ترجمة وتحرير: نون بوست
وضع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سياسة الشرق الأوسط في مأزق. لقد أوضح منذ توليه الرئاسة أن هدفه يتلخّص في تقليص الوجود الأمريكي في المنطقة، إلا أن سياساته لم تولد الاستقرار الذي سيجعل من الانسحاب الأمريكي ممكنًا. في المقابل، سعت واشنطن إلى التركيز بشكل أساسي على استبدال صفقة إيران النووية لسنة 2015 بصفقة من شأنها أن تحد من برنامج صواريخ طهران وأنشطتها الإقليمية. ولم يؤدي السعي إلى تحقيق مثل هذا الاتفاق – باعتباره جوهر سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط – إلا إلى زعزعة استقرار المنطقة وتعريض المصالح الأمريكية فيها للخطر.
اعتمد ترامب حملة “الضغط الأقصى” من أجل تقييد الاقتصاد الإيراني وإخضاع قادتها. ولكن بدلاً من الاستسلام، قلّلت إيران من التزامها بالصفقة النووية لسنة 2015، وأسقطت طائرة أميركية دون طيار، وتجرّأت على قصف الناقلات والمنشآت النفطية في الخليج العربي، وهاجمت المصالح الأمريكية في العراق. في المقابل، ردّت الولايات المتحدة من خلال هجوم أسفر عن مقتل الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، في الثالث من كانون الثاني/ يناير. ونتيجة لذلك، اندلعت أزمة بين الطرفين، وذلك دليل على أن ترامب أخطأ التقدير حين تصوّر أن الضغط الأقصى سوف يكون سهلاً وبلا عواقب. تملك إيران القدرة على ردع الهجمات التي تهدد مصالحها، مما يعني أن سياسة ترامب تخاطر باندلاع حرب الولايات المتحدة في غنى عنها.
مثّل احتواء إيران محور اهتمام نهج واشنطن لتحقيق الأمن في منطقة الشرق الأوسط. لكن هذا الهدف في الوقت الراهن لم يعد منطقيا ولا مستداما. بعبارة أخرى، يتعارض هذا الهدف مع أولويات الولايات المتحدة الأخرى على غرار التنافس مع الصين وروسيا، إلى جانب أنها فشلت في تحقيق الاستقرار الدائم في المنطقة. لا يمكن أن تعتمد استراتيجية الاحتواء على الدعم المحلي الراسخ، حيث دفع الاضطراب الجماهيري إزاء الالتزامات غير المحددة في الشرق الأوسط ترامب مرة أخرى إلى التعهّد بوضع حد لها. لذلك، يتعيّن على الولايات المتحدة إعادة النظر في نهجها في التعامل مع الشرق الأوسط. وبدلاً من محاولة احتواء إيران، ينبغي على واشنطن الاستثمار في صياغة نظام إقليمي من شأنه أن يحدّ من التوترات ويشجّع الاستقرار.
جيرة مشتركة
حتى لو نجحت إدارة ترامب في إبرام صفقة نووية جديدة مع إيران، فإنه من المفترض أن تكون المنطقة أكثر استقرارا لضمان نجاحها. من المرجّح أن يعتبر ترامب الصفقة النووية بمثابة اتفاقية للحد من الأسلحة. وعلى هذا الأساس، قد تكون الصفقة قادرة على معالجة أحد الشواغل الدولية الرئيسية، لكنها في نهاية المطاف لا يمكن أن تحل القضايا الأمنية الأوسع نطاقا في الشرق الأوسط أو حتى تغيير حسابات إيران الاستراتيجية.
في الوقت الراهن، يشهد الشرق الأوسط حربا تتورط فيها كل من إيران وإسرائيل والمملكة العربية السعودية وتركيا وجميع حلفائهم، لن تنتصر فيها أي جهة. وفي الواقع، يتنامى الصراع من أجل السيادة بشكل أكثر حدّة، مما يؤجج سباق التسلح الخطير في كل شيء بدءا من الأسلحة التقليدية والصواريخ والميليشيات وصولا إلى الجيوش السيبرانية والأسلحة التكنولوجية المتقدمة. لن تُنهي الصفقة النووية الجديدة وحدها هذه المنافسة، أو تضع المنطقة على مسار مختلف، أو حتى تغيّر مفهوم إيران لأمنها. ولكن من خلال إزالة تهديد واحد حاسم من الساحة والتعامل بشكل دبلوماسي مع إيران، يمكن أن يسمح الاتفاق للولايات المتحدة بتقليص وجودها في المنطقة. يزيد هذا الاحتمال من أهمية قيام نظام إقليمي.
يشهد مجلس التعاون الخليجي، الذي تقوده المملكة العربية السعودية باعتباره حصنا إقليميا ضد إيران، انقساما بشأن نظرته إلى أمن المنطقة.
انطلقت السياسة الأمريكية منذ فترة طويلة من فرضية مفادها أنه من أجل التصدي للتصعيد الخطير في المنطقة الذي من شأنه أن يتسبب في انعدام الأمن، يتعيّن على الولايات المتحدة التصدي لسلوك إيران المزعزع للاستقرار. في المقابل، تعدّ إيران قوة رجعية، حيث ترى أن النظام الإقليمي الحالي يستبعدها، ما يدفعها إلى توجيه طاقاتها إلى تحدي هذا الاستبعاد. ولن يتغير سلوكها إلا إذا وجدت مكانًا في هذا النظام، الذي يبدأ باعتراف الجهات الخارجية بأن إيران – على غرار إسرائيل والمملكة العربية السعودية وتركيا – لديها مصالح مشروعة في التطورات الجارية في العالم العربي.
يُذكر أن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما أخبر النقاد العرب للصفقة النووية لسنة 2015 بأنه يتعين على إيران والمملكة العربية السعودية “إيجاد طريقة فعالة لتقاسم الجيرة وإقامة نوع من السلام البارد”. في ذلك الوقت، رفض الزعماء العرب مشورة أوباما، لكنهم في الوقت الراهن غير مدركين لعواقب ما يحدث.
سيكون من الصعب بناء نظام إقليمي جديد. وفي حين يؤدي انعدام الثقة إلى تباعد إيران عن جيرانها العرب، يرزح الشرق الأوسط في هذه اللحظة تحت ضغوط من شأنها أن تدفع الأطراف الفاعلة فيه الى أخذ هذا الاحتمال بعين الاعتبار: خاصة أن الالتزام الطويل للولايات المتحدة تجاه المنطقة أصبح موضع شك، وتصاعد التوترات بين إيران والولايات المتحدة وتحولها إلى مواجهة مباشرة، ناهيك عن التهديدات التي تلوح في الأفق.
بدلاً من تعزيز كتلة عربية، يتعين على الولايات المتحدة أن تتبنى تعريفاً للشرق الأوسط لا يستبعد إيران وتركيا
تعارض المملكة العربية السعودية، المنافس الرئيسي لإيران، انضمام منافستها إلى نظام إقليمي. ولطالما أصرت الرياض على أن إيران ليست لها مصلحة مشروعة وبالتالي ليست لها مصلحة في الشرق الأوسط العربي. وتُشارك إيران تركيا نفس وجهة النظر، حيث ترفض هذا الاستبعاد. وفي الوقت الحالي، إن التصدعات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط والتي تصور نظرة السعودية للعالم، تتناقض مع افتراضات المملكة.
يشهد مجلس التعاون الخليجي، الذي تقوده المملكة العربية السعودية باعتباره حصنا إقليميا ضد إيران، انقساما بشأن نظرته إلى أمن المنطقة. وتحت الوصاية السعودية، فرضت العديد من دول الشرق الأوسط حصارًا على قطر منذ سنة 2017 ويرجع ذلك جزئيا الى تقارب الدوحة من طهران. ونتيجة لذلك، ترى قطر إيران قوة موازنة ضرورية ضد المملكة العربية السعودية وتركيا.
تتشارك الكويت وعمان نفس المخاوف مع قطر فيما يتعلق بالدور الذي تلعبه المملكة العربية السعودية في المنطقة، لذلك تدعو في الوقت الراهن إلى التعامل مع إيران لوضع حد للهيمنة السعودية. بناء على ذلك، ستواجه الولايات المتحدة الأمريكية مشكلة في توحيد مجلس التعاون الخليجي ضد إيران، ناهيك عن توسيعه ليصبح “الحلف العربي” بإضافة مصر والأردن، وذلك حسب ما ذكرت واشنطن أنها تعتزم القيام به. وبدلاً من تعزيز كتلة عربية، يتعين على الولايات المتحدة أن تتبنى تعريفاً للشرق الأوسط لا يستبعد إيران وتركيا.
الوسطاء جاهزون
ترى إيران فرصة في الخلاف العربي. وبعد أن كشفت عن حدود التزام الولايات المتحدة بالشرق الأوسط وأظهرت قدرتها على زعزعة استقرار المنطقة، تقدم طهران حاليا مبادرة دبلوماسية للحد من التوترات من خلال اتخاذ إجراءات أمنية جماعية. وقد اقترحت إيران على الأمم المتحدة أن تضطلع بدور قيادي مستخدمة قرار مجلس الأمن الذي شهد نهاية الحرب بين إيران والعراق كإطار عمل، والعمل مع الحكومات الإقليمية لوضع خطة توافق عليها جميع الأطراف.
يعمل الرئيس الإيراني حسن روحاني على مثل هذه المبادرات منذ عدة أشهر. وفي شهر أيلول/ سبتمبر، أعلن عن خطة باسم “مبادرة هرمز للسلام” كخطوة أولى نحو الأمن الجماعي للخليج العربي. كما وجّه رسائل رسمية الى زعماء دول الخليج داعيا إياهم إلى دعم المبادرة. واقترح أيضا اتفاقيات عدم الاعتداء على ممالك الخليج وأعطى للحوثيين في اليمن الضوء الأخضر لإجراء محادثات سلمية مع المملكة العربية السعودية.
يرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فرصة مماثلة لتشكيل الهيكل الأمني في الشرق الأوسط. وفي إطار حرصه على توسيع بصمة روسيا في الشرق الأوسط وملء الفراغ الدبلوماسي الذي خلفته الولايات المتحدة، عرض بوتين التوسط في محادثات إقليمية تبلغ ذروتها بالتوصل إلى اتفاق أمني. ومن جهتها، تشارك إيران بالفعل في مثل هذه الترتيبات التي تقودها روسيا في القوقاز وآسيا الوسطى. وباعتبارها القوة الخارجية الوحيدة التي لها علاقات ودية مع جميع دول الخليج، يمكن لروسيا أن تكون وسيطا دبلوماسيا بين إيران وجيرانها العرب، لتضفي بذلك الطابع المؤسسي على دور روسيا في المنطقة – وهو ما يطمح بوتين إلى فعله منذ فترة طويلة.
لقاء حسن روحاني والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سوتشي، روسيا في شباط/ فبراير 2019.
اتخذت الجهات الفاعلة الإقليمية خطوات مؤقتة من تلقاء نفسها تهدف إلى بناء الثقة وحل النزاعات. وقد بدأ نقاش كبار المسؤولين الأمنيين الإماراتيين والإيرانيين الصيف الماضي بهدف الحد من التوترات. وتتوسط الكويت بين قطر والمملكة العربية السعودية، بينما تسهل سلطة عُمان المفاوضات بين المملكة العربية السعودية والحوثيين. ولئن كانت هذه الخطوات متواضعة، إلا أنها تمثل تقدمًا مقارنةً بالسنة المنقضية، عندما لم تكن هناك جهود دبلوماسية إقليمية لحل أي من هذه النزاعات.
لا يزال الترتيب الأمني الإقليمي للشرق الأوسط بعيد المنال. ولكن على المدى القصير، حتى قبل أن تبدأ المفاوضات للتوصل إلى مثل هذا الاتفاق بشكل جدي، فإنه من الممكن أن تستفيد المنطقة كثيرا من تدابير بناء الثقة والمحادثات، سواء كانت رسمية أو غير رسمية، ثنائية أو متعددة الأطراف.
كأساس للأمن الجماعي، من غير المرجح أن تتحد دول الشرق الأوسط لتواجه مثل هذا التهديد. في المقابل، يمكنها الاتفاق على بعض المبادئ. والمبدأ الذي ينبغي البدء به، بناء على مقترح من أمير الكويت، هو ضمان دول المنطقة أن لا تعتدي أو تتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى. وترى كل حكومة إقليمية أن العدوان الخارجي والتدخل السياسي يشكلان تهديدًا للأمن القومي – حتى إيران، التي اتهمت الجهات الخارجية الفاعلة بإثارة الاحتجاجات التي هزت البلاد في الفترة الأخيرة.
من خلال الاتفاق على المبادئ المشتركة، يمكن لحكومات المنطقة أن تتجه نحو إبرام اتفاقيات تعنى بمسائل ذات أهمية مشتركة على غرار إدارة الأزمات البيئية والتعاون الاقتصادي والعلاقات بين الأفراد والأمن البحري والطاقي. ومن خلال الاتفاقيات الثنائية ومتعددة الأطراف، تستطيع دول المنطقة أن تضع السبل لحل النزاعات وتحديد الحدود التي يجب أن تلتزم بها جميع الدول باسم الأمن الجماعي، وإنشاء مؤسسات تضع هذه الآليات الجديدة قيد التنفيذ.
سابقة أوروبية
قد تكون واشنطن متشككة، لسبب ما، في آفاق الأمن الجماعي في الشرق الأوسط. ولكن لا ينبغي لها أن تقف في طريق هذا الطموح. بدلاً من ذلك، مع تصاعد التوترات وتراجع التزام الولايات المتحدة، ينبغي على واشنطن أن تشجع المنطقة على التصرف مثل نظيراتها في أماكن أخرى من العالم والعمل على تحسين الأمن الإقليمي بمفردها.
بدلاً من السعي إلى تأييد أي نتيجة محددة، يجب على الولايات المتحدة أن تدرك فوائد هذه العملية. ومن المؤكد أن الولايات المتحدة سترحب بمعاهدات عدم الاعتداء ووعود عدم التدخل بين إيران وجيرانها. وإذا كان على إيران الوفاء بمثل هذه الالتزامات، فإن العبء الأمني الذي تتحمله الولايات المتحدة في المنطقة لن يختفي فقط، وإنما سيخف.
في الواقع، تعد قدرة إيران وجيرانها على الوصول إلى مثل هذه الاتفاقيات واحترامها أمرا لا يمكن إدراكه. ففي سنة 1995، توصلت إيران والمملكة العربية السعودية إلى اتفاق أمني ثنائي يغطي التعاون الاقتصادي والأمن الإقليمي، من ضمن قضايا أخرى. تبعا لذلك، ساهمت تلك الاتفاقية في تحسين أمن الخليج العربي لمدة عشر سنوات.
أصبحت المؤسسة الأمنية الأوروبية متكاملة. ولا يستطيع الشرق الأوسط إلا أن يستفيد من تجربة عملية مماثلة.
في سنة 2015، وقّعت إيران على الاتفاق النووي مع ست قوى عالمية. وحذر الكثيرون في مؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن من أن إيران لن تمتثل لشروطها. في المقابل، التزمت إيران بالاتفاقية، لكن في سنة 2019، وبعد سنتين من انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق بشكل أحادي، بدأت إيران في التراجع عن الامتثال لهذا الالتزام.
إذا أحرزت بلدان الخليج العربي تقدمًا نحو أمنها الجماعي، فلا ينبغي للولايات المتحدة أن تنظر إلى تلك التحسينات على أنها مجرد عذر للانسحاب من المنطقة. على النقيض من ذلك، ستتطلب المنطقة الأكثر استقرارًا تدخلا أقل من الولايات المتحدة، مما يضمن استدامة التزامها. كما يتعين على الولايات المتحدة أن تستمر في دعم أمن حلفائها، وبالتالي الحفاظ على توازن القوى في المنطقة وبناء ثقة الجهات الفاعلة سعيا إلى متابعة ترتيبات الأمن الإقليمي.
لا يحتاج قادة الولايات المتحدة إلى أن ينظروا إلى ما هو أبعد من منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، التي تعد خير مثال ناجح لمثل هذه العملية. لقد بدأت هذه المنظمة باتصالات منخفضة المستوى وتدابير لبناء الثقة بين الدول الأوروبية للحد من اتساع الفجوة الأيديولوجية. بمرور الوقت، تطورت هذه الجهود المتواضعة إلى مفاوضات ثنائية ومتعددة الأطراف، ثم أبرمت اتفاقيات واسعة النطاق تتعلق بقضايا منفصلة، بعد ذلك أصبحت المؤسسة الأمنية الأوروبية متكاملة. ولا يستطيع الشرق الأوسط إلا أن يستفيد من تجربة عملية مماثلة.
في الحقيقة، لقد فهم أوباما أنه إذا رغبت الولايات المتحدة في تقليل جهودها في الشرق الأوسط، فسيتعين عليها تشجيع الجهات الفاعلة الإقليمية على التعاون والاستثمار في الأمن المشترك. والآن، لا أحد يستطيع أن ينكر حكمة هذه الرؤية. سيكون من الأفضل أن يدرك صناع السياسات الحاجة إلى مثل هذا الجهد ودعمه. أما البديل سيتسبب في المزيد من الفوضى وتعميق الحرب التي لا تنتهي.
المصدر: فورين أفيرز