بعد هدوء نسبي لم يدم طويلًا عاود الزخم الاحتجاجي الشوارع السودانية مرة أخرى، حيث شهدت العاصمة الخرطوم عددًا من المظاهرات الليلية، وأحرق المتظاهرون إطارات السيارات وأغلقوا شوارع رئيسية ورفعوا لافتات نددوا خلالها بالسياسات القائمة.
التظاهرات التي شهدتها الخرطوم جاءت تحت شعار انعدام الخبز والوقود ووسائل نقل الركاب، ورغم أنها الأولى التي تشهدها العاصمة مؤخرًا لكنها ليست الأولى سودانيًا، حيث شهدت مدن عطبرة (شمال) وكوستي (جنوب) والدمازين (جنوب شرق)، احتجاجات مماثلة منذ 3 أيام.
تتزامن هذه الاحتجاجات مع حالة الاحتقان الشعبي الناجم عن لقاء رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان، ورئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بينامين نتنياهو، في أوغندا قبل أيام، وهو اللقاء الذي أثار حالة من الجدل داخل الوسط السياسي والشعبي السوداني.
أجواء ثورية تخيم على الشارع السوداني بعدما تعززت مخاوف إجهاض النظام الجديد بشقيه، المجلس السيادي والحكومة، لأحلام الملايين ممن أسقطوا نظام عمر البشير في أبريل الماضي، علاوة على حالة الترقب بشأن فرض جنرالات الجيش قبضتهم الكاملة على المشهد الداخلي بما يسقط أبرز شعارات ثورة ديسمبر المتمثلة في إقامة حياة مدنية ديمقراطية.
الخبز والوقود.. الشرارة الأولى
كان النقص الواضح في مستلزمات الحياة الأساسية الشرارة الأولى لإعادة الاحتجاجات مرة أخرى للشارع الخرطومي، فضلًا عن المدن البعيدة، حيث شهدت معظم المناطق السودانية خلال الأسابيع الماضية، ازديادًا في طوابير الخبز والوقود، إذ تعاني البلاد من أزمة حادة في تأمين مادة البنزين، ما أدى إلى تكدس السيارات أمام محطات الوقود.
وبحسب وسائل الإعلام السودانية فإن أزمة الخبز تفاقمت في 18 ولاية سودانية بما فيها العاصمة خلال اليومين الماضيين، وتزايدت طوابير الخبز في العديد من المدن بينما تظاهر الآلاف في مدينتي عطبرة وكوستي احتجاجًا على شح الخبز، هذا في الوقت الذي انتهت فيه المهلة التي حددها وزير التجارة والصناعة، مدني عباس، للقضاء على تلك الأزمة التي انتهت رسميًا مساء أمس الـ8 من فبراير.
تحالف “قوى إعلان الحرية والتغيير”، في بيان له، قال “علم السبت بسداد وزارة المالية لجزء من مستحقات شركات الغلال المتأخرة، وأن الشركات التزمت بالعمل بكامل طاقتها لإنتاج ما يغطي حاجة البلاد يوميًا من الدقيق”، مضيفًا أن وزارة التجارة والصناعة تسلمت نحو 73 ألف جوال دقيق من الشركات، بعدما كان إنتاجها الخميس الماضي 53 ألف جوال، على أن يرتفع إلى 100 ألف جوال بداية من الأحد، مع العلم أن حاجة البلاد الفعلية 80 ألف جوال يوميًا.
التحالف في بيانه أوضح أن “العاصمة وعددًا من المدن شهدت شحًا كبيرًا في الدقيق، نسبة لإضراب إحدى أكبر الشركات عن العمل، فضلًا عن قيام جهات بدفع أموال لبعض الموظفين لتنفيذ الإضراب”، وتابع “بحسب المتابعات شهدت الفترة الماضية صراعًا مكتومًا بين الوزارة وبعض الوكلاء وبعض أصحاب المخابز على خلفية الرقابة المفروضة عليهم من قبل لجان المقاومة بالتنسيق مع الوزارة”.
جدير بالذكر أن السودان يستهلك سنويًا قرابة مليوني طن من القمح بقيمة نحو ملياري دولار، فيما يغطي الإنتاج المحلي بين 12 – 17% من هذه الكمية، وفق وزارة المالية التي تعاني من توفير اعتمادات النقد الأجنبي المطلوبة لاستيراد القمح، بسبب الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد.
ليس الخبز وحده
لم يكن الخبز والوقود وحدهما السبب في اندلاع التظاهرات الاحتجاجية مرة أخرى، حيث جاء لقاء البرهان – نتنياهو المثير للجدل ليلقي هو الآخر بظلاله على المشهد برمته، خاصة بعدما جاءت معظم المواقف السياسية والحزبية رافضة لهذه الخطوة التي اعتبرها البعض ضربًا بالثورة عرض الحائط.
الأصداء الرافضة لهذا اللقاء لم تشمل فقط التيارات الإسلامية والقوى السياسية المعارضة، بل أيضًا تحالف “الحرية والتغيير” الحاكم، وحكومة عبد الله حمدوك، حيث اعتبرت كل تلك المواقف اللقاء تجاوزًا خطيرًا للموقف السوداني التاريخي الداعم للقضية الفلسطينية وتجاوزًا للوثيقة الدستورية التي لا تسمح لرئيس مجلس السيادة بالتغوّل على صلاحيات مجلس الوزراء والتقرير في أمر السياسة الخارجية، خصوصًا في موضوع خلافي متعلق بالتطبيع مع “إسرائيل”، فيما رأت أحزاب أن موضوع التطبيع ينبغي أن يترك لفترة ما بعد الانتخابات العامة ليكون الحسم فيه لحكومة منتخبة من الشعب.
غير أنه ورغم هذا الرفض العام، فإن ترجمته ميدانيًا جاءت مخيبة وفق البعض، إذ نُظّم عدد قليل من التظاهرات والوقفات الاحتجاجية، خصوصًا في الأيام الأولى مباشرة بعد كشفه، وهو برود غير معتاد في تقديرات الكثيرين، أرجعه خبراء إلى عامل المفاجأة والصدمة الناتجة عن اللقاء، سواء تلك التي أصابت المواطن العادي أم الأحزاب السياسية التي كانت آخر ما تتصوره هو إقدام البرهان على تلك الخطوة المخزية.
الاستجابة كانت في بدايتها ضعيفة للغاية، حيث اقتصرت على مئات الأشخاص الذين خرجوا عقب صلاة الجمعة أمس الأول، فيما كانت غالبية المشاركين من أعضاء تيارات إسلامية وجّهت الدعوة مثل تيار “نصرة الشريعة والقانون”، بينما أحجم المواطنون العاديون عن الخروج في المسيرات.
كثير من التساؤلات عن هذا الإحجام الذي لا يتناسب مع حجم الخطوة التي قام بها البرهان، وما يعنيه رد الفعل الباهت بشأن قبول الشارع لمثل هذه التحركات التي تعيد السودان مرة أخرى في قبضة العسكر، إلا أن سياسيين سودانيين يعتبرون أن مسيرات الجمعة بداية لحراك جماهيري شعبي واسع في كل أنحاء البلاد.
يتفق هذا الرأي مع المليونية التي دعت لها كل التيارات الرافضة للتطبيع، اليوم الأحد، التي لن تتراجع عن تصعيدها الجماهيري، إلا بتراجع البرهان عن الخطوة أو استقالته من منصبه، حسب الداعين للتظاهرة الذين أكدوا أن الحراك الجماهيري المتوقع سيكون له أثر كبير على تغيير قناعات الكثيرين وبناء مواقف رسمية ثابتة من القضية الفلسطينية.
آخرون قللوا من فرضية تصدر الإسلاميين للمشهد المناهض للتطبيع في هذه الأيام، وذلك لانشغالهم بالقتال ضد التوجّهات العلمانية لحكومة حمدوك، لا سيما المدافعة عن إلغاء قوانين الشريعة وحدودها التي أجازها مجلس الوزراء في الأيام الماضية وقدّمها للمجلس السيادي لإجازتها النهائية.
العودة للمربع صفر
ما يقرب من ستة أشهر منذ حلفت حكومة حمدوك اليمين الدستورية دون إحداث تغيير حقيقي في خريطة الأزمات التي تواجه السودان وكانت السبب الرئيسي في إشعال الحراك الثوري في 19 من ديسمبر قبل الماضي، حيث وضعت الحكومة وقتها الوضع الاقتصادي على قائمة التحديات التي تواجهها.
وتشير الإحصاءات إلى معاناة السودانيين من أحوال معيشية متدنية بصورة غير مسبوقة، فهناك قرابة 46% من السكان يعانون الفقر، كما أن 13% من السكان (5.7 مليون نسمة) يعانون من العجز عن الحصول على احتياجاتهم الغذائية، هذا بخلاف معدلات البطالة التي يقدر ارتفاعها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي من 12% عام 2011 إلى 20% السنوات الأخيرة، بينما سجلت 27% عام 2018، ورغم جهود تقليل هذا الرقم غير أن النتائج لم تظهر بعد على أرض الواقع.
هذا بخلاف الديون التي تبلغ 54 مليار دولار منها 85% متأخرات، وتضم قائمة دائني السودان مؤسسات متعددة الأطراف بنسبة 15%، ونادي باريس 37% بجانب 36% لأطراف أخرى و14% للقطاع الخاص، وطبقًا لبيانات البنك الدولي – في تقريره المشترك مع وزارة المالية السودانية – فإن المتأخرات المستحقة للمؤسسة الدولية للتنمية بلغت 700 مليون دولار، بينما بلغت المستحقات لصندوق النقد الدولي ملياري دولار، أما نسبة الديون الخارجية بلغت 166% من إجمالي الناتج المحلي مقارنة بالحد البالغ 36%.
وسياسيًا.. أثارت سياسة الإقصاء المتبعة من النظام الحاليّ إلى تصاعد حالة الاحتقان السياسي وتعزيز فكرة الاستقطابات المهنية والقبلية، وهو ما ينعكس على حجم التحديات السياسية والأمنية التي تواجه البلاد في ظل ما تحتاجه هذه الفترة من هدوء وتوافق لعبور تلك المرحلة الحرجة.
وبعيدًا عن الشأن الداخلي جاءت الهرولة نحو التطبيع والتصريحات المثيرة للجدل الصادرة عن البرهان لتبرير لقائه برئيس وزراء الاحتلال التي لاقت سخرية من الكثير في الداخل والخارج، لتسكب زيت الاحتقان على النار المشتعلة في الأساس جراء الفشل في التعاطي مع الملفات الداخية، وهو ما أثار التكهنات بشأن العودة مجددًا للمربع رقم صفر واللجوء للشارع كخيار أخير لتقويم الثورة وإعادتها لمسارها الصحيح.