إدلب، مدينة الزيتون، التي كانت ثاني محافظة في سوريا تخرج بالكامل عن طاعة حكم آل الأسد، بعد محافظة الرقة، حيث أعلنت الفصائل التابعة لقوات المعارضة السورية تحرير مدينة إدلب بالكامل في الـ24 من مارس/آذار 2015، تبعها في الشهور التالية من ذات العام تحرير ما تبقى من المحافظة كاملةً، لتصبح فيما بعد خزانًا بشريًا كبيرًا لكل من رفض العيش تحت حكم آل الأسد في سوريا.
احتضنت إدلب بعد سيطرة قوات المعارضة السورية عليها الكثير من النازحين والمهجرين، فكانت ملاذًا آمنًا لكل من ولّى وجهته قبل الفرار من بطش وظلم النظام الأسدي، وأيضًا كانت لسنوات عديدة الخيار الوحيد لمدن وبلدات أطبق نظام الأسد الحصار والحرب عليها في مختلف مناطق سوريا، وهدد بإحراقها بالكامل أو خروج ما بقي من أهلها منها إلى إدلب، فكان الخروج الحل الوحيد دائمًا.
نشر مكتب التنسيق والدعم التابع لفريق منسقي الاستجابة إحصائية عامة لتعداد السكان الأصليين والمهجرين في عموم محافظة إدلب، وبلغت الإحصاءات العامة للسكان في محافظة إدلب 3.695 مليون نسمة، وبلغ عدد المهجرين وحدهم من مختلف المناطق في سوريا إلى محافظة إدلب 1.2 مليون نسمة، وزاد عدد السكان في المحافظة عن سابقه بعد الحملة التي تعرضت لها مناطق أرياف حماة الشمالية والشرقية، حيث بلغ عدد النازحين الوافدين إلى إدلب وقتها 250 ألف نسمة، ليقارب بذلك عدد سكان المحافظة 4 ملايين نسمة.
رغم كل المزاعم التي تصدرت الأخبار أواخر العام الماضي بشأن إنشاء منطقة منزوعة السلاح في إدلب أو ما قيل عنها منطقة خفض التصعيد، وبحديث الضامنين عنها أيضًا (روسيا وتركيا)، فإن تلك المناطق تعرضت مطلع الشهر الثامن من العام المنصرم لأعنف هجوم منذ تحريرها، تحديدًا مدينة خان شيخون التي سيطرت عليها قوات نظام الأسد المدعومة بسلاح الجو الروسي، وكانت خان شيخون بسقوطها بداية امتدادًا لقوات النظام نحو أرياف إدلب الجنوبية والشرقية.
تعتبر حركة النزوح هذه الأضخم والأكثر مأساوية خلال 9 سنوات من عمر الحرب في سوريا
حملة عسكرية لم تشهدها المناطق في الشمال السوري من قبل، وسط تحليق وقصف مكثف من سلاح الجو الروسي، وهجوم بري واسع من قوات النظام والميليشيات الإيرانية، بدأت الحملة مع بداية الشهر الثامن من العام الفائت، ومستمرة حتى تاريخ اليوم، خسرت المعارضة خلالها معظم مواقعها في ريفي إدلب الشمالي والشرقي، وأبرز تلك المواقع كانت قرى وبلدات خان شيخون وجرجناز ومعرة النعمان، وقد سببت الحملة الأخيرة دمارًا هائلًا، وأفرغت جميع المناطق من أهلها جراء آلة القصف العنيفة، وأحدثت كارثة كبيرة إثر حركة النزوح المتواصلة باتجاه باقي مناطق الداخل المحرر.
منذ اشتداد وتيرة القصف والعمليات العسكرية من ديسمبر نهاية العام الماضي، وبحسب توثيقات المرصد السوري لحقوق الإنسان وفريق منسقي الاستجابة، بلغت أعداد النازحين نحو 800 ألف نازح، وتعتبر حركة النزوح هذه الأضخم والأكثر مأساوية خلال 9 سنوات من عمر الحرب في سوريا، في ظل سيطرة الأسد وحلفائه على أكثر من 113 منطقة في أرياف إدلب الجنوبية والشرقية وريفي حلب الغربي والجنوبي.
آلاف العائلات تركت القرى والمدن هربًا من أسلحة القصف والدمار، وخوفًا من سيطرة النظام الأسدي وحلفائه على المناطق، تاركين وراءهم أملاكهم وأرزاقهم وكل أشيائهم إلى ما لا يعلمون.
النازحون من أرياف إدلب
شهد المدنيون منذ ديسمبر الفائت حالات تخبّط كثيرة وسط أنباء عن تقدم النظام وروسيا على الجبهات بشكل متواصل، وتهاوي القرى والبلدات بوتيرة متسارعة، عاشوا من خلالها حربًا نفسية أجبرتهم على الانتظار بقلق وخوف لمصيرهم ومصير مناطقهم، حيث كانت غالبية المناطق تتعرض للقصف الشديد رغم بُعد الجبهات عنها لعشرات الكيلومترات، ولكن روسيا كانت بطائراتها الحربية تعتمد على إفراغ المناطق من أهلها من خلال قصف كثيف عنيف قبل العمليات البرية لجيش الأسد.
ومع كل ذلك، فقد كان سكان المناطق في أرياف إدلب يرفضون الخروج من مدنهم وترك منازلهم حتى اللحظات الأخيرة التي تسبق وصول القوات البرية لمناطق وجودهم، أو باشتداد وتيرة القصف المتواصل، إذ إنه لا يبقى مكان للحياة في أحياء تتهاوى أبنيتها والمنازل فوق بعضها البعض.
خلال الشهر الفائت شهد أوتستراد إدلب – باب الهوى، وجميع الطرقات الفرعية المحيطة به ازدحامًا شديدًا بسيارات النازحين المحملة بالقليل من ممتلكاتهم مما تيسر لهم أن يأخذوه قبل تغريبتهم، وكان الازدحام في النهار والليل، إذ كانت الأعداد تتوافد هربًا من مناطق القصف والدمار، وكان النازحون بحركتهم يبتعدون دون المعرفة المسبقة عن وجهة يقصدونها، واكتظت جميع المناطق في إدلب وأريافها الشمالية والغربية، وأرياف حلب الشمالية والغربية القريبة منها بأعداد النازحين الكبيرة، وحتى اليوم لم تستطع جميع التجمعات السكنية استيعاب الأعداد الكبيرة من النازحين.
أوتستراد إدلب – باب الهوى
أحدثت العديد من المخيمات الجديدة على طول خطوط الحدود السورية – التركية منذ اندلاع الحملة الأخيرة، وبحسب فرق الإحصاء فقد وثقت 34 منطقة جديدة عند الحدود توافد إليها النازحون، امتدت من مناطق درع الفرات وصولًا إلى شمال غربي سوريا.
لقد أصبح الشمال السوري بقعة جغرافية تكتظ بالمخيمات التي أوى إليها النازحون فرارًا من جحيم الأسد، إذ بلغ عدد المخيمات المنتظمة والعشوائية معًا في الشمال السوري قبل بدء الحملة الأخيرة 1153 مخيمًا متوزعًا في أرياف إدلب وحلب والحدود السورية التركية، وعددها في ازدياد مستمر وسط حركات النزوح المتواصلة جراء الحملة الأخيرة.
أحد المخيمات في الشمال السوري
عجز كبير في الاستجابة للكارثة الإنسانية والمأساة التي تحصل في إدلب، يطال هذا العجز جميع المنظمات الإغاثية والإنسانية، وفواعل المجتمع المدني في المناطق المحررة، لعدم قدرتهم على إيواء واستيعاب الأعداد الكبيرة للنازحين، يذكر الحلّاج مدير مسنقي استجابة سوريا أن المنظمات لم تعد قادرة على التعامل مع هذا الكم الهائل من النازحين، وأضاف أن نسبة الاستجابة الأممية للكارثة الإنسانية في إدلب لا تتجاوز 5% من الاحتياجات العاجلة والمطلوبة.
غياب واضح أيضًا لدور الحكومتين (الإنقاذ في مناطق إدلب، والسورية المؤقتة في درع الفرات وغصن الزيتون)، في وضع خطط لاستيعاب وإيواء النازحين أو تقديم خطوات ومساعي حقيقية لتأمين مسكن لهم، يؤمنهم من برد الشتاء القارص.
يقطن في إدلب المدينة وحدها نحو مليون نسمة، لم يستطيعوا النزوح لأي مكان
مناشدات واستغاثات بالجملة من جميع الهيئات والمؤسسات الإغاثية والإنسانية في الداخل تجاه صمت المجتمع الدولي ولجنة الأمم المتحدة على ما يحصل في إدلب، ولم تتعد استجابة الأمم المتحدة إلى أكثر من إشارة من مكتبها لتنسيق الشؤون الإنسانية بأن الوضع الإنساني في إدلب مستمر بالتدهور نتيجة تصاعد الأعمال القتالية، وفي سياق الحديث عن الدور الأممي يقول مدير منسقي الاستجابة إن الـ(12.1 مليون دولار) التي خصصتها الأمم المتحدة للمساعدة في إيواء النازحين خلال الحملة العسكرية الأخيرة للنظام على أرياف إدلب، لم تصل حتى الآن.
مركز المحافظة مدينة إدلب التي باتت تبعد 7 كيلومترات فقط عن خط الجبهات الأخير التي وصل إليها نظام الأسد من ناحية مدينة سرمين، التي تشهد أيضًا محاولات مستمرة من النظام للسيطرة عليها، يقطن في إدلب المدينة وحدها نحو مليون نسمة، لم يستطيعوا النزوح لأي مكان، يعيشون اليوم وسط مخاوف كبيرة من تقدم النظام باتجاه المدينة، كارثة إنسانية هي الأكبر، وتفاقم للوضع الإنساني في إدلب سيحصل فيما لو استمر النظام في التقدم، واستمرت الطائرات الحربية الروسية بقصفها للمدن وتهجير أهلها منها.
نحو 20 قرية وبلدة وتجمع سكني جنوب حلب تفصل قوات النظام عن إعادة أوتستراد دمشق – حلب الدولي لسيطرتها عليه، وإعادته للعمل، يترافق ذلك مع استطلاع أجرته مجموعة “الرابطة السورية لكرامة المواطن” (SACD)، كشف أن 90.6% من النازحين الذين نزحوا من ريف إدلب خلال الأشهر الأخيرة لا يفكرون في العودة إلى المناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد أو الدخول في اتفاقات مصالحة بموجب ضمانة روسية.
فما الذي ينتظر مليون نسمة يعيشون في مدينة إدلب؟ وما مصير 4 ملايين نسمة تقريبًا يرفضون العيش والحياة تحت حكم الأسد؟