الثوار الجزائريين من جيش التحرير الوطني الذي يقاتل ضدّ المستعمر الفرنسي لنيل استقلال الجزائر.
أراد المستعمر الفرنسي من خلال هذا القصف الدموي، ثني التونسيين عن دعم الجزائريين فقد كانت بلادهم بمثابة قاعدة خلفية لثوار الجزائر، إلا أن اللحمة بين الشعبين زادت أكثر، وتزايد حجم التعاون بينهما حتى تحقّق هدف الجزائريين واستقلت بلادهم.
أحداث بنزرت 1961
سنة 1961، بعد خمس سنوات من الاستقلال، طالبت تونس فرنسا بسحب جنودها من مدينة بنزرت وبدأ الجيش التونسي في التحرك في هذا الاتجاه، لكن باريس قابلت ذلك بإرسال معدات مدرعة و آليات عسكرية وفرق هندسة ميدانية ومدافع بعيدة المدى وبطريات هاون وحاصرت المياه الإقليمية التونسية بالبوارج الحربية وحاملة الطائرات كليمونسو والبارجة الثقيلة جورج ليق والوحدات المظلية المنضوية تحت لواء ليجيون ايترونجار.
لم تكتف فرنسا بعمليات القتل المباشرة والاغتيالات، بل وصلت حدّ الاقتصاد أيضا لضمان تدفّق الخيرات التونسية لها حتى بعد خروجها الرسمي من هناك
قامت القوات الفرنسية بشن هجوم كاسح مستندة على تعزيزات إضافية من الجزائر وتمكنت من احتلال جزء كبير من مدينة بنزرت، وزحفت القوات الفرنسية خارج قاعدتها تدعمها المدرعات وتقدمت يوم 21 يوليو/ تموز نحو المدينة وتحولّت المواجهات بين الجيش الفرنسي والجيش التونسي والمتطوّعين إلى حرب شوارع حقيقية وكثّف الطيران الحربي الفرنسي قصفه للمدينة.
بعد أيام، أصدر مجلس الأمن قرار عدد 164 الذي يقضي بوقف إطلاق النار لترك الفرصة أمام المفاوضات بين الحكومة التونسية والحكومة الفرنسية برعاية دولية. وخلفت هذه المعركة خسائر فادحة في الجانب التونسي، حيث اضطرت بنزرت إلى دفن عدد كبير من الشهداء في مقابر جماعية ليقام لهم فيما بعد نصب تذكاري تخليدًا لذكراهم.
جرائم اقتصادية
لم تكتف فرنسا بعمليات القتل المباشرة والاغتيالات، بل وصلت حدّ الاقتصاد أيضًا لضمان تدفّق الخيرات التونسية لها حتى بعد خروجها الرسمي من هناك، فقد عملت فرنسا على تضمين بنود في اتفاقيات الاستقلال تسمح لها بمواصلة نهب ثروات تونس.
ففي وثيقة الاستقلال الداخلي التي وقّعت في يونيو/حزيران 1955، أعطت فرنسا لنفسها امتيازات مجحفة في استغلال الأراضي التونسية لاستخراج مواد الطاقة ونقلها، دون أن يكون لتونس الحق في تغيير العقود أو مراجعتها رغم أنه كانت هناك بعض المحاولات في السبعينيات من الدولة التونسية لتحسين شروط التفاوض.
وكانت هيئة الحقيقة والكرامة التونسية، قد أوضحت قبل نحو سنة من الآن أن فرنسا واصلت استنزاف ثروات البلاد التونسية حتى بعد الاستقلال بتكوين شركة TRAPSA بمقتضى اتفاقية مع البلاد التونسية سنة 1958، لمد أكثر من 510 كيلومترات من إجمالي 775 كيلومترًا مربعًا من قنوات نقل البترول من “عين أميناس” بالجزائر إلى ميناء الصخيرة بصفاقس.
كشفت الهيئة أن الحكومة التونسية لم تكن طرفًا في النقاش مع الجانب الجزائري بشأن هذه الاتفاقية وهو ما أضر بالدولة التونسية، حيث أوكلت الحكومة التونسية التفاوض مع الجزائر بشأن استغلال الأراضي التونسية إلى الشركة الفرنسية TRAPSA.
ليس هذا فحسب، فقد تولّت الشركة الفرنسية كذلك عملية نقل البترول التونسي المُستخرَج من حقول البُرمة دون أن تناقش الحكومة التونسية عمولات النقل أو المطالبة بالمساهمة في رأس مال الشركة، وفقا لهيئة الحقيقة والكرامة.
إلى الآن تتحكم فرنسا في القرارات الاقتصادية لتونس، وتعلم ما تملكه البلاد أكثر من حكام تونس، فالسفير الفرنسي هناك على علم بكل ما تُنتجه الحقول التونسية ويتدخل في كل القرارات المتعلقة بالاستثمار أو التوسعة.