بقي البيت الشيعي العراقي مسيطرًا عليه وتحت المظلة الإيرانية، بعد أن أقامت إيران علاقات وثيقة بعد 2003 مع جميع القوى والتوجهات الشيعية – من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار الشيعي – واستوعبت واقتربت من الزعامات والأحزاب والمراجع ورجال الدين لكي لا يتشكل مع الزمن خصوم سياسيون لها أو تفقد شيئًا من مصالحها بمعارضة إحدى القوى لسياساتها، ناهيك عن توثيق الصلات بجميع التيارات في العراق وبناء النفوذ مع جميع القوى المؤثرة.
تراجع اليمين المتطرف
بقيت الميليشيات وقادتها والشخصيات المصنفة على أقصى اليمين الشيعي المتطرف يتصدرون البيت الشيعي – بدعم من سليماني – من أجل إضعاف الدولة العراقية وتنفيذ المشروع الإيراني ومواجهة العقوبات الأمريكية وتحقيق النجاح في التنافس بين طهران وواشنطن في العراق، لكن بعد اندلاع التظاهرات في الأول من أكتوبر 2019 وخروج تيار شعبي شيعي واسع من المظلة الإيرانية وانفلاتهم من القبضة الميليشياوية والمخدرات الدينية التي لم تعد تقنع الكثيرين من أبناء الفقراء، أصبح من الضروري إعادة ترتيب البيت الشيعي والدفع بمن يصنف على أنه أقصى اليسار والقريب من مطالب الجماهير إلى الواجهة السياسية وتوحيد المواقف وإنهاء الخلافات البينية داخل البيت الشيعي في مرحلة ما بعد اغتيال سليماني، وإعادة ترتيب الأوراق المبعثرة بعد أن كسرت الولايات المتحدة قواعد الاشتباك بجرأة غير متوقعة، إذا شكل اغتيال سليماني صدمة وصفعة للقيادة الإيرانية ونفوذ طهران في العراق وجعلهم في حالة المدافع والمنسحب لتقليل الخسائر وامتصاص الضغوط المتتالية.
الدفع بالصدر إلى واجهة البيت الشيعي
بقي مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري يعرض نفسه كملك دون تاج وكمرجع دون مؤهلات وكمقاوم دون جهاد وكمصلح دون إصلاح، ومرة يعرض نفسه كرجل دولة مثل خامنئي في إيران، كما يعرض نفسه كزعيم مقاومة مثل حسن نصر الله وهو لم يطلق رصاصة على القوات الأمريكية بدافع جهادي، ومرة يعرض نفسه كزعيم الطائفة والمرجعية وهو يفتقد الكثير من المؤهلات.
لكن رغم ذلك كله لم يكن يحظى بمقبولية وثقة ومصداقية الجميع داخل البيت الشيعي، وهناك تنافس يصل أحيانًا إلى الصراع والصدام مع الميليشيات المنافسة التي انشقت عنه ويصفها بالوقحة في كل مناسبة. زار الصدر بعد اغتيال سليماني مدينة قم الإيرانية مع قادة الميليشيات الأقرب إلى إيران – ميليشيا النجباء وعصائب أهل الحق وكتائب سيد الشهداء – للقاء المسؤول الجديد للحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاني، واتفقوا على ما يبدو على قيادة الصدر للبيت الشيعي وإنهاء الخلافات بينه وبين الميليشيات، لتحقيق عدة أهداف شخصية وشيعية أهمها إعادة التوازن للبيت الشيعي وترتيب الأوراق المبعثرة لما يسمى بمحور المقاومة وتوحيده مع تياره الشعبي ضد الوجود الأمريكي – بشكل خاص – والارتماء بجانب المحور الإيراني، ليزيد ذلك رصيده الشعبي ويُحقق ما كان يسعى له طول سنوات بزعامة البيت الشيعي، بالإضافة لوعود بتحصيله مكاسب سياسية في الحكومة الجديدة، مقابل حماية النفوذ الإيراني وقادة الميليشيات من الاستهداف الأمريكي عن طريق الغطاء الشعبي وتصعيب المهمة على خيارات واشنطن العسكرية ضد قادة الميليشيات، وذلك بدمج التيار الشعبي بالميليشيات.
ماذا خسر الصدر؟
إن تقلبات الصدر وتحولات مواقفه وأولويات سياساته من إيران والميليشيات والإصلاح ومحاربة الفساد والوجود الأمريكي، أدت إلى خسائر معنوية كبيرة على مستوى السمعة والمكانة، وهي قطعًا ستؤدي إلى خسائر على المستوى السياسي مستقبلًا، أهمها:
– تراجعت الثقة بينه وبين الجماهير التي كانت تثق في مواقفه.
– أصبحت طروحاته بالإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد محل شك وريبة.
– أصبحت ادعاءاته بالرغبة بحصر السلاح بيد الدولة وضبط الميليشيات محل سخرية من الكثيرين.
– أصبحت النظرة إليه كبديل إيراني من ضمن البدائل المتاحة بعد توحده مع الميليشيات والفاسدين وتقديمة خدمة لإيران في ذلك.
– خسر تأييد العروبيين الذين كانوا يعولون على عدائه مع إيران ورفعه لشعار “إيران برا برا”.
– لم يعد ينظر إليه ككتلة ذات ميول لتحقيق مصلحة عراقية وطنية وكطرف معتدل يمكن التعامل معه.
– خسر المدافعين عنه إعلاميًا، بل هاجمه الكثر من الإعلاميين والصحفيين.
– عزز الانقسام المذهبي بتأييد الميليشيات برغبتها بإخراج القوات الأمريكية فأصبح الراغب بذلك الشيعة فقط ورفض الكرد والسنة.
– حول بوصلة الجماهير من التركيز على محاربة الفساد والميليشيات إلى قضايا الصراعات الإقليمية وإخراج القوات الأمريكية وهي بمثابة طعنة بظهر الثورة.
أخيرًا.. ما خسره الصدر أكبر بكثير مما كسبه، خاصة أن الرأي العام العراقي وزيادة حسه الوطني ووعيه بحقوقه المدنية والسياسية ومتابعته للشأن السياسي وتقلبات المواقف الحزبية، لم يعد أمرًا يمكن تجاهله، فاستغباء الجماهير بتصريح أو تبديل موقف معين سيكون مردوده عكسيًا على الزعيم أو الحزب أو التيار مهما كان قريبًا من الشارع.